Untitled-2666
Untitled-2666
المنوعات

مرفأ قراءة.. تأصيل «نقد النقد» في الثقافة العربية

22 فبراير 2020
22 فبراير 2020

إيهاب الملاح -

-1-

صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب قبل قرابة العشرين عاما (صدر بعنوان «قراءات في النقد الأدبي» وهو عنوان غير دقيق لأسباب سترد تاليا، وبناء على طلب مؤلفه تم سحب النسخ التي طرحت لتغيير الغلاف ليصدر بالعنوان الدقيق الصحيح «قراءة النقد الأدبي»).حينما صدر الكتاب عام 2002 ضمن مشروع مكتبة الأسرة المصرية كان أول كتاب منهجي أقرأه بكامله في مجال «نقد النقد» الذي لم أكن أعرف عنه شيئا ولا أعرف بالدقة طبيعة موضوعه وأدواته، فضلا على نماذج تطبيقية يمكن الوقوف إزاءها واستيعاب رؤيتها وفضائها المعرفي.

كنت قرأت مقالات متفرقة في الصحف والدوريات العربية تقدم إشارات ولمحات على استحياء فهمتُ منها أن «نقد النقد» في مفهومه العام هو نشاط معرفي فائق يتطلب تدريبا عاليا في النقد الأدبي في اشتباكاته والتباساته المعرفية بحقول وعلوم أخرى؛ مثل علوم اللغة والألسنيات، والهرمنيوطيقا (علم التأويل)، والسيميوطيقا (علم العلامات)، والفلسفة، والتاريخ، وعلم اجتماع المعرفة والثقافة.. إلخ.

لكن كتاب جابر عصفور كان أول كتاب متكامل يقدم دراسة تأصيلية نظريا وتطبيقيا لموضوع نقد النقد في الثقافة العربية.

اشتمل الكتاب في صورته الأولى، فضلا على المدخل النظري المفصل، على أربع دراسات أتصور أنها من أهم ما كتب في «نقد النقد» باللغة العربية؛ وهي:

«الخيال المتعقل‮ : ‬قراءة في نقد الإحياء»، وهي الدراسة التي سينبني عليها، نظريا ومنهجيا، جلّ الدراسات التي تبحث عن الماهية والأداة في دراسة الشعر، والمفاهيم التأسيسية التي تستخلص ملامح النظرية التراثية للخيال، ثم محاولات توسيعها، بدراسةٍ تحليلية لكل من الخيال والحقيقة، والخيال والشكل.

‮أما الدراسة الثانية «الخيال المحلِّق‮: ‬قراءة في كتابات الشابي»؛ فأظنها الدراسة الأولى من نوعها في مجال «نقد النقد» لبحث التجليات الشعرية، والمفهوم الحديث للخيال، وعلاقته بالتراث القديم، وإعادة قراءته، في نقد وشعر أبي القاسم الشابي.

وجاءت الدراسة الثالثة عن «محمد مندور ناقدًا للشعر»، وهي في نظري أهم ما كتب عن الناقد الكبير، بتجلية مفهوم الشعر لديه، وتتبع منهجه النقدي في بزوغه الأول «النقد المنهجي عند العرب»، ثم في تشكلاته التالية عبر دراساته التحليلية الرائدة في «مفهوم الشعر»، و«في الميزان الجديد»، و«في الشعر المصري بعد شوقي»، ثم محاولة تعديل المفهوم والمنهج في مرحلة متطورة من نقد مندور.

ثم تأتي الدراسة الرابعة والأخيرة بعنوان «نقاد نجيب محفوظ»؛ وهي الدراسة التي لفتت الأنظار بشدة لقراءة جابر عصفور اللافتة والمتميزة لمدونة نقاد أديبنا الأكبر، وعميد الرواية العربية، نجيب محفوظ.

-2-

بعد ما يقرب من عشرين عاما؛ ستصدر طبعة جديدة من هذا الكتاب التأسيسي؛ في هذه الطبعة المنقحة المزيدة؛ ثلاث دراسات تنشر في الكتاب لأول مرة بجوار مثيلاتها، ضمن الإطار العام لنقد النقد؛ وهي:

«النظرية الإقليمية في الأدب ونقيضها: من أمين الخولي إلى عبد العزيز الأهواني»، و«فلسفة وفن... قراءة في نقد زكي نجيب محمود»، و«شكري عياد: الريادة في النقد الثقافي».

بدأ اهتمام الناقد والأكاديمي البارز جابر عصفور بما نسميه «نقد النقد»، أو دراسة النظريات النقدية، وهي في حالة الفعل أو الممارسة التطبيقية، مبكرًا جدًا، يقول «أذكر أن اهتمامي المبكر بهذا الجانب في تفاعله مع مجالات الهرمنيوطيقا أو دراسات التأويل أو التفسير، قد دفعني أن أتوقف عند نقاد نجيب محفوظ في مطالع الثمانينات في القرن الماضي».

ظهرت تجليات هذا الاهتمام في دراسة رائدة نشرها في العدد الثالث من المجلد الأول من مجلة «فصول» النقدية عام 1981؛ هي «نقاد نجيب محفوظ»، ومثلما كانت «الصورة الفنية» دراسة تأسيسية وملهمة لجيلٍ بل أجيال كاملة من الدارسين والباحثين، كان لهذه الدراسة (أي نقاد نجيب محفوظ) التي ترجمت إلى الإنجليزية تأثيرها الرائد بدورها، وألهمت باحثين ودارسين في أنحاء متفرقة من العالم العربي لإنجاز أطروحاتهم في مجال «نقد النقد» بتنويعات مختلفة ورؤى متباينة، ومداخل منهجية متعددة.

-3-

تلقى جابر عصفور تدريبه المعرفي الأساسي في النقد الأدبي على أن يكون ناقدَ شعرٍ بالدرجة الأولى؛ فكانت أطروحتاه للماجستير ثم الدكتوراه عن «الصورة الشعرية»؛ بوصفها الخاصية النوعية الأولى الدالة على وجود القصيدة من ناحية، والفارق الحاسم بين الشعر والنظم التعليمي من ناحية ثانية. وما إن انتهى من أطروحة الدكتوراه حتى وجد «نظرية الشعر» قديمًا وحديثًا تجذبه إلى «النظرية الأدبية» بوجه عام، وكانت النتيجة، كما يقول، «انني اتسعتُ بدائرة اهتمامي من النقد التطبيقي للشعر إلى التنظير له وللأدب بعامة».

ومن هنا جاء تركيز جابر عصفور على الخصائص النوعية للأدب، وذلك من الدائرة التي تتسع لسؤالي الماهية والكيفية في مجال البحث عن ماهية الأدب ووظيفته وأدواته، وقد قاده ذلك إلى النظرية النقدية ودروبها، وهو المجال الذي «تجد نفسك غارقًا فيه بمجرد أن تسأل عن ماهية النقد ووظائفه وأدواته»، بعبارته.

وكانت هذه الأسئلة هي التي ستقوده في النهاية إلى مجال «النقد الشارح» أو «نقد النقد»، الذي سيصير جابر عصفور أهم وأبرز أعلامه ومنتجي خطابه، في النقد العربي المعاصر كله، حيث ستتجلى أسئلة «المنهجية» بوصفها حجر الزاوية التي تنطلق منه الدراسات الأدبية وتعود إليه، وذلك على نحو يمايز بين نقد ونقد أو درس أدبي ودرس أدبي مغاير في التميز والأصالة والعمق.

-4-

عبر دراسات الكتاب الرصينة العميقة؛ ستتجلى قدرة جابر عصفور التحليلية البارعة؛ والمهارة الذهنية في إقامة نماذج تفسيرية عقلانية متماسكة للمقولات النظرية المختلفة، والخطابات النقدية التي تناولها بالقراءة والتحليل، ووضعها تحت مجهر الفحص النقدي الدقيق.

لا يكتفي جابر عصفور بتوصيف الخطابات النقدية القديمة والحديثة على السواء؛ بل إنه يسلط مبضع الجراح الماهر لما هو أبعد من السطح؛ يحفر في العمق يكشف المنطلقات والمقولات النظرية القارة خلف التطبيق النصي؛ يكتشف الماهية ويبحث عن الوظيفة ويستخرج الأداة النقدية؛ سواء كان ذلك في مجمل الخطابات النقدية التي دارت حول مبدع بذاته (نقاد نجيب محفوظ؛ مثلًا) أو مجمل ما أنتجه ناقد جماهيري بارع (مفهوم الشعر وقراءة التراث النقدي عند محمد مندور)، أو مراجعة وفحص التأصيل النظري والتطبيقي لناقد ومبدع معاصر (شكري عياد وريادة النقد الثقافي)، ومن قبله الكشف عن تأثيرات وتجليات مدرسة نقدية بارزة مثل مدرسة «النقد الجديد» لدى واحد من أبرز ممثلي هذا النقد في الثقافة العربية (نقد زكي نجيب محفوظ في فلسفة وفن).

وسيقدم عصفور واحدة من أهم القراءات (إن لم تكن الأهم) للجذور المعرفية والفلسفية لمدرسة (الإحياء) التي قامت على التواصل مع العناصر الموجبة في تراثنا العربي القديم فترات الازدهار والابتكار ليستجلي منها الأصول والمبادئ التي كانت تحكمها وتحكم استدعاءات النصية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

-5-

لعل هذا الكتاب يمثل حلقةٌ رئيسية من سلسلةِ مشروع ممتد، مارسه عصفور لسنوات طويلة، ولا يزال يمارسه‮ ‬في جوانبه المتنوعة، مُلِحًّا على الأبعاد التي تكشف عن همّ‮ ‬مؤرِّق على مستويات التنظير التي لا تنفصل عن المستويات الموازية للتطبيق، وهو همّ‮ «‬التأصيل» الذي‮ ‬يبدأ من النقطة التي انتهى إليها الناقد الراحل محمد مندور، عندما قال إن «الفهم تملّك للمفهوم»، ويمضي بعدها إلى الدور التنويري الذي لا‮ ‬ينفصل عن موقف عقلي لا يعرف المطلقات في مجاله النوعي، ولا‮ ‬يكف عن وضع كل شيء موضع المساءلة، بحثًا عن أفق أكثر وعدًا، وكلام نقدي أكثر فاعلية، وفعل قراءة أكثر جذرية.