1440261
1440261
الرئيسية

إرادة القائد التي بنت عُمان

18 فبراير 2020
18 فبراير 2020

قراءة في الصورة والحدث -

عاصم الشيدي -

كانت الصورة التي التقطتها عدسات كاميرات التلفزيون للسلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، طيب الله ثراه، وهو يقف شامخا في العرض العسكري الأخير «نوفمبر 2019» بإمكانها أن تعطي محمولات دلالية كبيرة عن حياة السلطان الراحل، ولو قدر لي أن أضع عنوانا لتلك الصورة لكتبت عليها كلمة واحدة فقط هي «الإرادة» وهي كلمة تليق بالرحلة الطويلة التي استمرت نصف قرن من الزمن في بناء عمان. وبدون الإرادة لم يكن لعمان أن تُبنى بالطريقة التي نراها ونعيشها اليوم. فقد كان الدرب شاقا، وكانت المسافة طويلة، وكانت المعطيات المادية قليلة خاصة في البدايات الأولى، ولكن الإرادة تشق الصخر وفق المقولة العربية.

كان السلطان يقف شامخا رغم شدة المرض الذي كشفته الأيام اللاحقة. وكان شموخه يطاول الجبال الراسيات وكان مجده الذي أرساه في عمان ينعكس على صفحة البحر الصافية، البحر الذي استكان في ذلك اليوم وهدأت أمواجه لتُرسم الصورة كما يليق بها وبتاريخها.

لم يستطع المرض أن يقهر تلك العزيمة والإرادة التي يتمتع بها السلطان قابوس، طيب الله ثراه، من أن يحضر في يوم من أحب أيام عُمان، وهو اليوم الذي تحتفي فيه بعيدها الوطني، وأن يقف شامخا وسط أبنائه من القوات المسلحة كما عودهم كل عام.

وكأن السلطان الراحل، عليه رحمة الله، في ذلك العرض العسكري كان يودع أبناء شعبه الكرام، فرغم أن مثل هذا العرض العسكري كانت مدته في العادة لا تزيد على عشرين دقيقة إلا أن العرض الأخير طال لقرابة أربعين دقيقة، كان الراحل طوال فقراته يقف شامخا يرد التحية العسكرية كما يليق بقائد أن يفعل، وكما يليق بمنتصر أن يقف شامخا لا تطاوله حتى الجبال، وكما يليق بمقاتل عظيم أن يقف شامخا حتى الرمق الأخير.

كان السلطان، عليه رحمة الله، ذا إرادة قوية. وقبل أشهر عندما ألححت على أحد الأصدقاء الصحفيين من الذين حضروا اللقاء مع السلطان الراحل في مزرعة بهجة الأنظار بصحار أن يخبرني ولو القليل مما دار في ذلك اللقاء قال لي أستطيع فقط أن أعطيك عنوانا واحدا لذلك اللقاء وهو «الإرادة» وعندما سألته أن يفسر أكثر قال: لم أر شخصا في مثل عمره وظروفه الصحية يتمتع بإرادة كإرادته. وهذا ما يفسر العزيمة التي قاد بها الراحل مسيرة التنمية الصعبة والشاقة في البلاد التي بدأت في مطلع سبعينات القرن الماضي من نقطة الصفر وربما دونها بكثير إذا ما أردنا الحديث عن الدولة الحديثة. ويتحدث الكثير ممن تشرفوا بالاقتراب من السلطان، عليه رحمة الله، أنه رجل متشبث بالأمل، وذو عزيمة صعبة وإرادة لا تقهر.. فلم يكن يستكين للصعاب، ولم يعود نفسه على الانحناء للتحديات مهما صعبت وللظروف مهما قست. والمتأمل في بناء عمان يستطيع أن يعرف بسهولة أنها لم تبنَ إلا بصبر طويل وبتضحيات على كل المستويات.

ولو تخطينا تجليات تلك الإرادة خلال الـ 45 عاما الأولى من عمر النهضة حيث كانت إرادة السلطان مدعومة بالصحة الجيدة، وبقينا مع السنوات الخمس الأخيرة منذ اللحظة التي بدأ فيها السلطان قابوس رحلة العلاج من المرض سنقرأ الكثير من التفاصيل، رغم أنه أراد أن تبقى تفاصيل المرض الدقيقة شأنا شخصيا ولم يرد أن يشغل الآخرين بها. ولكن يمكن أن نقرأ الكثير في تفاصيل الأحداث وعلى صفحة الصور التي كنا نترقبها بكثير من الحب، وبكثير من الرغبة للاطمئنان عليه.

بدأت رحلة السلطان مع المرض في شهر يوليو من عام 2014 عندما أعلن الديوان السلطاني أن السلطان قابوس يقوم بزيارة خاصة إلى جمهورية ألمانيا يجري خلالها بعض الفحوصات الطبية. لم يعتد العمانيون على مثل هذا البيان.. ولو كانت الفحوصات عادية لما أعلن عنها، وبدأت عُمان في رحلة قلق طويلة.. يسألون عن قائدهم وبطلهم الذي أحبوا، وتكرر السؤال ماذا جرى؟!

ومضت الأيام ثقيلة جدا إلى أن عاد ديوان البلاط السلطاني وأصدر بيانا آخر أكد فيه أن السلطان بصحة جيدة وأنه يتابع الفحوصات الطبية المقررة ويباشر شؤون بلده من بيته العامر في ألمانيا.

ونشرت جريدة عمان يومها عنوانا على ثمانية أعمدة «اطمئنوا جلالته بخير». ورغم بعض الطمأنينة إلا أن العمانيين انتظروا أن يروا السلطان مباشرة، أن يظهر لهم متحدثا، ومخاطبا بالعبارة الأثيرة التي أحبوها كثيرا «أيها المواطنون الأعزاء».

كان ذلك العام هو الوحيد الذي مر فيه العيد الوطني والسلطان قابوس بعيد عن أرض الوطن، ولكنه لم يترك الفرصة تمر دون أن يخاطب المواطنين «الأوفياء والأعزاء» بخطاب شفاف ورقيق بالمناسبة قال فيه: «إنه لمن دواعي سرورنا أن نحييكم وبلدنا العزيز في هذه الأيام المباركة على مشارف الذكرى الرابعة والأربعين لمسيرة نهضته الظافرة التي تسير وفق الثوابت التي أرسينا دعائمها منذ اليوم الأول لها ... وإنه يسرنا أن نوجه إليكم جميعا التهنئة بهذه المناسبة السعيدة التي شاءت الإرادة الالهية ان تتزامن هذا العام ونحن خارج الوطن العزيز للأسباب التي تعلمونها» وكانت رحلة علاجه قد أكملت في ذلك الوقت أربعة أشهر. ورغم أن السلطان قد بدا في ذلك الخطاب متماسكا وقويا إلا أن إشارات المرض كانت واضحة على صوته وصفحة وجهه النقي. ولم تغب الإرادة عن ذلك المشهد، كانت حاضرة بشكل جلي وطاغٍ، واحتفل العمانيون، فقد رأوا سلطانهم بصحة قدروا أنها جيدة وسمعوا عباراتهم التي يحبون.

خطاب مثل ذلك كان يحتاج إلى إرادة قوية في وجه المرض وفي وجه البعد عن الوطن في أغلى مناسباته، وكان السلطان ما زال يمتلك الكثير من الإرادة، ويمتلك الكثير من حب الحياة من أجل أن يواصل أثره النبيل في عمان وعلى شعبها الوفي.

وفي عودة السلطان من جمهورية ألمانيا نستطيع أن نستعيد الصورة الأولى التي بثها التلفزيون لنزول الراحل، طيب الله ثراه، من الطائرة، فمازال ذلك المشهد باقيا في أذهان العمانيين عندما أشار بيده إلى قائد حرسه أن يبتعد فهو يستطيع النزول من سلم الطائرة الطويل دون مساعدة ودون أن يتكئ على عصى أو يمسك بمقبض السلم. كان يمكن أن يكون سلم الطائرة متحركا، كما يستخدم ذلك الكثير من الرؤساء، ولكن إرادة السلطان القوية أرادت أن توصل رسالة إلى العمانيين وربما إلى العالم أن إرادته الصلبة ما زالت قوية رغم المرض، وكان يريد أن يفرح شعبه أنه بخير كما بقوا طوال تسعة أشهر يدعون الله ليلا ونهارا أن يعيده بصحة إلى بلده العزيز.

وفي عام 2015 عندما ذهب السلطان الراحل ليضع حجر الأساس لمتحف عُمان عبر الزمان كان يوجه رسالة إلى الجميع، فيها الكثير من الدلالات التي لا تخفى على من يريد قراءة مدلولات الصورة. فقد ظهر يومها بالزي العسكري في وقت كانت تشهد فيه المنطقة تجاذبات عسكرية عن اليمين وعن الشمال.. جاء السلطان في ذلك اليوم وهو يقود سيارته بنفسه، واقترب واستمع إلى شرح مفصل عن المتحف وكان يناقش حول كل التفاصيل، كما أنه اقترب ووضع بيده الكريمة حجر الأساس للمتحف، كان المشهد يقول إن السلطان ما زال قادرا على البناء، وأن بناء عمان همه الأول والأخير حتى في محنة المرض. وفرح يومها الذين وصلتهم الرسالة من أبناء عمان الميامين كما كان يسميهم.

وفي الأعياد التي تلت العيد الوطني الـ44 كان السلطان الراحل يحضر جميع العروض العسكرية التي تقام بالمناسبة، يحضر بزيه العسكري المهيب وهو يتشح بكامل نياشينه وانواطه العسكرية، ويقف بنفس الشموخ، رغم أن تجاعيد الزمن على وجهه كانت تنبئ بحجم فعل الزمن على الإنسان.

ورغم ذلك لم يتفرغ السلطان خلال تلك الفترة من عمر مرضه لعمان وحدها، بل كان تفكيره بعيدا بحيث أنه طال المحيط الإقليمي والعالمي. فكانت الكثير من الملفات حاضرة أمامه ويبحث في حلولها مع زعماء العالم وقادته السياسيين. ولذلك كانت مسقط محط ترحالهم، ومهبط أسئلتهم.

ولذلك جاء الفرقاء إلى عمان، والتقوا على أرضها واستمع لبعضهم في جو ساده الهدوء ولم تغب عنه الرؤية العمانية للأحداث سواء تلك التي تقع في اليمن على مقربة من عمان أو تلك التي تقع في الضفة الأخرى من الخليج حيث إيران وأمريكا في شد وجذب لا ينتهي.

كان المرض قدر الله وحده، وآمن السلطان بقدر ربه ولكنه لم يفقد إرادته إلى اللحظات الأخيرة.. لقد عاش من أجل شعبه، وجاهد في البناء من أجل أن تكون عمان كما وعد في خطابه الأول.

وعند لحظة الرحيل تراءت أمام كل العمانيين تلك الإرادة الشامخة التي عاش بها السلطان وبنى بها عمان.. وأعطى لنا جميعا درسا حياتيا خالدا.