أفكار وآراء

متى يعود عباس للاجتماع مجددا مع ترامب؟!

15 فبراير 2020
15 فبراير 2020

د. عبد العاطي محمد -

ليس من السهل تجاهل تأثير الجوانب الشخصية في العلاقات السياسية بين الأفراد والحكومات خصوصا على المستوى الخارجي، فكم من الأزمات العالمية التي أمكن تحريكها من الجمود والذهاب بها إلى حلول مرضية لأطرافها بفضل توافر علاقات شخصية قوية بين قياداتها، والعكس صحيح.

ومن تابع كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام الاجتماع الاستثنائي للجامعة العربية على المستوى الوزاري، أدرك بوضوح أن هناك مشكلة في علاقة أبو مازن مع الرئيس الأمريكي ترامب، قد حالت وستحيل حتى نوفمبر القادم دون الإبقاء على أبواب الحوار مفتوحة بين السلطة الفلسطينية والإدارة الأمريكية عموما والبيت الأبيض خصوصا.

ومن المؤكد أن العلاقات الفلسطينية الأمريكية أكبر وأعمق من حصرها في العلاقة التي توترت بين أبو مازن وترامب، فما أكثرها من قيادات مرت في واشنطن منذ 1947 وقت أن كانت الولايات المتحدة أول الدول التي أعلنت تأييدها لقيام دولة إسرائيل، ومع ذلك فإن العلاقات التي تأسست فعليا في مؤتمر مدريد1991 لم تتأثر بتغير القيادات الأمريكية من حيث الحرص المتبادل من الطرفين: السلطة الفلسطينية والإدارة الأمريكية أيا كانت، على أن تظل أبواب التعاون مفتوحة، تتسع أحيانا وتضيق أحيانا أخرى حسب المستجدات التي من بينها قطعا شخصية الحاكم في البيت الأبيض. ولكن ما أعلنته السلطة الفلسطينية قبيل اجتماع الجامعة العربية وفور الإعلان الأمريكي عن «صفقة القرن» بقطع العلاقة مع الإدارة الأمريكية والبيت الأبيض، وتفسيرها لهذا الإجراء على لسان أبو مازن وهو يتحدث أمام الوزراء العرب يعد انقطاعا لم تسع إليه السلطة والأرجح أنها لم تكن ترغب في أسبابه من جانبها. ومع أن الإجراء بدا لمخاطبة الشارعين الفلسطيني والعربي ولاقى استحسانا بكل تأكيد على هذا المستوى، إلا أنه على المستوى الرسمي العربي لم تكن الغالبية تؤيده حتى في ظل اعتراضها أو تحفظها على هذه الصفقة، انطلاقا من أن الأزمات يجري التعامل معها بالتفاوض الذي يعنى بداهة وجود أطراف تقوم به. ومن ثم فإنه بافتراض أن هناك جهودا في اتجاه التعديل، فإن الإدارة الأمريكية من الطبيعي أن ترد باللامبالاة أو الرفض، لأن الطرف الآخر أي السلطة الفلسطينية غير موجود!.

ولكن من واقع كلمة أبو مازن، بدا الرجل وكأنه تعرض لخديعة كبرى من ترامب لم يكن يتوقعها، جعلته يشعر بمرارة شديدة وأفقدته الثقة في التعامل مع رجل البيت الأبيض القوي. فلأول مرة على مدى زمني طويل فتح الرجل النار على الولايات المتحدة غير مستثنٍ أحدا إلى أن وصل إلى ما كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بكشفه أن ترامب تعمد إحراجه عربيا وفلسطينيا بناء على أمور لم تحدث أصلا.

وما استعرضه الرجل سريعا وفقا لما يحتمله مقام الاجتماع عن تاريخ الولايات المتحدة مع القضية الفلسطينية، صحيح بكل تأكيد وهناك ما هو أكبر مما ذكره وأكثر سوءا أعظم وأضل سبيلا، ويعرفه القاصي والداني من المحيط إلى الخليج، إلا أن الغريب في الأمر هو أن الرئيس الفلسطيني وغيره في الاتجاهات الأربعة للمعمورة يعلم هذا جيدا بل ويتفهمه ويقبله كمعطيات رئيسة في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، وفي مسار عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين المتعثرة منذ سنوات، ومع ذلك تواصلت العلاقات الفلسطينية الأمريكية، بل كثيرا ما كانت السلطة تخرج على الملأ لتنفي أي توتر في هذه العلاقة في بعض محطات الصدام والخلاف وما أكثرها.

ما هو أكثر من ذلك أن عباس- وفقا لكلامه - التقى مع ترامب أربع مرات منذ بداية 2017 وجاء وفده الأمريكي إلى رام الله 37 مرة، بما يعني أن الطرفين وعلى الأخص الفلسطيني حرص على أن يبقى الباب مفتوحا.

وقد تم ذلك برغم أو إدارة ترامب سريعا ما كشفت عن وجهها الخشن تجاه السلطة الفلسطينية، وذلك عندما أغلقت مكاتب منظمة التحرير في واشنطن وأوقفت مساعداتها للأونروا (840 مليون دولار). ويقول عباس إن اللقاء الأخير الذي تم في نيويورك شهد تحديدا للمواقف عندما سأل أبو مازن عن الموقف من حل الدولتين ورد ترامب بالموافقة، وعن القدس ورد بأن الشرقية للفلسطينيين، وعن حدود 67 ورد موافقا حتى كاد الرئيس الفلسطيني يشعر بأن حل القضية الفلسطينية بات ممكنا في نصف ساعة!

وليس معلنا ما الذي كان يجرى في الـ 37 اجتماعا لفريق ترامب في رام الله، وقد كانت المدة كافية بين لقاء نيويورك وهذه الجولات المكوكية للكشف عن النيات الحقيقية لإدارة ترامب قبل أن تظهر للعلن وتحدث ما أحدثته من قطيعة، إلا أن شيئا من هذا لم يحدث.

ولكن ما حدث هو دفع العلاقة إلى المزيد من التدهور وتحديدا عندما قرر ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل وقام بنقل السفارة الأمريكية إليها، وكذلك التلويح بحق إسرائيل في ضم الجولان السورية المحتلة.

هنا يمكن الرجوع لدور الجوانب الشخصية في حسم توجهات الحوارات ومسارات الحل بين طرفين متخاصمين، فإن كان لها رصيد من الدفء عملت على التهدئة وفتح أبواب أخرى بدلا مما يتم إغلاقه.

وحسب رواية أبو مازن، فإن ترامب وقبيل إصداره التعليمات بإعلان صفقة القرن كان قد اتصل به وأخبره على الهاتف أنه سيعلن الصفقة وقطع الاتصال سريعا دون أن يترك مجالا للتعقيب، لم يكن تصرفا مقبولا بالقطع من رئيس دولة كبرى ووضعت نفسها طرفا لحل قضية شائكة، ولكنها هي اعتبارات شخصية ترامب الحادة المستندة لاستعراض القوة التي أملت عليه هذا التصرف.

وبعد إعلان الصفقة سعى الرئيس الأمريكي للتواصل مع أبو مازن لأكثر من محاولة (هاتفيا وبرسالة) ولكن الأخير رفض، وفسر رفضه للوزراء العرب حتى لا يتكرر معه ما حدث في المرة السابقة أي أن يخرج الرئيس الأمريكي ليقول كلاما على لسان الرئيس الفلسطيني لم يحدث من جانبه!

ومما زاد من استياء أبو مازن أن الجملة الأولى في الصفقة أشارت إلى أن القدس لم تعد فلسطينية بل إسرائيلية بامتياز بغض النظر عن حرية العبادة لأصحاب الديانات الثلاث، فالسيادة كاملة تحت وفوق الأرض لإسرائيل. ولا سياسيا ولا أخلاقيا ولا دينيا يستطيع أي مسؤول عربي كان من يكون يقبل بهذا الوضع. لم يقبل عرفات بشيء من هذا القبيل في نهاية حكم كلينتون (2000) خلال المفاوضات التي رعاها بين أيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك وعرفات. ووقتها عرض عرفات الأمر على الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك الذي رفض تماما أي تنازل في هذه القضية تحديدا.

المشكلة الرئيسة هنا أن الرئيس الفلسطيني تيقن تدريجيا أن الرئيس الأمريكي يقصيه من حساباته أيا كانت وطأة هذه الحسابات، كان اللقاء الأول مبشرا وكذلك الرابع، وبعد ذلك انقلب ترامب وولى شطره كاملا نحو صديقه نتانياهو. وبرواية أبو مازن نفسه فإن هناك محاولة للوساطة قد جرت بعد إعلان الصفقة ولكنها لم تنجح، والسبب – بمنطق التحليل - يرجع إلى أن كل من الرجلين أعطى ظهره للآخر.

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: هل القطيعة دائمة أم لا تزال هناك فرص للعودة؟

والإجابة أنه في عالم السياسة لا يمكن الحديث عن خصومات أو صداقات دائمة وإنما عن مصالح دائمة. وعليه فإن القطيعة بين الجانبين الفلسطيني والأمريكي قد تطول أو تقصر ولكنها لا تتحول إلى دائمة. والرئيس الفلسطيني نفسه قال إن له شروطا هي توضيح الموقف الأمريكي من حل الدولتين ومن القدس ومن الشرعية الدولية، وواضح أن هناك شرطين أفصحت إدارة ترامب عنهما عندما أيدت حل الدولتين واعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل.

وواضح أن الجانب الفلسطيني يرتاح للموقف الأول أي حل الدولتين بل يوافق على دولة فلسطينية منزوعة السلاح! برواية أبو مازن شخصيا. ولكنه يرفض الموقف الأمريكي من القدس، ولا يزال ينتظر تصرفا أمريكيا يؤكد أن واشنطن تحترم الشرعية الدولية (هذه الشرعية التي ترفض ضم الأراضي المحتلة بالقوة).

من حيث اعتبارات الزمن يصعب الحديث عن إمكانية عودة المياه إلى مجاريها سريعا على الأقل حتى نوفمبر المقبل عندما يتم إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية، هذا بغض النظر عن نتائج الانتخابات الإسرائيلية المقررة في مارس المقبل لأن الرئيس الفلسطيني أكد الاستعداد للتفاوض مع أي حكومة إسرائيلية. وهناك من يرى أن نجاح ترامب وبقائه في السلطة حتى 2025 يعزز نفاذ صفقة القرن بكل مخاطرها، ولكن هناك من يرى العكس بأن نجاحه يجعله أكثر قبولا لتعديل خطته وخصوصا في مسألة القدس، لأنه سيكون أمام الفرصة التاريخية التي حلم بها كل الرؤساء الأمريكيين السابقين وهي طرح حل مقبول لكل الأطراف للقضية الفلسطينية. لن يكون في أزمة على الصعيد السياسي الداخلي مثلما هو الحال الآن. بما يعني أن الصفقة كانت بهدف الترويج مبكرا لحملته الانتخابية ليس إلا.

وبالعودة لأهمية العامل الشخصي يصبح ترامب أقل حدة وتصلبا وفجائية في إعلان مواقفه من قضايا الشرق الأوسط. وإلى أن تقترب الانتخابات الأمريكية فإن الجانب العربي مطالب بما هو أكبر من تأييد الرفض الفلسطيني لصفقة القرن، وذلك باستثمار العلاقات العربية الأمريكية في تصحيح المسار الذي يجري التخطيط له عبر هذه الصفقة، على الأقل استنادا إلى ما هو معلن من الإدارة الأمريكية ذاتها بأنها موضع تفاوض وليست اتفاقا ينتظر جلوس أطرافه للتوقيع. وقتها من المنطقي أن تشهد العلاقات الفلسطينية الأمريكية مصافحة جديدة بين عباس وترامب.