1440082
1440082
العرب والعالم

عندما تصبح الحدود جسورًا للتكامل بدلًا من أن تكون بؤرًا للتوتر

18 فبراير 2020
18 فبراير 2020

سياسة السلطان قابوس في إدارة حسن الجوار: -

مرتكزات السلطان الراحل أكدت أن الاتفاقيات تدعم تقوية الوشائج التاريخية -

قضيـة الأمـن في الخـليج لا يمكـن عـزلها عن الاقتصـاد وتسوية مشاكل الحدود -

كـــــــــتب: عــــــماد البليك -

تعتبر قضايا الحدود من أعقد القضايا في العالم المعاصر، برغم كثير من التقدم في فكر الدولة الحديثة ووجود المواثيق الأممية والمنظمات التي تشرف على مثل هذه الموضوعات، إلا أن هناك الكثير من المسائل العالقة في هذه الجوانب بين العديد من دول العالم، كما نرى في بعض الصراعات بين دول عربية - على سبيل المثال - في مناطق متنازع عليها أدت إلى قيام حروب ومرات كان الهدوء الحذر.

في ظل هذه الإشارات واستنادًا إلى أن الدولة الحديثة لها مقومات محددة من ضمنها إطارها الجغرافي، فقد حرصت السلطنة في عهد جلالة السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - على طوي هذا الملف، بحيث يشكل ذلك ضمانة للاستقرار ويمكن من السلام والأمان في التعايش مع الجيران، لا سيما أن سلطنة عمان دولة لها حدود طويلة الامتداد ما بين البحر والبر.

الإطار الجغرافي الحدودي بالمعنى الجلي، لكن ذلك تم في غضون وقت وجيز وعلى فترات بحيث اكتملت هذه الملفات تماما بحلول العقد الثاني من هذه الألفية، ما يجعل السلطنة واحدة من الدول القليلة في العالم التي استطاعت فعليًا أن تطوي هذا الملف وفق منهج هادئ ومدروس ودون إثارة أي نوع من الإشكالات أو اللجوء إلى جهات لتسوية النزاع كما يحصل في بعض المرات بين بعض الدول.

«الترســــيم» كـــان له دور كــــبير فــــي تعزيز بنــــاء الدولـــــة العمانية وتحقـــــيق اســـــتدامتها -

خلفيات وإرث

من المدرك أن كثيرًا من المشاكل الحدودية ترتبت عن الحالة الاستعمارية التي سادت في مناطق الشرق الأوسط ودول إفريقيا وآسيا، وظل هذا الإرث يقلق الكثير من الدول، لكن السلطان قابوس -رحمه الله-، عالج هذا الموضوع في إطار نظرته التكاملية التي تقوم على الرؤية بعيدة النظر في أن السياسة الداخلية السلمية والتنمية الشاملة لا يمكن أن تتحقق دون أن يكون لك جوار مسالم مع الذين يحيطون بك.

لقد كان جلالته مؤمنا بأن الدولة المجاورة ليست اختيارًا بل قدر ولا بد أن تتعامل بهذا المنظور وتكيف الظروف والمعطيات لكي تصل إلى الأفضل في التعامل والتسويات، بدلا من سلك الطريق الخاطئ.

كما أن كسب الجار يدعم الطرفين في الوصول إلى حياة مستقرة لكلا الشعبين والنضوج الذي يمكن من بناء المستقبل المشرق للمجتمعات الإنسانية عامة، من خلال نسق إقليمي يقوم على التعايش والإخاء ما بين الأشقاء والأصدقاء من الدول.

النفط والجغرافية

الواقع أن منطقة الخليج وقبل اكتشاف النفط كانت ذات واقع معيشي بسيط، ولهذا فإن حدود الدولة الحديثة لم تكن ذات أثر كبير، مع استثناء بعض المدن كالموانئ التي لها طابع خاص.

لكن الفترة ما بعد السبعين من القرن العشرين أعادت رسم هياكل الإقليم برمته، فالنفط عمل على تشكيل جملة المشهد في الخليج العربي بل والدول المجاورة بحيث وجدت الدول والشعوب نفسها أمام جغرافية سياسية جديدة محكومة بعوامل بعضها داخلي، والبعض الآخر يرتبط بمسائل خارجية في ظل أن المنطقة ظلت تحت دائرة الضوء والصراع الدولي باعتبارها واحدة من أغنى مناطق تصدير الطاقة في العالم. لقد كان السلطان قابوس -رحمه الله-، بحصافته ووعيه السياسي يدرك أن قضية الأمن في الخليجي لا يمكن عزلها عن قضايا الاقتصاد كذلك العيون الدولية في المنطقة وأيضا الوصول إلى تشكيل الدولة الحديثة وفق صياغ واضح، وقد كانت السنوات الأولى من حكم جلالته قد اشتغلت بهذه الأفكار من حيث الوصول إلى مناخ آمن يعضد فكرة الوحدة الوطنية مع إنهاء الحرب الداخلية التي كان لها أيضا تقاطع مع مشكلة التسويات الحدودية.

عمليا كان النصف الأول من سبعينات القرن الماضي يشهد تشكّل الجغرافيا الحديثة للخليج بدوله الست بالإضافة إلى جيرانه من العراق واليمن وإيران وسواهم من الدول، فقد برزت المصالح القومية وأصبح البحث عن الموارد الطبيعية التي تدرّ الثروة كالنفط وغيره يشكل واحدة من محاور الانتباه لمحيط الدولة المعينة الذي يجب أن تهتم به وترعاه.

الداخل والخارج

يشير جون تاونسند في كتابه الصادر عام 1977 بعنوان «عمان: صناعة الدولة الحديثة»، إلى أن «موقع عمان كان بملامحه ومكوناته الطوبوغرافية محددًا وإن كانت حدودها الدولية لم تتحدد»، بمعنى أن الحدود لم تأخذ التأطير وفق الاتفاقيات الدولية المأخوذ بها في القانون الدولي، حيث لم يتم ذلك عمليًا إلا في عهد جلالة السلطان قابوس.

وقد وجدت السلطنة في سيرتها الحديثة مع مطلع السبعينات بقيادة السلطان قابوس -رحمه الله-، نفسها، أمام محيط من القوى والتحديات، بحيث يمكن القول بأن مجابهات الخارج لم تكن بأقل من الداخل، وكان لا بد من الموازنة بين الاثنين للمضي في مشروع النهضة التي أطلقها السلطان الراحل، بحيث يكون ذلك التكامل بين قوتك الداخلية وقدرتك على أن تكون قويا في الخارج من خلال الاحترام المتبادل مع الجميع ابتداء من الجيران الأربعة للسلطنة، وهم السعودية واليمن والإمارات وإيران الجار البحري، مع السواحل الممتدة للسلطنة بطول 1700 كيلومتر.

لقد كان ضروريا وضع موضوع الحدود في الاعتبار للأسباب التي سبقت الإشارة إليها بالإضافة إلى أن التجربة التاريخية للسلطنة مع امتداد لسواحل طويلة، جعلها في الماضي مطمعًا للقوى المتصارعة، سواء على صعيد البحر أو البر من الداخل.

سلسلة اتفاقيات

كانت أول اتفاقية حدودية أبرمتها حكومة السلطنة قد وقعت عام 1974 وهي اتفاقية ترسيم الحدود مع إيران في عهد الشاه، في حين يمكن الإشارة إلى الاتفاق الذي تم التوصل إليه في 1990 بين عمان والسعودية كواحدة من أهم الاتفاقيات الحدودية، الذي أدى لترسيم الحدود بين البلدين ووقع على الاتفاق السلطان قابوس والملك فهد في 21 مارس 1990 وذلك في حفر الباطن وعلى أساس الخط المعلن بين البلدين، ما شكل خطوة ذات أهمية كبيرة على كافة الأصعدة فيما يتعلق بالاستقرار والعلاقات السياسة والاقتصادية وغيرها.

وقد ألقى جلالة السلطان قابوس كلمة متلفزة عقب التوقيع جاء فيها: «ما توصل إليه من اتفاق في هذا اليوم الذي نعتبره يوما تاريخيا سيجعل من أواصر الأخوة التي هي قائمة بين بلدينا قدم التاريخ، قوة أكثر، ويجعل منها تلاحمًا لا ينفصم، ولا شك أن التاريخ في البلدين سيذكر هذا اليوم بأحرف من نور».

وقد سبق ذلك الاتفاق بيان مشترك في مسقط بعد زيارة للملك فهد قام بها في ديسمبر 1989 التقى خلالها جلالة السلطان قابوس، واتفقا على ترسيم الحدود بين البلدين الشقيقين. وفي عام 1995 كانت السلطنة والسعودية قد وضعتا الاتفاق النهائي للخرائط التفصيلية للحدود.

وفي الثاني من شهر أكتوبر عام 1992 تم التوقيع على الاتفاقية الحدودية في العاصمة اليمنية صنعاء وبموجبها رسمت الحدود الدولية البالغة 3.392 كيلومترا من معبر المزيونة شمالا إلى رأس ضربة علي جنوبًا على بحر العرب، وهي أيضا من الاتفاقيات ذات الأهمية الكبرى، التي جاءت لتطوي هذا الملف مع الجارة، وفي كل الأحوال فقد حرصت سياسة السلطان قابوس عبر الحياد الإيجابي على إبعاد الحدود من دوائر النزاع أو المساومات بحيث تكون بؤرًا للحرب أو الصدامات.

بالنسبة لدولة الإمارات فرغم التداخل الحدودي الكبير بين البلدين، إلا أنه أمكن للبلدين تسوية كل الملفات بشكل سلمي، استنادًا للعلاقة الوطيدة التي كانت تربط السلطان قابوس والشيخ زايد، وقد توصل البلدان إلى أكثر من اتفاقية أبرزها اتفاقية ترسيم الحدود في الأول من مايو 1999 التي تم التصديق عليها في 27 مارس 2000م، أيضا كانت هناك اتفاقية أخرى تم التوقيع عليها خلال زيارة السلطان قابوس إلى أبوظبي في 22 يونيو 2002م.

كان قد تم التوقيع على اتفاقية 1999 بين قائدي السلطنة والإمارات في قصر بهجة الأنظار العامر بولاية صحار، وهي اتفاقية مهمة غطت قطاع الحدود الممتد من أم الزمول حيث تلتقي حدود كل من دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية الشقيقة إلى شرقي العقيدات.

وقد أكد جلالة السلطان قابوس وقتها بأن توقيع اتفاقية الحدود العمانية الإماراتية تعتبر نقطة انطلاق جديدة للتعاون المشترك والعلاقات الوطيدة بين البلدين، فيما أكد الشيخ زايد على أن هذه الاتفاقية ستعزز المسيرة المشتركة للشعبين وتعمّق التلاحم والآمال والتطلعات والرغبة الأكيدة في العمل المشترك.

وأشار بيان صدر بالمناسبة إلى أن الاتفاق يأتي تكميلا لاتفاقين قديمين في عام 1959 و1960 وقد جاء ذلك الاتفاق الحدودي ليغطي مسافة نحو 35 كيلومترًا من الحدود بين البلدين، وقد وصف المراقبون الحدث يومها بأنه يعبّر عن الدبلوماسية الهادئة المطلوبة لتسوية المسائل الحدودية بحيث تصبح معابر للسلام والتنمية والتكامل الاقتصادي بدلًا من أن تكون بؤرًا للنزاعات والتوتر بين الجيران.

واستكمالًا لاتفاقيات الحدود مع الإمارات فقد تم التوقيع بين البلدين في يوليو 2008 على ما تبقى من قوائم الإحداثيات والخرائط النهائية.

كذلك لا بد من الإِشارة إلى الحدود البحرية مع باكستان، التي تعتبر أول اتفاقية توقعها السلطنة في البحار العالمية مع دول مجاورة، حيث تم التوقيع عليها في مسقط في 12 يونيو 2000 بحضور برويز مشرف.

وإذا كانت أولى الاتفاقيات الحدودية قد كانت مع إيران فإن آخر الاتفاقيات جاءت كذلك مع إيران في سبتمبر 2016 حيث تم التوقيع على الوثيقة النهائية لاتفاقية تعيين الحدود البحرية بين السلطنة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، مع الإشارة إلى تشارك البلدين في واحد من أهم معابر الملاحة في العالم، وهو مضيق هرمز الاستراتيجي الذي يمر عبره النفط ما يكسبه هذه الأهمية ويضعه في دائرة التهديد في ظل صراعات القوى العالمية في المنطقة.

مبادئ وحنكة

ثمة أمور يجب الإشارة إليها في قضايا الحدود بشكل عام، ويمكن أن نلخصها في الآتي فيما يتعلق بسياسة السلطان الراحل في النظر للحدود وحنكته في التعامل معها مشاكلها للوصول إلى الحلول المناسبة:

أولا: كان جلالته -رحمه الله- حريصا على إنهاء وطي كل هذه الملفات في ظل سياسة هادئة ودبلوماسية تنظر إلى التاريخ المشترك ولا تغفله وتربطه بمواضعات اللحظة المعاصرة، فالماضي مرتبط بالحاضر وهما يشكلان معًا الجسر إلى المستقبل وفي كلماته بهذا الخصوص في مناسبات التوقيع على الاتفاقيات إشارات جلية إلى ذلك الأمر.

ثانيا: جلالة السلطان قابوس - طيب الله ثراه -، حرص بنفسه على أن يوقع الاتفاقيات الكبيرة والمركزية في طي هذه الملفات رأينا ذلك في اتفاقيات السعودية واليمن والإمارات، وهذا يدل على أن هذا الموضوع كان يشكل شاغلًا شخصيًا له، حيث كان يضع اهتماما مباشرا عليه ولم يتركه دون أن يتأكد أنه قد طوي وتوصل فيه إلى التسوية المناسبة التي ترضي كلا الأطراف المعنية.

ثالثا: يرى السلطان قابوس أن قوة الوشائج التاريخية لا يمكن أن تستمر إلا عبر الالتزامات القانونية والاتفاقيات التي تأخذ الطابع القانوني والدولي بما يجعل كل طرف يعرف التزاماته الأساسية، فالوصول إلى التعاون والتكامل وتوطيد العلاقات لا يمكن أن يتم إلا وفق علاقة جلية لها أطرها الرسمية.

رابعا: تأكيد جلالته على عبارة «أحرف من نور» يدل على أن حدثا مثل تسوية المسائل الحدودية ليس بالهين وله ما له من انعكاسات على السلام والأمن والاستقرار والنظرة الإيجابية لبناء المستقبل بين الدول والشعوب بما يحقق مصالح الجميع ويقود إلى الغد الأفضل.

سياسة وتنمية

في الخلاصات يمكن التأكيد على أنه إذا كان طابع الحدود في الإطار التقليدي بمنطقة الخليج يقوم على التنقل والحركة المستمرة في المجتمعات القبلية، إلا أن بروز عامل النفط أوجد متغيرات كان لا بد من أخذها في الاعتبار، بحيث لا تكون ثمة نزاعات بين الدول، فاحتمال وجود النفط في موقع معين يعطي نوعًا من العلاقات الحذرة والتوتر المستتر ما لم تكن هذه الأمور قد تمت تسويتها بالشكل الواضح والقانوني الذي يحقق التزام الأطراف.

هذا الجانب كان مهمًا جدًا، وقد ارتبط من جهة ثانية بالرغبة في بناء الدولة الوطنية الموحدة ذات المدلول السياسي الذي تكسبه من خلال جغرافية جلية بحيث يسهل إدارة هذه الدولة والتحكم فيها والانتقال بها إلى التنمية الشاملة، لهذا يمكن القول بأن سياسة الحدود بقدر ما ارتبطت بإدارة العلاقة مع الجيران إلا أنها كانت ذات دور كبير في تعزيز بناء الدولة العمانية وتحقيق استدامتها.

لقد استطاعت السلطنة عبر سياسة عملية وتفاوضية وعبر أربعة عقود أن تؤسس بنية الدولة الحديثة بحدودها المتفق عليها، وفق قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»، اعتمادا على الحوار البنّاء والاحترام المتبادل ومد جسور الثقة وتغليب المصالح المشترك والنظرة للتاريخ كما تمت الإشارة سابقا.