أفكار وآراء

مصير المسؤولية الاجتماعية

12 فبراير 2020
12 فبراير 2020

مصباح قطب -

مدى فاعلية برامج المسؤولية الاجتماعية سؤال يستحق أن يتم طرحه للحوار والنقاش . لكن ثمة سؤال آخر بدأ يظهر على شاشات علامات الاستفهام هذه الأيام ألا وهو : ما مصير المفهوم نفسه وما يرتبط به من أنشطة وممارسات وتمويلات وتأثيرات؟ لقد لاحظ خبراء ومتابعون لمجتمعات الأعمال والشركات العالمية والمحلية الكبيرة أن هناك نوعا ما من الربط بين نشأة وبروز مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات ( سي اس ار ) وبين تنامي ظاهرة التخطيط الضريبي الضار والجنب، أو بمعنى آخر اللجوء إلى ملاذات ضريبية تدفع فيها الشركات اقل ما يمكن دفعه من ضرائب في مواقع نشاطها الأساسي، وأيا ما كان الموقف اتفاقا واختلافا مع ما يقوله هؤلاء، فالحادث أن التزامن بين الظاهرتين حصل بالفعل . أي دفعت الشركات ضرائب اقل فوجدت أن من واجبها على الأقل أن تعيد ضخ جزء من الوفورات تلك إلى المجتمع وعيا منها في النهاية أنها لا تعمل في فراغ ومن المهم أن تلقى قبولا في الأواسط التي تعمل فيها ، وفي الأقل تتجنب أن تتعرض لمخاطر ولذا نشأت ال «سي إس آر» . ولقد أصبحنا ذات يوم وبشكل موسع على شعار المسؤولية المجتمعية وواجب الشركات تجاه الموردين والزبائن والمستهلكين والقوى العاملة والبيئة والمجتمع المجاور وواجبها في حوكمة أعمال مجالس الإدارات والجمعيات العمومية الخ . وكأن كل ذلك لم يكن موجودا من قبل أو على الأقل الحد الأدنى منه، وبغير أن يسمى مسؤولية اجتماعية. بكل تأكيد هناك شركات بلا عدد قامت بذلك عن قناعة وبدوافع طيبة، وفعلته حفاظا على مصداقية ومكانة أو زيادة في الإقبال عليها لاعتبار ما تتميز به من بُعد اجتماعي وأخلاقي في ممارستها، ويقابل ذلك أن أعدادا أخرى وبلا حصر أيضا تماشت مع الموجة دون جدية كافية أو بشكل مظهري أو حتى لتقليل الوعاء الضريبي أكثر وأكثر وحيث التبرعات معفاة عند حدود معينة. الخاطر أو التساؤل الجديد الذي قفز إلى ذهني وأشرت إليه في صدر المقال، خلال حضور مناقشات مع خبيرة أمريكية سأشير إلى حديثها فيما بعد هو أنه ماذا سيحدث مع انتهاء منظمة دول التعاون الاقتصادي والتنمية من كل ما تقوم به من اتفاقيات وبرامج وإرشادات شبه ملزمة في سبيل مكافحة تآكل الوعاء الضريبي ومنع التهرب والتجنب الضريبيين ؟ . هل ستستمر الشركات في الحديث عن ممارسة المسؤولية الاجتماعية ومقتضياتها وبنفس المستوى أم ستقول وقتها إنها تدفع ما عليها من ضرائب وتقوم بتشغيل عمالة وهذا هو واجبها الاجتماعي الأصيل وكفى، أما العمل الاجتماعي أو الخيري فله وقته او يمكن القيام به في حدود دنيا، وله متطلبات أخرى ويمكن أن يمارسه من يشاء سواء من أصحاب الشركات أو ملاك الأسهم أو المواطنين العاديين، كل بطريقته وحسب ظروف المجتمع المحيط به؟ . أتصور أن الشركات ستنهج نهجا مختلفا حيال الـ : «سي اس آر « او سيبتكر لها المبتكرون خطابا جديدا بشأن دورها في المجال الاجتماعي يكون أقل كلفة أو له توجه آخر، هذا مع العلم انه حين كان يقال إن أهم مسؤولية اجتماعية على الشركات هي أن تدفع ما عليها من ضرائب وكفى، كان الكثيرون من أهل الشركات انفسهم يقولون إنه يحب طبعا أن تكون معدلات الضريبة مقبولة وجاذبة للاستثمار ومشجعة، ولكن وفي كل الحالات لا بد أيضا من القيام بدور اجتماعي. لكن ماذا سيحدث لو حصل توقف الكلام عن المسؤولية الاجتماعية وأنشطتها ومارستها التقليدية الكائنة الآن؟ هناك سيناريوهان الأول أن يعود العمل الاجتماعي الى عمل خيري بالمعنى الدقيق والطبيعي . ماذا تقصد بالطبيعي ؟. الطبيعي هو من لديه فائض مالي أو فائض في الأصول او حتى العلم ( هناك من يرى ان زكاة العلم والمعرفة قد تفوق زكاة المال )، يقدمه إلى الأهل أو الجيران أو الأقارب أو المحيطين أو حتى المستحقين ولو كانوا في بلد آخر داخل الدولة او في دولة أخرى - في حالة الكوارث الإنسانية التي تهز الضمير العام الوطني أو العالمي... يفعل ذلك وكما يقول الدين والحس السليم دون أن يعلن عن نفسه أو يعني بأن يعلن. ألم يكن ذلك هو السائد طوال تاريخنا ومازال في قطاعات واسعة ومتنوعة من المجتمع ؟ . قبل أن أشير إلى السيناريو الثاني ألفت إلى ظاهرة لم يتم بحثها وهي أن جمعيات أهلية أو مؤسسات مجتمع مدني خيرية كثيرة تحولت إلى ما يشبه الشركات وبدعوى استقدام خبراء ومحترفين أصبح يتم دفع أجور خيالية للقائمين عليها من مدير وأطقم، وأصبح بعضها يعلن في الميديا بعشرات الملايين بلا أي مبالغة، وبأرقام تفوق أحيانا ميزانية إعلانات شركات كبيرة .. وتكونت في الثنايا مصالح بين الشركات المانحة لبعض تلك الجمعيات وأصحاب الجمعيات أو مديريها، بحيث يتم تبادل مصالح بين رجال مال وسياسة دون اهتمام حقيقي بتغيير المجتمع او التخفيف من معاناة الناس البسطاء . هذا في ظني ليس هو العمل الخيري، والأولى بمن يمارسه بهذا النهج أن يفتح شركة ويباشر «البزنس» وكل نشاط أعمال سليم في التقدير العام فيه بُعد اجتماعي ويكفي أنه يفتح بيوتا ويوظف أناسا ويدفع ضرائب، ويمكن عندما يرزقه الله أن يتبرع بفائض إذا أراد الخير الحقيقي والفعال وأيضا دون إعلان أو ظهور. . قد نختلف أو نتفق حول ذلك لكن يقينا العمل الاجتماعي أو الخيري يجب أن يتم صرف كل أمواله على غير القادرين وليس على أجور أو إعلانات أو مجاملات بصرف النظر عن الشكل . ماذا لو احتاجت جمعية إلى خبرة نادرة لها سعر كبير في السوق ؟ . هنا مجال ليتطوع الخبراء الذين أدوا رسالتهم في الحياة وزوجوا أبناءهم وكونوا مستقبلا طيبا لهم ويريدون أن يختموا عمرهم بعطاء وبذل لوجه الكريم فيقومون بذلك . أعود إلى السيناريو الثاني ومعه حديث السيدة الأمريكية والذي فجّر كل هذا النقاش . لقد عقد المركز المصري للدراسات الاقتصادية منذ أيام محاضرة بعنوان: «الاستثمار المؤثر بين الأساطير والحقائق»، تحدثت فيها المؤلف والخبيرة ‏‏مورجان سايمون الشريك المؤسس لمجموعة «كانديد»، وهي لديها خبرة امتدت لأكثر من 18 عاما في مجال الاستثمار المؤثر، وهو نفسه مفهوم جديد تماما ينطوي على العديد من الأسئلة والتناقضات .

كشفت سايمون أن الأسر الغنية في أمريكا كانت في الماضي تنشئ المؤسسات الخيرية اعتقادا كطريقة للإعفاء من الضرائب. ولم تكن هذه الأسر في الحقيقة مهتمة بتحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن 12% فقط من هذه الأموال حقق تأثيرا اجتماعيا إيجابي . ما البديل؟ البديل عند سايمون هو منح الجميع من محدودي الدخل فرصة ممارسة الأعمال بأنفسهم وتكوين الأصول وإدارتها بالتعاون مع البنوك والشركات الكبيرة، ولكن وفق مفهوم الاستثمار الفعال، أي الذي يرمي إلى إحداث التوازن بين تحقيق الربح والتأثير الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الإيجابي، عبر احترام مبادئ : إشراك المواطنين في قرار الاستثمار، وأن يهدف الاستثمار إلى تحقيق قيمة مضافة، والتوازن بين الاستثمار الاقتصادي والمالي والعدالة الاجتماعية .

إنه تقريبا نوع جديد - والحكم من عندي- من ملائكة الأعمال أو رواد الأعمال الملائكة وهو في كل الحالات ومع كل حسن النوايا لا يمكن أن يحل معضلة التوازن بين الاقتصادي والاجتماعي من جهة ولا مشاكل الأفراد أو المجتمع من جهة أخرى وقد يكون العمل الخيري المدروس أي الموجه مثلا إلى التكفل بتعليم أبناء الفقراء في صمت أفضل منه. لكن كل خطاب جديد يحتاج إلى وقت عموما لاختبار جدواه الفعلية، فالسيدة سايمون قالت إن نهج الاستثمار الفعال بدأ في ٢٠١٣. وإلى حين ذلك فظني أن هذا الخطاب قد يكون البديل الجاهز ليحل محل خطاب المسؤولية الاجتماعية في السنوات المقبلة.