1437365
1437365
عمان اليوم

جلالة السلطان الراحل حرص على تأطير نظام قضائي شامل ورسم ملامح ومنهاج السلطة القضائية

15 فبراير 2020
15 فبراير 2020

حرص على إنشاء وزارة العدل ضمن أول تشكيل وزاري عام 1970 -

شــــدد عـــلى ضرورة إعلاء قـــيم العدالة وصــون الحــقوق والمســـاواة وحكم القانون.. وتدعـــيم أركــان دولة القـــانون والمؤسســـات -

جرّم التدخل في شؤون العدالة.. والتـقاضي حق مصان ومكـفول للناس كافة -

كلمات خالدة :

«إن الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن تكون نفوذا أو سلطة، وعليكم جميعا أن تكونوا قدوة ومثلا يحتذى سواء في الولاء لوطنكم أو المواظبة على عملكم واحترام مواعيده، أو في سلوككم الوظيفي داخل العمل أو خارجه أو في حسن الأداء وكفايته، إن العدل أبو الوظيفة وحارسها، فتمسكوا به وعاملوا الجميع بمقتضاه، وإنني لرقيب على أن يفي كل منكم بهذه الأسس والمعاني، فلن يكون في مجتمعنا مكان لمنحرف أو متقاعس عن أداء واجبه أومعطل لأدائه، كما يكون لكل مجتهد نصيب في المكافأة والتقدير والعرفان بالجميل»

قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه -

كــــــــتب : خالد بن راشد العدوي -

أولى جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه- وأسكنه فسيح جناته رعاية خاصة للقضاء منذ بداية النهضة المباركة، وجاء إنشاء وزارة العدل ضمن أول تشكيل وزاري عام 1970م، ثم حرص جلالته في النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم ( 101 /‏‏ 96 ) على تأطير نظام قضائي شامل أفرد له باباً خاصاً رسم فيه ملامح ومنهاج السلطة القضائية ، وكرّس فيه مبدأ تخصص واستقلال القضاء، وشدد على ضرورة إعلاء قيم العدالة وصون الحقوق والمساواة وحكم القانون وتدعيم أركان دولة المؤسسات والقانون ، في إطار من الخصوصية العمانية وانسجاماً مع النظم المعاصرة، وقد دعم جلالته القضاء بالسلطة اللازمة لمباشرة عملها، وجرّم التدخل في شؤون العدالة ، وقرر في المادة (25) من النظام الأساسي للدولة أن التـقاضي حق مصون ومكـفول للناس كافة، وتـكـفل الدولـة - قـدر المستطـاع - تـقـريب جهات القضـاء من المتـقاضين وسرعة الفصل في القضايا ، وبيّن في المادة (59) منه أن سيادة القانون أسـاس الحكم في الدولة، وشرف القضاء ونزاهة القضاة وعدلهم ضمان للحقوق والحريات ، كما أكّد في المادة (60) منه على أن السلطة القضائية مستـقـلة، وتـتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفق القانون، كما أطّر ضمانات القضاء في المادة (61) منه حينما نص على أنه لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير القانون. وهم غير قـابلين للعـزل إلا في الحالات التي يحددهـا القـانـون، ولا يجوز لأيـة جهـة التدخـل في القضايـا أو في شـؤون العـدالة، ويعتبر مثـل هـذا التدخـل جريمـة يعاقب عليهـا القانون.

كما أناط في المادة ذاتها للقـانون تحديد الشروط الواجب توافـرها فيمن يتولى القضـاء، وشروط واجراءات تعيـينهم ونقلهم وترقيتهم والضمانات المقررة لهم وأحـوال عدم قابليتهم للعزل وغير ذلك من الأحكام الخاصة بهم وهو ما تحقق واقعاً وتمثل في دعمه - طيب الله ثراه- لأصحاب الفضيلة القضاة بمختلف الطرق والوسائل الممكنة، كذلك فقد أحال للقانون بموجب المادة (62) منه ترتيب المحاكـم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وبيان وظـائفهـا واختصـاصـاتها، ثم أفرد في المادة (67) منه للقضاء الإداري نصا خاصا ، فقد أكّد فيه على وجوب أن ينظـم القانـون الفصـل في الخصومات الإدارية بواسطة دائرة أو محكمة خـاصة نظـامها وكيفيـة ممارستها للقضاء الإداري.

ثم شاءت الإرادة الراشدة لجلالته -طيب الله ثراه- في إيضاح معالم القضاء الإداري بالسلطنة، وصدر المرسوم السلطاني رقم (91/‏‏‏‏99) بإنشاء محكمة القضاء الإداري ، بحيث أريد لهذا القضاء أن يتمتع بالاستقلال التام عن القضاء العادي ، مختارا جلالته بذلك أسلوب القضاء المزدوج الذي يفصل بين القضاء العام أو العادي وبين القضاء الإداري ، وهنا لمحة كريمة عظيمة لبُعد نظر السلطان الراحل في استشراف المستقبل بوعي وإدراك وتخطيط وثبات تجاوز حدود الزمان والمكان ليتميز بذلك القضاء في سلطنة عُمان متهيئا للمستقبل عن سائر دول مجلس التعاون الخليجي، كجهة قضائية نوعية مستقلة تختص بالفصل في بعض الخصومات الإدارية التي حددها القانون، والتي تُعد في حقيقتها نقلة حضارية مهمة في تاريخ التنظيم القضائي للسلطنة يحاكي أرقى النظم القضائية في العالم كالنظام (الفرانكفوني) وغيره دون خروج عدالته العُمانية ، ورافداً مهماً من روافد دولة المؤسسات والقانون، وجاءت النظرة الحكيمة لصاحب الجلالة -رحمه الله- بإنشاء قضاء متخصص ومستقل عن باقي المنظومة القضائية في الدولة، حتى يتم التعامل مع الخصومات الإدارية بواسطة قضاء متخصص يراعي في هذا الشأن الطبيعة الخاصة التي تتسم بها الخصومة الإدارية عن باقي عموم الخصومات القضائية في ظل تطور وتشعب وتشابك العمل الحكومي والجهات الإدارية مع مختلف أطياف المجتمع، وبما سيكفل لهذا النوع من الخصومات سرعة ومهنية الفصل فيها ، تحقيقاً للعدالة الناجزة في هذا النوع من الأقضية، لتكون المحكمة حصناً منيعاً لمبدأ المشروعية (سيادة حكم القانون)، وصون حقوق وحريات الأفراد، وذلك بإخضاع سائر تصرفات الإدارة لرقابة المحكمة؛ للتحقق من تطبيق أحكام القانون واللوائح والقرارات التنظيمية الحاكمة لعمل هذه الجهات.

إنــشاء دائرة ابتدائيــة للمحكمــة في صلالة

بعد ذلك أصدر جلالته المرسوم السلطاني رقم (61/‏‏‏‏2006) بإنشاء دائرة ابتدائية للمحكمة في صلالة، ويكون نطاق اختصاصها محافظة ظفار، وبدأت المحكمة باختصاصات واردة على سبيل الحصر فيما يتعلق بالمنازعات الإدارية، إلاّ أن جلالته ظلّ متابعاً لمسيرة القضاء الإداري بالسلطنة داعماً له، وكان تحت بصره اليقظ وتيرة عمل المحكمة، وتفهم الجهات الإدارية والأفراد على حد سواء بطبيعة القضاء الإداري ودوره في إرساء مبدأ المشروعية، فبادر إلى إصدار المرسوم السلطاني رقم (3/‏‏‏‏2009) الذي أعطى القضاء الإداري الولاية العامة على سائر المنازعات الإدارية، سواءً المتعلق منها بالقرارات والعقود الإدارية، أو دعاوى التعويض المرتبطة بها أو حتى التعويض عن الأعمال المادية عن جهة الإدارة، كما أن جلالته -طيب الله ثراه- لم يغب عنه النتيجة المنطقية جراء التوسع في الاختصاصات، وهي ازدياد عدد القضايا المطروحة على المحكمة وازدياد تفردها النوعي،، كما أجاز في المادة (2) منه إنشاء دوائر ابتدائية أو استئنافية خارج محافظة مسقط ، تكريسا لما نص عليه النظام الأساسي للدولة من ضرورة تقريب جهات القضاء من المتقاضين، فصدر المرسوم السلطاني رقم (118/‏‏‏‏2010) بإنشاء دائرة ابتدائية لمحكمة القضاء الإداري بولاية صحار يكون نطاق اختصاصها محافظات شمال الباطنة ومسندم والبريمي والظاهرة، كما تم إنشاء دائرة استئنافية ثانية في محافظة مسقط نتيجة للتوسع في عدد الدعاوى والأحكام الصادرة في الدعاوى الابتدائية.

تنفيذ الأحكام القضائية:

إلى جانب كل ذلك فقد أولى جلالته مسألة تنفيذ الأحكام القضائية اهتماما خاصاً، باعتبار أن العدالة لا تتحقق بمجرد صدور الحكم ، إنما بوجود آلية قانونية تكفل تنفيذه حتى يتمكن أصحاب الحقوق من استيفائها بالطرق القانونية ، وانطلاقاً من ذلك فقد كرس جلالته في المادة (71) من النظام الأساسي للدولة أن الأحكام القضائية تصدر وتـنفـذ باسـم جـلالـة السـلطان، ويكـون الامتـناع عن تـنفيذها أو تعطيل تـنفيذها من جانب الموظفين العمـوميين المختصين جـريمـة يعـاقـب عليها القـانـون، وللمحكوم لـه في هذه الحالـة حق رفع الـدعوى الجزائية مباشرة الى المحكمة المختصة ، وتطبيقاً لذلك يتجلى الحرص السامي لجلالته بإيجاد نص خاص في قانون الجزاء العماني - المادة 230- الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (7/‏‏‏‏2018) ليضمن تنفيذ الأحكام القضائية ، ثم صدر المرسوم السلطاني رقم (10/‏‏‏‏2012) في شأن إدارة شؤون القضاء، وبموجبه أسندت مهمة الإشراف على إدارة الجهات القضائية للقضاة أنفسهم ، ليكرس بذلك استقلال السلطة القضائية ، حيث كما نص المرسوم ذاته في مادته السادسة على أن يمارس رئيس محكمة القضاء الإداري الاختصاصات والصلاحيات المعقودة لوزير ديوان البلاط السلطاني، المنصوص عليها في قانون محكمة القضاء الإداري، فجعل بذلك محكمة القضاء الإداري غير مرتبطة في أمورها الإدارية بوزير ديوان البلاط السلطاني كما كان عليه الحال في السابق إبّان نشأتها، ورغم أن الأخير لم يكن له أي اختصاص يتعلق بالشؤون القضائية في الفترة السابقة؛ إلاّ أن جلالته فضّل استقلال المحكمة عنه في أمورها الإدارية أيضا.

تشكيل المجلس الأعلى للقضاء

تبعا لذلك تم تعديل تشكيل المجلس الأعلى للقضاء بموجب المرسوم السلطاني رقم (9/‏‏‏‏2012م)، والذي أُنشئ بموجب المرسوم السلطاني رقم (93/‏‏‏‏99) ، حيث أصبح تشكيله برئاسة جلالة السلطان المعظم وعضوية كل من: رئيس المحكمة العليا نائباً للرئيس، رئيس محكمة القضاء الإداري، المدعي العام، أقدم نائب رئيس بالمحكمة العليا، رئيس دائرة المحكمة الشرعية بالمحكمة العليا، نائب رئيس محكمة القضاء الإداري، أقدم رئيس محكمة استئناف، وفيما يتعلق بالدعم المادي لمحكمة القضاء الإداري؛ فقد وفّر جلالته للمحكمة ميزانية خاصة لبناء صرح قضائي خاص بها ، ليكون هامة يليق بمكانة القضاء وينال هذا المبنى شرف الاعتماد السامي على خرائطه ليظل مهتماً ومتابعاً لكل التفاصيل ، وهو ما أفضى إلى تشييد المبنى الحالي للمحكمة بحي العرفان في محافظة مسقط - بإشراف المنشآت السلطانية - وباشرت المحكمة العمل فيه في الربع الأول من عام 2017م ليساير التطور العمراني مع التطور القانوني وهو ديدن باني نهضة عُمان - رحمه الله- في كل ميدان، وكذلك ليلبي حاجتها لاستقبال عدد القضايا المتزايد، وروعي في تصميمه ليواكب المتطلبات القضائية وفق أحدث متطلبات العصر التكنولوجية وتوجه الدولة في التحول الإلكتروني، حيث جُهزت قاعات المبنى بأحدث الأجهزة والمعدات الإلكترونية ومزودة بأنظمة تتيح للمتقاضين متابعة قضاياهم من خارج قاعة المحاكمة، ويحتوي على قاعة موحدة تمكن المتقاضين من متابعة سائر شؤون دعاويهم في مكان واحد بسهولة ويسر، ومن جانب آخر؛ فإن جلالته كان حريصا كل الحرص على أن تباشر المحكمة اختصاصاتها المنصوص عليها قانوناً ، وقد ثبت للمحكمة في عديد من المناسبات توجيهه -طيب الله ثراه- لذوي الشأن الذين لجأوا إليه بتظلماتهم في رفع تلك المظالم أمام القضاء الإداري لتباشر مهامها نحوهم ، وهكذا الشأن في تنفيذ أحكام المحكمة فقد حرص طيلة مسيرته العطرة على دعم تنفيذ الأحكام ، بما تلامسه بعض تلك الأحكام من موضوعات مهمة ، إيماناً منه بوجوب تنفيذ أحكام القضاء على النحو الذي يساهم في تأكيد مفهوم دولة المؤسسات والقانون ، ودعماً منه للعمل القضائي مواكبة للتطلعات والرؤى المستقبلية فقد ترأس المجلس الأعلى للقضاء عام 2013م بصفته رئيساً للمجلس، وقدّم جلالته فيه دعماً لا محدوداً في سبيل قيام المجلس بأعماله المنوطة به لرسم الرسم السياسة العامة للقضاء والعمل على حسن سير العمل وتطويره وتيسير الإجراءات وتقريبه للمتقاضين وتعزيز سيادة القانون وسرعة الفصل في القضايا على النحو الذي يحقق العدالة الناجزة ، وقد وجه جلالته فيه بإنشاء أمن المحاكم بعد مزيد من الدراسة ، وفي العموم يأتي إنشاء محكمة القضاء الإداري أحد إنجازات النهضة المباركة التي رسّخ جلالة السلطان الراحل- طيب الله ثراه - أركانها، ورسم طريقها وأهدافها ، فواكبت السلطنة بذلك الدول العصرية التي سبقتها في هذا المضمار، ورسّخت حضورها الفاعل في المحافل الإقليمية والدولية ، كما شهدت المحكمة تطورا ملحوظا وهي تلج عامها القضائي العشرين، سواءً من حيث عدد الدعاوى المسجلة أو نوعيتها والأحكام التي صدرت فيها، الأمر الذي كان له عظيم الأثر في مساهمتها في تصحيح بعض الممارسات الإدارية، ومعالجة حالات القصور التشريعي، من خلال ما رسّخته من مبادئ وأطر قانونية في كافة المجالات التي تدخل في اختصاصاتها، وقد كان لهذه المبادئ دور ملموس في الارتقاء بمستوى الممارسات الإدارية للجهات الحكومية، وفي مستوى الخدمات التي تقدمها هذه الجهات كذلك.

إن الاهتمام السامي من لدن مولانا المغفور له بإذن الله بهذه المحكمة كان المحرك الأول لدافع الحرص العالي لدى المحكمة ممثلة في رئاستها وأعضائها وموظفيها جميعاً على تطويرها وفق الإمكانات المتاحة على أكبر قدر ممكن، ولعل حجم الأحكام -كماً وكيفاً- الصادرة عن المحكمة لهي خير برهان على ما حصدته المحكمة من رعاية سامية من لدن جلالة السلطان قابوس ابن سعيد طيب الله ثراه.

■ المصدر:

محكمة القضاء الاداري