1438388
1438388
إشراقات

مكانة عمان عند الخليفة الراشد أبي بكر الصديق

20 فبراير 2020
20 فبراير 2020

مكانة الصديق -

حمود بن عامر الصوافي -

مكانة لم يخترها وحده أو حرص على الوصول إليها، أو نافس غيره؛ ليرتقي بها، ويبلغ معاليها ولكنها جاءت إليه منقادة تجرر أذيالها وكأنها تقول له : خذها بجدارة واستمسك بها بقوة.

من يرى الصديق وهو يكلم النبي صلى الله عليه وسلم أو يرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصوخ سمعا لأبي بكر يصاب بالغبطة، وينتابه شعور الحب والسكينة، وقد يتعدى إلى الحسد لأن المنزلة التي تبوأها أبو بكر لا تضاهى ولا تبارى ولا تجارى.

إنها منزلة كبيرة يصعب الوصول إليها، ولا يقدر الكثيرون على شيء منها مهما بذلوا ونافسوا بشرف وليس أدل على ذلك موقف العملاق الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فقد رأى خِلال الخير في أبي بكر متدفقة لا يقطعها شيء ولا يقف عندها حد وقلما يصل إلى كنهها بشر لذا عزم مرة على منافسة أبي بكر، وحيازة السبق عليه فقد حصل على مال عظيم ورزق كريم والنبي صلى الله عليه وسلم يحث على الصدقة ويرغب في الخير فقال عمر: اليوم سأسبق أبا بكر.

أه، لم يكن يتوقع عمر النتيجة ولم يكن يظن أن بشرا يمكن أن يسبقه في عطائه وما أنفقت يداه لكنّ أبا بكر فاق التوقعات وحاز قصب الرهان.

أه، يا عمر لقد أدركت أن الرجل مختلف وأنه لا يسبق إلى عمل الخير، يأخذ بزمام المبادرة ويتجه إلى المقصد دون ضجيج أو صخب أو نفاق أو مطلب زائل وإنما الرغبة فيما عند الله تعالى هي المسيطرة على كل أفكار أبي بكر وتوجهاته وكيانه.

هذا القائد الفذ ليس جسدا يحركه الطموح أو تقلبه الأهواء أو تغيره المصالح بل هو روح صافية هل رأيتم رجلا يحيا بلا جسد وينطلق بلا أهواء ربما يصح أن يقال هذا في أبي بكر إنه روح بلا جسد في حين أن ثمة أجسادا لا روح فيها ولا عقل هائمة لا تعرف أين تذهب وإلى أين تتوجه؟

يقف التاريخ مشدوها ومستغربا أمام قامة أبي بكر فلم يكن يملك الجسم الذي تشرئب نفوس جالسيه لرؤيته ولم يكن يملك جاها عظيما يطمع فيه غيره ولم يكن يملك لسانا يتزلف به أو يتملق الآخرين ليقترب منهم بل نأى عن كل ذلك وجعل غايته الحق ومنطلقه حياة الروح فلا يهمه بعد ذلك أين توجه روحه أو أين أوصله روحه بل لم يكن يجعل للأسئلة محلا من الإعراب كان يراقب صديقه عن كثب ويتأمل حركاته وسكناته ويتملّى في معاملاته وتوجهاته.

لقد أعجبه ثباته وقوته وقدرته وخطواته إنه مختلف عن الآخرين يا ترى ما وراء هذا الرجل الذي أراه قدوتي وهو لا يعلم عني شيئا وأراه مخلصي وهو لا يدرك أنني أتابع كل شيء فيه.

إنه قادم نحوي يكلمني ويقول: إنه نبي أو قد جاءك الوحي؟ نعم جاءني وأمرني أن أقرأ وعلّمني شيئا من القرآن.

أه، بما أنه قد جاءك فقد صدّقت وبما أنك أخبرتني فقد أجبت دعوتك وآمنت بما تعتقده إنه يتبع روحه كظله فلا يهمه أين يصل ولا أين يتوجه ما زال يتبع الروح؟

لقد فرح أبو بكر لأن الروح صار على مقربة منه فلا تردد ولا نكوص ولا رجوع البتة إلى الوراء، صار الروح مجسدا في محمد صلى الله عليه وسلم...في صديق عمره في قدوته في مخلصه ....لقد كانت روحه تحدثه عنه لكن لم يقطع وعقله يذكره به ولكن لم يبتّ... ها هو الله تعالى يكرمه ويبعث له الخير ويهديه إلى الروح ويقول له: إنه نبي وإنه مبلغ من عند الله الواحد الأحد.

لقد عرف أبو بكر النبي وعرف فضله ومنطلقه وعرف أنه لا يضيع أبدا بعد اليوم كان ينتظر القرب منه صلى الله عليه وسلم ويتأمل الرفقة وينتهز الفرصة لذلك كان يتابع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ويكثر الزيارة إليه لعله يصير صاحب هجرته.

نعم يمتلأ قلبه حبورا وفرحا لقد بشر بالصحبة ولكن رصدت قريش مائة ناقة لمن يأتي بهما حيا أو ميتا، لا يهم ما دمت مع الروح لا يهم ما دام الروح يرافقني، عليّ أن أبذل كل شيء في سبيله....جهز الراحلة وجنّد الأسرة وأعد العدة ليوم لا ما بعده.

يخرج من الباب الخلفي ولا يدري أهو في حلم أو يقظة محمد سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم يرافقه في رحلته التي سيذكرها التاريخ ولن ينساها أبد الآبدين... أولاده نساؤه خدمه لله وللروح لا أحد يمكنه أن يتجاوز روحه أو يفديه دونه، كان يتقدم يمنة ويسرة ويتقدم خطوات ويتأخر مثيلاتها خوفا من غادر أو رمية طائشة لأن روحه يملأ المكان فلا يريد لأحد أن يأخذه أو يحاول النيل منه.

يتقدم إلى الغار ويدخل أصابعه في الجحور خوفا من أفعى أو حية تلسع روحه، يتحمل كل لسعة في سبيل راحة روحه لكنّ دمعة تنفرط من خده فللتحمل وقت وللصبر وقت فإذا بالروح المتمثل في النبي صلى الله عليه وسلم يستيقظ ويرى فعل صاحبه فيعجب من صبره وتحمله فيدعو له فيتعافى ساعتها قائلا له: لا تسهر عليّ إنني ممنوع فلا تهلك نفسك في سبيلي ولا تحزن إن الله معنا، وقد صوّر القرآن مشهد هذا الصاحب في قوله:«إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»

عرف أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم وفهم مقاصده وإن خفيت على كثير من الصحابة ولم يعها العديد منهم لكنّ أبا بكر أدركها وأدرك معناها وما وراءها وكأنه يفكر بلسان النبي صلى الله عليه وسلم ففي فتح الحديبية يصرخ عمر ويناقش نقاش المستميت خوفا على الإسلام والشروط المهينة التي وقعّها المسلمون في صلح الحديبية ويتجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجد جوابا ثم يتجه إلى أبي بكر فيقول له لما احتد النقاش وارتفع صوت عمر: يا عمر إنه رسول الله فالزم غرزك أي: ابق مكانك فإن النبي لن يضيعنا في هذه الطريق وإن تراءى لك مذلة في الصلح أو دنية في قبول شروط المشركين ولكن الزمن والواقع تبينا لعمر وأمثاله أن شروط الصلح خدمت المسلمين وجعلتهم يقوون ويزدادون بل وتأتي قريش جارة أذيال الهزيمة طالبة إلغاء ذاك الشرط الذي بدا للصحابة أنه مهين.

لقد فهم أبو بكر وأدرك المغزى نعم إنه يظهر في ساعات لا يتوقعها بعضهم ولا يدركون كيف تجاوزها، قلبه الحنون مع عزيمته وصفاء عقله يجعلانه مختلفا يجعلانه ذكيا يجعلانه فطنا يجعلانه يحل الأمور بسلاسة ويسر ربما به مدد من روح النبي صلى الله عليه وسلم جعله يسير بهدوء ويقتحم لجج الأمور بعزيمة ...عرفنا عزيمة عمر تفت الصخر ولكنْ أبو بكر ظهر في مواقف أقوى من الصخر وأكثر جلدا من عمر أيعقل أن يكون هذا الرجل الودود كذلك؟ أيعقل لهذا الخلق السمح النبيل أن يرتفع على غيره ويقتحم بهدوئه الطاغي مجريات الأمر ويوقظ الناس من سباتهم وغفلتهم.

كيف له أن يستحضر المشهد ويتذكر آي القرآن ولا يؤثر عليه موت حبيبه؟ كيف له أن يصبر في أكبر محنة تواجه المسلمين؟ وكيف لعقله أن يبقى حرا في وقت اضطربت العقول وتعقدت الأمور؟

نعم إنه هناك يقول الحقيقة المُرة التي لا يراد أن يُنطق بها إنه هناك يهدئ من روع عمر ويواجه اضطرابه! نعم لقد مات محمد فمن كان يعبد الله فإن الله باق لا يموت ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات.....صدمة الموت لم تؤثر على عقله، صدمة موت سيد الكون ورفيق دربه لم تغير من عقله أو تؤثر على دينه أو تجعله مضطربا في تفكيره....هدوئه الطاغي ذكّره بآي القرآن هدوئه الطاغي فتح له العقل المنير هدؤه الطاغي أوجد فيه الحكمة إنه ينتبه لآية غفل عنها عمر:« وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ».

يهجع عمر ويسكن إنه القرآن يقضي على الاضطراب ويعيد المسلم إلى صوابه وجادته قال تعالى:«إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا».

 

«أظهرتم ما يضاعف فضلكم..» -

د: سعيد بن سليمان الوائلي - كلية العلوم الشرعية - مسقط -

لمّا نقول: إن عمان لها مكانة، فإن هذه الكلمة لها بعد لا يخفى على متأمل، فيما تحمله كلمة (مكانة) من معنى التهويل والتعظيم، فتدل على ما تتمتع به من مكانة خاصَّة، وما يعبر عنه بالشأوٍ أي في الغاية والأمد، وكذلك ما لها من شأنٍ ومرتبةٍ، وما يُرى لها من منزلة ورفعة، فتثبت لها المكانة المرموقة.

إنّ طبيعة عمان وما لأهلها من طبع يجعلها تأتي بصورة مميزة لها عن غيرها في شيء من جوانب الحياة والتعاملات، وليس معنى ذلك أن أهل عمان يختلفون عن غيرهم في كل شيء، أو أنهم كانوا مثاليين، بالطبع لا، وإنما يمكن أن يُكتفى بالإشارة إلى وصفهم بطريقة تبيّن ما يكون من طبعهم وما يتخلقون به من سمتهم في تعاملاتهم مع غيرهم، سواء أكان من يتعاملون معه من داخل البلاد أم من خارجها، وهذا ما يحدد شيئا من خصائص المكانة التي نشير إليها في هذه السطور.

وقبل أن نذكر الخليفة الأول للرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومكانته ومنزلته العالية في التاريخ الإسلامي وعند المسلمين، حيث يكون الارتباط بذكره له معناه وفحواه، قبل ذلك نذكر هذه الطبيعة لعمان التي أشار إليها أو إلى شيء من جوانبها، الحديث النبوي الذي يروى فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا إلى حي من أحياء العرب فسبوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنّ أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك».

وننظر بتأمل إلى تحديد النص بذكر (أهل عمان).. ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة عند سماع هذا الحديث: ما الداعي إلى تخصيص أهل عمان بالذكر من بين أحياء العرب كلها؟ وما الذي يميزهم عن غيرهم؟ هل هي طبيعتهم التي تتمثل في أنهم ألين قلوبا وأرق أفئدة كما يتصور البعض؟ أم غير ذلك؟

المهم هنا أن النص قد خصّ من خصه بالذكر والتعيين لما ترتب عليه من معنى، ويدل على ما يفيده من دلالة لصالح عمان في مكانها وأشخاصها، أو بعبارة أخرى: في أرضها ومن يستوطنها.

ولا نستغرب بعد ذلك إذا وجدنا أن هذه المكانة وما لها من معنى تنعكس في وجدوها في قلب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من هو قربا من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأبو بكر الصديق غني عن التعريف في مقام الذكر والثناء، وكان حريصا في مراعاته لصحبة النبي أن يقرّب ما يقربه النبي ويعزّ ما يعزه، ويقدّم من يقدمه النبي ويبعد من يبعده.

فإذا كان نبي الله عليه الصلاة والسلام يثبت مكانة عمان، فسوف يكون لخليفته دور بارز في إثباتها، وهذا ما حصل من الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بالفعل، فقد جاء في خطبته التي أذكرها هنا بعد سطور، والتي رويت عنه في بيان فضل أهل عمان، ما يجعل إبرازه لمكانتهم مرتبطا بذكر الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة.

أما عن تصورنا لتلك المكانة في مرحلتها الأولى، فإن وضعها لا يخفى على متأمل، حيث ابتنت على الطبيعة والتعامل الطيب، واتصلت بأصول تاريخية وأوضاع أخلاقية لها قدر من المستوى والمسؤولية البارزة، وليس من الغريب أن تتأثر بما كان من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فقد أخذوا عنهم ما يمكن أن يكون في طبعهم من جوانب روحية لها اتصال بروح الشريعة الغراء.

إذن، من الطبيعي في ذلك العصر الجليل أن نجد صحابيا مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهو خليفة المسلمين الذي له تصور عن البلدان المختلفة التي تحت سيطرة الخلافة ونفوذها، أن يجعل مكانة لبلد مثل عمان؛ حيث إن عمان ببلدها وأهلها حاضرة على صفحات التاريخ، وحضورها بصورة بارزة لا تخفى على أحد ممن له اهتمام بالبحث والمطالعة عن الدول العربية على وجه الخصوص، حتى وإن قدر أن عمان لم تحظ بالدراسة الكافية والبحث المتخصص إلا في بعض المجالات المحددة بحسب مجال الباحثين.

هذا الحضور للدولة العمانية ليس حديثا كما هو معلوم بل ضارب بجذوره في القدم، ومتأصل منذ عهد الصحابة وفي الخلافة الراشدة، تشهد له الجوانب الحضارية التي خلفها أهل عمان عبر القرون الأولى بما أحاط بها الخليفة الأول علما وإدراكا، فمن الطبيعي بعد ذلك أن يكون ارتباط أهل عمان بالحضارة الإسلامية منذ نشأتها الأولى ارتباطا أصيلا وثابتا. ولذلك نجد ذكرها في كتب السيرة والسير بصورة شاهدة لها لا عليها، بالوجود المتفاعل مع معطيات التاريخ التي كان من بينها خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

ومن ذلك ما نتناول ذكره في هذا الموضوع من وجود العمانيين وتعاملاتهم مع غيرهم في عصر الخلافة الراشدة وفي عهدها الأول بقيادة أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وفي المستويات المختلفة من العلمية والسياسية والاقتصادية وغيرها.

ويرتبط بهذا الموضوع ما كان لأهل عمان من مواقف واضحة مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم، تلك المواقف التي سجلها التاريخ بشيء من المدح والثناء والإطراء.

ومن ذلك قدوم وفد العمانيين إلى المدينة المنورة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان على رأس ذلك الوفد عبد بن الجلندى ومعهم عمرو بن العاص، حيث فرح الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه بلقاء الوفد العماني، وخطب فيه مبينا فضل أهل عمان الذين أسلموا طواعية ودون إكراه، وأخلصوا في إسلامهم، وأطاعوا عامل الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص، الذي قدم عليهم دون جيش أو سلاح، ثم ذكر دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل عمان.

فقد جاء فيما قاله أبو بكر الصديق: «معاشر أهل عمان إنكم أسلمتم طوعا، لم يطأ رسول الله ساحتكم بخفّ ولا حافر، ولا جشمتموه ما جشمه غيركم من العرب، ولم ترموا بفرقة، ولا تشتّت شمل، فجمع الله على الخير شملكم، ثم بعث إليكم عمرو بن العاص بلا جيش، ولا سلاح، فأجبتموه إذ دعاكم على بعد داركم، وأطعتموه إذا أمركم على كثرة عددكم، وعدّتكم، فأيّ فضل أبرّ من فضلكم، وأيّ فعل أشرف من فعلكم، كفاكم قول رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى يوم الميعاد، ثم أقام فيكم عمرو ما أقام مكرّما، ورحل عنكم إذ رحل مسلما، وقد منّ الله عليكم بإسلام عبد وجيفر ابني الجلندى، وأعزّكم الله بهم، وأعزّه بكم، وكنتم على خير حال، حتى أتتكم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظهرتم ما يضاعف فضلكم، وقمتم مقاما حمدناكم فيه، ومحضتم بالنصيحة، وشاركتم بالنفس والمال، فيثبّت الله ألسنتكم، ويهدي قلوبكم، وللناس جولة، ولست أخاف عليكم أن تغلبوا على بلادكم، ولا أن ترجعوا عن دينكم، فجزاكم الله خيرا».

إن التعبير بسرور أبي بكر الصديق بلقاء الوفد العماني له دلالته ومعناه بما يؤثر في سجل التاريخ، حيث يبرز لأهل عمان مكانة عند الخليفة، فينعكس الأثر بصورة تلقائية على من حوله من الحاضرين.

ثم جاء الخبر بعد ذلك أنه عندما عزم عبد ومن معه من العمانيين الرجوع إلى الوطن زوّدهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه كتابا إلى أهل عمان كافة يشكرهم فيه ويثني عليهم، وهذا فيه تعبير عن المكانة المتميزة لعمان في نفس هذا الخليفة العظيم؛ وإلا كان كافيا ما قدمه من ثناء فيمن حضر وسمع على لسانه ما سمع من عبارات عبر رضي الله عنه فيها بعبارات المدح في وضعهم ومكانتهم.

وجانب آخر يشير إلى مكانة عمان عند خليفة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو أنه أقرّ عبدا وجيفر ابني الجلندى على حكم عمان، وأيّدهما، وشد عضدهما، وأعرب عن منهاج صلاحهما فقال في ذلك: «وقد منّ الله عليكم بإسلام عبد وجيفر ابني الجلندى، وأعزّكم الله بهم، وأعزّه بكم، وكنتم على خير حال»، فكان في هذا البيان أن ازدادوا شرفا إلى شرفهم، وعزّا يؤيد عزّهم، ورجعوا إلى عمان معزّزين مكرّمين منتصرين بحب خليفة المسلمين والصحابة أجمعين.

ومما يثبت المكانة وبيان الفضل بنص العبارة التي جاءت في هذه الرواية عندما قال رضي الله عنه: « فأظهرتم ما يضاعف فضلكم، وقمتم مقاما حمدناكم فيه، ومحضتم بالنصيحة، وشاركتم بالنفس والمال». فإظهار فضل أهل عمان من الخليفة أبي بكر الصديق بتصريح في مقام كهذا لهو جدير بالاعتبار، كيف لا؟! وهو يجعله مضاعفا، ثم يعبر بإقامتهم في مقام يشكروا عليه من قبل القائم بأمر الخلافة، وعطف عليه نصحهم ومشاركتهم المتنوعة بالأنفس والأموال، ولعل هذا يؤكد حضورهم بتفاعل وإيجابية فيما شاركوا به في حروب المرتدين في عهده رضي الله عنه.

لا شك أنّ هذا الكلام من الخليفة الصديق رضوان الله عليه مثبت لمكانة أهل عمان في نفسه العزيزة.