Untitled-2
Untitled-2
المنوعات

مرفأ قراءة ...في ذكراه .. يوميات «هيكل» الصحفية

15 فبراير 2020
15 فبراير 2020

إيهاب الملاح -

-1-

أربع سنوات مضت على رحيل الكاتب والصحفي العربي الأشهر محمد حسنين هيكل (توفي في فبراير 2016) ورغم ذلك فما زال حضوره وتراثه وأثره الصحفي والفكري، يشغل الناس ويجتذب المهتمين والباحثين والمتخصصين، على السواء.

-2-

سألني مرة صديق صحفي شاب: ماذا ترشح من كتب الأستاذ هيكل كي أبدأ به؟

فأجبته حينها: دعني ابتداء أؤكد أن كل كتب هيكل بلا استثناء قيّمة وممتعة، وتستحق القراءة.. لكني سأجتهد في اختيار ما أتصور أنه يمثل مدخلًا مناسبًا لما كتب في القرن الأخير، نتفق أو نختلف حول آرائه السياسية أو الفكرية، نتفق أو نختلف حول أدواره في السياسة، والإعلام، والمجال العام بل حتى حول بعض تحليلاته السياسية في سنواته الأخيرة قبل رحيله، لكننا لن نختلف أبدًا، فيما أظن، حول القيمة العملية والتاريخية بل الأدبية لتجربته الصحفية كلها، وحول أسلوبية كتابته الفريدة، ولا المدرسة الصحفية التي أسسها وارتفع ببنائها وطوابقها لغاية لا تحد..

لا يمكن لأحد أن يتجاهل قدرات هيكل السردية، إنه يمزج ببراعة الصحافة بالتاريخ بالتحليل السياسي، ويقدم نصًا مدهشًا لا تنقصه الدراما ولا تغيب عنه المفارقة، وبناء المشهد، واستغلال فذّ لجماليات العبارة العربية من حيث حسن التقسيم وبراعة العرض واعتماد المقابلة وإيحاءات المفردات.. إلخ. إنه يكتب عن الحاضر وعينه دائما على الماضي لاستقصاء الجذور وربط التفاصيل ببعضها البعض وردها إلى أصولها، وكشف الدوافع والمبررات لوقوع الأحداث أو تفسير سير الحركة في نهر التاريخ كما جرى أو يجري!

وبما أنك سألتني، فإنني سأختار ما أتصور أنه يكتسب أهمية خاصة لطبيعة موضوعه، وطبعًا أسلوبه البديع الذي ما زلتُ عند رأيي بأنه من أجمل وأمتع الأساليب الكتابية لأهم كاتب صحفي عربي في القرن العشرين، يأتي هذا الكتاب في وقته تمامًا، «اليوميات» الذي يعيد قطاع الثقافة والنشر بمؤسسة أخبار اليوم المصرية نشره، في ذكرى رحيله الرابعة، مجلد ضخم يقترب من الألف صفحة يضم «اليوميات» التي كان يكتبها الأستاذ هيكل خلال الفترة من عام 1955 إلى عام 1957.

-3-

ورغم ضخامة الكتاب وعدد صفحاته اللافت، فإنه ممتع وسلس للدرجة التي سيدهش منها قارئ الكتاب حينما يجد نفسه قد أنجز قراءته كاملا في ليلة أو اثنتين أو ثلاث ليال على الأكثر، شغوفا ومستمتعا بأسلوب هيكل الذي لا يُبارى جمالا وأناقة وسلاسة من الصعب تقليدها!

ولعل ذلك، فضلا على اتساع نطاق الرؤية لديه، كان يعود إلى الموهبة الذاتية والخبرة والاطلاع على تجارب الصحافة الغربية المتقدمة، واحتكاكه المباشر بعدد من كبار الصحفيين العالميين، (كان هيكل يلح دائما على أثر الثلاثة الأهم في حياته ومسيرته الصحفية، وأصحاب الفضل فيما تعلمه في بداياته: العقلانية، من هارولد إيرل رئيس تحرير «الجازيت». والرومانسية، من سكوت واطسون سكرتير تحريرها. وحلاوة الأسلوب وسلاسته من رائد الصحافة المصرية محمد التابعي).

لقد كان ثمة إجماع على أن ثقافة هيكل الأدبية والتاريخية والفكرية «مذهلة»، وأنه كان قارئا نهما (وبالمناسبة فقد حاول نظم الشعر شابا)، لكنه قنع في النهاية بالانخراط بكامله في الكتابة السياسية، لكنه ظل على حاله ماكينة قراءة نشطة بلا انقطاع.

-4-

في هذه اليوميات، يجافي هيكل السياسة، إلا قليلا، ويظهر هيكل المثقف البارع والعاشق للفن والفنون والكتابة المبدعة، هذا الوجه الذي ظل متواريا خلف نجاحات هيكل الصحفي، والمؤرخ، ومدير المؤسسات العملاقة، ورجل السياسة الدولية.

تتميز «اليوميات» بتنوع موضوعاتها بين الأدب والفن مع قليلٍ من السياسة (بتعبير محرر الكتاب)، أي أنها تقدم لنا وجهًا آخر من وجوهه، بعيدًا عن السياسة: المثقف، العارف بأسرار الفنون ، وأدوات الفنان التي لم يتخل عنها، حتى وهو يكتب أعقد الموضوعات السياسية، وهي الصفة التي اكتسبها من بداياته ككاتب يطمح لنظم الشعر وكتابة القصة القصيرة وربما الرواية فيما بعد (كان نجيب محفوظ يقول إن هيكل روائي من طراز فريد ضل طريقه إلى الصحافة).

وكان هيكل نفسه يقول «إنني واحد من الذين يعتقدون أن الفن هو الأب الحقيقي للثقافة في جميع مجالاتها، ثم إن الفنون التشكيلية هي الحلقة الرئيسية في قصة الصعود المدهش ـ على سلم الحضارة الإنسانية».

في هذه اليوميات سيتبدى لقارئها ما قام به هيكل مهنيا وأسلوبيا وتحريريا بشكل عملي، وقبل بروزها كالشمس في فترة تألقه وازدهاره في الأهرام عبر مساحته الأشهر «بصراحة»، لقد ارتفع هيكل بفن الممارسة الصحفية إلى مستوى الفعل الثقافي، وحرص على أن ينأى بالصحافة عن أساليب الابتذال السياسي والمهني (التي أصبحت الآن للأسف مدخلًا للاقتراب من السلطة والحصول على عطاياها والصعود في سلم العمل الصحفي، على حد تعليق الراحل الكبير سلامة أحمد سلامة).

وبينما نجح هيكل في أن يجعل الصحافة مدخلًا وهدفًا نبيلًا للثقافة السياسية، فقد بقي إنتاج المعرفة لديه من خلال تقديم قراءة نظرية للممارسة السياسية، أو عن طريق استباق القرار السياسي، أو تحليله وتبريره في ضوء الضرورات والظروف الواقعية والمعلومات التي يجهلها أو يحجبها صانع القرار أحيانًا استهانة بذكاء الناس أو خوفًا منه، هو شغله الشاغل، وهمه الأول، وموطن تميزه، ومجال تفوقه، بحيث أصبحت حاجة صانع القرار إليه أكثر وأشد من حاجته كصحفي إلى صانع القرار.

-5-

عشر سنوات بكاملها قضاها هيكل في مؤسسة أخبار اليوم (1946-1956) وهي السنوات الخصبة التي شهدت بزوغ نجمه كصحفي لا يُبارى، ورسخت اسمه بين أبناء جيله والجيل الأسبق كنموذج للصحفي بألف لام التعريف، فيها وضع هيكل الأساس لأي شيء وكل شيء يمكن أن يصل إليه مهنيا، وفيها بتعبيره «عرفني الناس وقرأوا لي، وفيها وصلت بالفعل إلى مكان الرجل الثالث بعد صاحبيها»، يقول هيكل عن هذه الفترة:

«كانت أخبار اليوم هي محور حياتي كلها، وتحولت العلاقة التي تربطني بأصحابها إلى ما يشبه علاقة أخوة خصوصًا بالنسبة لعلي أمين الذي كنت شاهد زواجه الأول، ثم أصبح بدوره شاهد زواجي بعد ذلك سنة 1955».

وفي العامين الأخيرين له في أخبار اليوم (1955، 1956) وقبل انتقاله إلى الأهرام في 1957، ستشهد صفحاتها يوميات هيكل المتنوعة البديعة. يصف الأستاذ عبدالله السناوي الملمح الأبرز في كتابة هيكل ليومياته في هذه الفترة بقوله «وفي تغطياته للصراعات والحروب لصحيفة «أخبار اليوم» اعتمد الأستاذ على المعلومات والأوراق، لا الآراء والانطباعات، قبل أن يستكمل مقومات أسلوبه.

وفي أول إطلالة له ككاتب «يوميات» على قرائه دخل من باب الثقافة بمعناها الواسع، لا من باب السياسة والأخبار. وهو في الثانية والثلاثين من عمره بدأ أسلوبه يكتسب شخصيته. وتبدى حسٌّ دراميٌّ لازَم مجموعةَ اليوميات بين عامي 1955، و1957 قبل أن يذهب لرئاسة تحرير «الأهرام» وكتابة مقاله الأسبوعي «بصراحة» كل جمعة.

وتكاد مجموعة يومياته، المحفوظة على «ميكروفيلم» في مؤسسة «أخبار اليوم»، أن تكون بروفة نهائية لما سوف يكون عليه أسلوبه فيما بعد». فيما أتصور فإن يوميات هيكل هي المدخل الأنسب لكل صحفي مبتدئ طامح لأن يبحث عن صوته ويهتدي بتجربة واحد من أهم وأنصع التجارب الصحفية في عالمنا العربي لما يزيد عن القرن.