Ahmed
Ahmed
أعمدة

نوافذ: أن تكون غنيا .. وفقط !

25 فبراير 2020
25 فبراير 2020

أحمـد بن سـالم الفـلاحي -

[email protected] -

نادرا؛ عندما ألتقي بشخص لأول مرة، وقد عرف أنني تركت الوظيفة المنتظمة في الحكومة؛ أن لا يسألني عن المشروع الخاص الذي استبدلته بالوظيفة، أو في الطريق إليه، هذا بخلاف علامة الاستفهام الكبيرة عن سبب ترك الوظيفة «التقاعد» ولم أصل بعد السن القانوني (60) عاما للتقاعد، مذكرين إياي بأن هناك من الموظفين الذي يلتمسون برسالات استثناء للبقاء أكثر في وظائفهم بعد إكمالهم السن التقاعدي، هذا بخلاف ما هو شائع أن كثيرا من المتقاعدين، يبحثون عن وظائف أخرى ليكملوا بها مسيرة حياتهم حتى آخر نفس؛ حيث الموت؛ الحقيقة الصادمة، أو مداهمتهم بأمراض مزمنة، بحيث يصبحون عندها؛ لا خيار لهم إلا البقاء في منازلهم التي افتقدهم أجمل السنوات من أعمارهم، فلا يدرون عنها شيئا، أكثر من مساء يعيدهم إليها، وصباحا يطردهم منها، لا يدرون حتى عن أودلاهم الذين كبروا، وتزوجوا واستقلوا بحياتهم، وداهمهم المشيب أيضا، فابيضت شعورهم، ولا حتى عن زوجاتهم اللواتي داهمهن العجز، وأصبحن يتكئن على عكاز، ويداومن في المراكز الصحية بحثا عن صحة هاربة.

ولما كل هذا الشقاء، وهذا الحرص عن الحياة، والحياة في ذاتها عبارة عن قناعة بسيطة غير معقدة، إنه الهاجس المتسرطن في النفوس للبحث عن الزيادة في المال، وعن الغنى، وعن البقاء السرمدي، وعن الشح على النفس عن أن تأخذ قسطا آمنا للبقاء على قيد الحياة بلا منغصات.

في الأعمار الصغيرة؛ حيث الأحلام والطموحات، والآمال، والبحث عن التحقق، والتمكين، كل المبررات مشروعة لهذا النزيف اليومي للجهد، والسهر، والمغالبة على شعور التقوقع، والتراجع، ولكن للعمر استحقاقات أخرى أكثر من أنها مادية وفقط، ولذلك فالذين يصلون إلى عمر متقدم، وهم أصحاب سلطة في أي نوع منها، كم يشعرون بآلام التفريط لكثير من معززات حياتهم، ولا يجدون في كل ما يملكون في تلك اللحظات أي معنى للحياة، ويدركون أن كل ما قاموا به، وما أخذوه بحق وبغير حق، وما ناصبوا عليه الآخرين العداء والحسد، وربما المواجهة والصدام، كل ذلك يبدو في تلك اللحظات أمر تافه لا قيمة له، وكم يتحسرون على أنهم لم يعيشوا حياتهم الحقيقية التي يفتقدونها في هذا العمر المتأخر، ويدركون حينها، وهم الساكنون في المنازل الممتدة بآلاف المترات، لا فرق بينهم وبين من يسكن بأقل من الألف من المترات، وأنهم يركبون سيارات بعشرات الآلاف، لا فرق بينهم وبين من يركب سيارات بنصف الألف، وقس على ذلك أمثلة كثيرة.

إنه مارد المال الذي يكون في كثير من الأحيان مخيفا، ومقززا، كما هو التشويه الذي تضيفه لمسات برامج الـ «فوتشوب» على الوجوه لا أكثر ولا أقل، وكل البهرجة التي تبدو من أثر المال، ما هي إلا ضحكة صفراء ليس لها أية قيمة للحياة الحقيقية التي يعيشها الإنسان بينه وبين نفسه، والمشكلة هنا عندما يمثل المال؛ أكثر؛ غاية لدى صاحبه، سواء في الحصول عليه، أو اكتنازه، أو حتى إنفاقه، ومن فرط هذه الغاية وتشبثها بالنفوس، حتى عندما يأتي الدين ليخفف من عليائها بفريضة الزكاة؛ أو الصدقة، تتصادم هذه المهدئات مع الغاية، وتواجه بالكثير من الرفض، والعنت، والتقليل من قيمتها المعنوية.

« أن تكون غنيا .. وفقط!» هي من الفطرة، وفقط، ولكن هذه الفطرة إن لم تروض للسير على الطريق الذي لا يستطيع المال أن يفقد النفس إنسانيتها، فإنها تصبح وبالا على صاحبها، ومتى فقد الإنسان إنسانيته، فلن تكتب له الجدارة للعيش السوي، والاطمئنان والرضا، ومواجهة الأسئلة القاسية مع آخر العمر، والأسئلة الأقسى عند البحث عن الإجابة عن «وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه».