Untitled-1
Untitled-1
المنوعات

السلطان قابوس كان إنسانا قبل أن يكون سلطانا

18 فبراير 2020
18 فبراير 2020

سعيد الشنفري: لم نستطع أن نواكب هذا السلطان المتفّرد في كل شيء -

سعيد بن أحمد الشنفري وزير النفط السابق أحد الشخصيات التي اقتربت من السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- اقترابًا سبق وصوله للعرش وامتدت لأكثر من عقدين بعد ذلك وخلال هذه الفترة من عمر التجربة تعلم الشنفري الكثير من شخصية السلطان قابوس، معرفةً وأخلاقًا وكرمًا. في هذا الحوار نقترب من الشنفري لنسمعه وهو يستعيد بعضًا من تفاصيل الماضي.

■ كيف استقبلت خبر وفاة السلطان قابوس بن سعيد، رحمه الله؟

إنَّ مصابنا جلل فكل العبارات والكلمات لا تستطيع أن تصف مشاعري ومشاعر كل مواطن عُماني تجاه رحيل جلالته -رحمه الله- فقدنا هذا العظيم الذي كان نورًا وقبسًا في حياتنا جميعًا، فرحم الله هذا العظيم الفذ ذا القلب المحب للجميع. فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. فقد أهدى الله سبحانه وتعالى السلطان قابوس هدية لشعب عُمان وأرضها الطيبة، وهو من أخذ واسترجع هديته بعد أن وفىّ جلالته بعهده لوطنه وأمته. إن فقد جلالته كان كبيرًا وعظيمًا علينا جميعًا فاستقبال مثل هذا الخبر لم يكن بالهين أبدًا على من عرف جلالته عن بعد فكيف لمن رافقه منذ أيام الشباب وعرفه عن قرب لسنوات طويلة، ولكن تعلمنا من جلالته -رحمه الله- الصبر على المحن والشدائد، وكان رحيله شديدا علينا جميعا، ففراق سيد الرجال قابوس ليس بالأمر الذي يمكن أن يختصر في أسطر وعبارات، ولكن كل ما نستطيع أن نقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون.

■ ما شريط الذكريات الذي مر عليك لحظة سماع الخبر؟

كانت لحظات عسيرة وأنا أشاهد على شاشة التلفاز جثمان جلالته الطاهر، وهو يحمل على الأكتاف، هل هو حلم أم حقيقة؟ تساءلت بيني وبين نفسي، ليمر شريط الذكريات أمامي بكل تفاصيله سريعًا، فتذكرت جلالته وهو في ريعان شبابه منذ بدايات معرفتي به قبل النهضة، تذكرت مدى تشبثه بالتغيير وإن كان باهظ الثمن، وبإرادته الجبارة التي لم تثنها كل التحديات والصعاب، ومرّت بذهني ذكريات يوم التغيير، حيث كان يومًا رهيبًا وحدثًا جللًا حُفر في الذاكرة لما كان له من أثر كبير في نفس كل من شارك به، فجميع من شارك بقيادة وتعليمات جلالته كان يحمل روحه في كفه؛ فأي خطأ يعني الهلاك ليس لنا فقط إنما لجميع أسرنا وكل من نعرفه، وأيضًا نهاية حلمنا لعُمان جديدة، ولكن جلالته كان يتحلى بشجاعة نادرة، فمن هذه الشجاعة والعزيمة الجبارة -بعد الإيمان والاتكال على رب العالمين- كنا نستمد الجرأة في مواجهة الموت. كما تذّكرت أيضًا حماس جلالته في أول يوم وصولنا بالطائرة بعد التغيير إلى مسقط؛ لأن ينشر العلم بأسرع وقت ممكن في البلاد، فكان جلالته -رحمه الله- يدرك جيدًا أنه لا حضارة للشعوب والأمم بغير العلم. وتذّكرت الجولات التي كنا نرافقه بها تحت هجير الشمس الحارقة نجوب الجبال والوديان غير مبال بقسوة الطقس والبيئة والطرقات غير المعبدة ليتفقد أحوال البلاد وظروف شعبه وما يحتاجونه من تنمية، وتلك اللحظات الخالدة في الذاكرة التي كان يجتمع بها معنا بعد يوم من العناء مساءً ليستمع لملاحظاتنا التي استنتجناها من خلال مقابلاتنا للمواطنين، فكان يتعامل بروحه الجميلة المرحة مع الجميع بود وإخاء رغم التعب الذي كان يبدو عليه، كان كريم الخلق أبيًا واثقًا مما سيحققه لبلاده، تفاصيل لا تعد ولا تحصى من الذكريات مرّت في لحظة كسرعة البرق في ذهني، كما إني أدركت كم أنا محظوظ بمرافقة هذا العظيم، رحمة الله عليه.

■ كنت قريبًا من جلالة السلطان قابوس -رحمه الله- منذ البدايات الأولى للنهضة، لو تحدثنا عن ظروف العمل في تلك المرحلة.. أفكار السلطان للتأسيس كيف كانت؟

لقد بدأت علاقتي بجلالته -رحمه الله- من قبل النهضة بسنوات منذ قدومه من دراسته في بريطانيا ليستقر في قصر الحصن بمدينة صلالة وتحديدًا بمنطقة الحافة التي هي مسقط رأسي. حيث كان يسكن في بيته الصغير الذي خُصص له بجوار قصر الحصن. ولقد عرفته منذ ذلك الحين كشاب طموح أحزنه ما حال بلاده من تخلف عن العالم المتقدم الذي رآه وتفاعل معه أيام دراسته في الغرب، فأراد التغيير من أجل شعبه، وكان له ما طمح إليه، وتمنى رغم كل الصعاب الكبيرة التي اعترضته في سبيل ذلك. وبعد توليه الحكم كان عليه أن يواجه مرحلة أخرى من التحديات فقد كانت مرحلة صعبة للغاية، فالبلاد كانت تفتقر لكل مرافق الحياة الحديثة. كانت عُمان تعيش تحت وطأة الجهل والمرض والفقر. كانت بلدًا تفتقر لمصادر الدخل التي من خلالها يمكن القيام بعملية البناء؛ فالحمل ثقيل على كاهل السلطان الشاب الطامح للتغيير. هذا بالإضافة إلى حرب ظفار التي تستنزف المال والرجال. كان حملا ثقيلا جدًا، وكان مدركًا تمامًا ما ينتظره من تحد كبير في الداخل والخارج. ولكن جلالته قابل هذا التحدي بكل شجاعة. فبدأ بالجبهة الداخلية، حيث كانت حربه مع الفقر والجهل والمرض ولم الشتات، فبدأ جلالته -رحمه الله- سريع الخطوات الأولى بإنشاء المدارس، والمستشفيات، والطرقات لكي تصل الخدمات لكل مواطن على أرض عُمان، بالتوازي مع التنقيب عن النفط وبسرعة كبيرة، فقد كان -رحمة الله عليه- يسابق الزمن، فقد كانت البلاد تحتاج إلى الكثير من الأموال لإحداث التغيير. لذلك كان يجب اكتشاف أكبر عدد ممكن من آبار النفط في أقصر مدة ممكنه لتكون مصدرًا لتمويل كل هذه المشاريع الطموحة، وأيضًا إنشاء مصفاة للنفط بمواصفات عالمية لكي نستطيع أن نصدّر نفط السلطنة للخارج بجودة عالية. كما كان على جلالته أن يحصّن حدود البلاد ويخمد الثورة القائمة. كانت المهمة شبه مستحيلة ولكن هذا البطل استطاع أن يحقق المعجزة بإرادته الصادقة الجبارة فقد سهل له رب العالمين الصعب وألهمه القوة والحكمة لتخطي كل هذه التحديات.

كان تركيزه -رحمه الله- على بلده وتنميته، متجنبًا كل ما يمكن أن يعرقل هذه التنمية بأي شكل من الأشكال. وكان جلالة السلطان قابوس -رحمه الله- إنسانًا شجاعًا في الحق مسالمًا يكره العنف بكل أشكاله، فكانت سياسته وفق هذا النهج الذي هو جزء من شخصيته. ومن خلال هذه الصفات استطاع أن يوحد عُمان ويكسب جميع أبنائها في الخارج والداخل باحتوائه لهم جميعًا بصدر رحب.

■ كنت مرافقًا للسلطان قابوس -رحمه الله- في الجولات السنوية.. هل تستذكر بعض المواقف الإنسانية في تلك الجولات؟

كان السلطان قابوس بن سعيد -رحمة الله عليه وطيب ثراه- رجل دولة بحق ذا رؤية ثاقبة، في الوقت نفسه كان ذا قلب طيب مليء بالمشاعر الإنسانية محب لشعبه إلى أبعد الحدود. فعندما كُنا في الجولات السامية بكل ما فيها من عناء وتعب، كان يسعد كثيرًا برؤية أفراد شعبه بكل أطيافهم. كان ينصت إليهم لساعات متواصلة، وكان لا يرد طلب لأي مواطن، ويوصي كل وزير في مجال تخصصه أن يسجل هذه الطلبات، وأن يسعى في تنفيذها بقدر استطاعته.

كانت طلبات المواطنين لا تنتهي، وكان صبر جلالته -رحمه الله- على الاستماع لأفراد شعبه لا محدود، فجلالته متفهم لكل الاحتياجات التي يمكن أن توفر للمواطنين العيش الكريم، وهو حق لهم. وكان جلالته إذا تعرض لبعض المواقف المحرجة أو بعض التصرفات غير المحسوبة من الآخرين يتعامل معها بكل إنسانية ولطف، فجلالته يتعامل بروح الأب ليطمئن على الجميع وليشاركنا في كل الأمور بكل تواضع.

■ من يقترب من السلطان قابوس كان يتحدث عنه بوصفه مدرسة ينهل منها القريبون منه.. ماذا تعلمت من المدرسة القابوسية؟

إن جلالة السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- سليل أسرة حاكمة عريقة، وهو نسل السلاطين العظام الذين سطروا لعُمان التاريخ المجيد، وأسسوا الإمبراطورية العُمانية، حيث كانوا معروفين بأخلاقهم ورقيهم في التعامل مع الناس في كل البلاد التي حكموها. كما أن والدته الجليلة -رحمها الله- هي نسل الأخيار الذين عرف عنهم الورع والتقوى ورجاحة العقل والذكاء الحاد بالفطرة كبقية أهالي تلك المنطقة من جبال ظفار الشماء، فالشجر الطيب لا ينبت إلا الثمر الطيب. وبالإضافة إلى كل هذه الصفات العظيمة التي حفّت بيئة نشأته فقد تلقى العلم بكافة أشكاله منذ نعومة أظافره واهتم السلطان سعيد بن تيمور -رحمة الله عليه- بتعليمه اهتمامًا كبيرًا، فجلب له أعظم المعلمين في ذلك الوقت في كافة العلوم بما فيها العلوم الشرعية، وتحفيظ القرآن والسيرة النبوية، واللغة العربية وغيرها من العلوم المعروفة في تلك الحقبة من الزمن وعندما انتهى من نهل هذه العلوم وأكملها بجدارة أراد له السلطان سعيد أن ينهل أيضًا من العلوم الحديثة بعد أن اطمأن أن شخصيته قد تكّونت كشاب عربي مسلم متمكن من دينه متشح بعادات وتقاليد مجتمعه، ليتم ابتعاث جلالة السلطان قابوس وهو في ريعان شبابه إلى إنجلترا لتلقي العلوم العسكرية والسياسية في أعظم الأكاديميات وأرقاها في تلك الحقبة كما نعلم ذلك جميعًا. ذكرت هذه الخلفية الثقافية عن جلالته والتي يعلمها الجميع لنستطيع أن ندرك أننا أمام مدرسة حقيقية جمعت الأصالة والعراقة والعلم الغزير والتي تجلت في أروع صورها بشخص جلالته -رحمه الله- لذلك فنحن لا نبالغ أو نجامل عندما نقول المدرسة القابوسية. فبالإضافة لكل ما تم ذكره فقد لعبت الظروف القاسية التي عاشها جلالته -رحمه الله- وهو في شبابه دورًا مهمًا في صقل شخصيته فقد نمّت لديه الإحساس بالآخرين، والصبر والتحمل والجلد على عظائم الأمور.

وباجتماع كل هذه المسوغات في شخصية السلطان قابوس -رحمه الله- خرجت للعالم هذه الشخصية الفذة التي خّلدت بعطائها ذكره في سجل التاريخ، وكان منبع عطاء يغترف منه كل من حوله دون أن ينضب. فكل من رافقه تعلم منه الكثير، وحاول أن ينهل من الفكر القابوسي الفذ والحنكة في إدارة الأمور والصبر وتحمل الشدائد بقدر المستطاع، ولكن جلالته كان في كل يوم يفاجئنا بجانب جديد من هذه الشخصية العملاقة، لذلك لم نستطع أن نواكب هذا السلطان المتفّرد في كل شيء. كان جلالته ذا ذوق رفيع، دقيق دقة متناهية في كل الأمور صغيرها وكبيرها. لهذا لا يمكن أن أحصر ما تعلمته من جلالته، رحمه الله. ورغم كل مشاغل جلالته كان شغوفا بالقراءة والموسيقى الراقية والخيل وأيضاً لم تفارقه روح الدعابة والفكاهة حتى في أصعب الظروف وأقساها، كانت روحه وقّادة محبّة للحياة، مستبشرًا للخير دائمًا، فرحمة الله على جلالة السلطان قابوس بن سعيد وعلى أبيه السلطان سعيد بن تيمور الذي أهدى لعُمان وشعبها هذه الأسطورة الخالدة بعطائها اللامحدود.