أفكار وآراء

تداعيات اقتصادية أوسع من حجم الخطر الحقيقي

10 فبراير 2020
10 فبراير 2020

صلاح أبو نار -

في الثلاثين من يناير أعلنت منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ العالمية، في مواجهة انتشار «فيروس كورونا المستجد» الذي اعتبرته تهديدًا صحيًا عالميًا.

وفيما نرى يشكل هذا الإعلان في جوهره إجراء وقائيا، في مواجهة تهديد صحي لا يزال مجهول الخصائص، لكنه حتى الآن شبه محصور في الصين وخاضع للسيطرة داخلها. ولقد صدر عن المنظمة ما يرجح صحة هذا الافتراض.

إذ ترددت قبل إعلان الطوارئ، وانتقدت عمليات التعليق الجماعي لرحلات الطيران للصين كعمل لا ضرورة له، وأكدت ثقتها في سيطرة الصين على الوضع، وأوضحت أن مصدر خوفها الأساسي هو تسرب الفيروس إلى دول ذات نظم رعاية صحية ضعيفة. والأرجح أن الفيروس الجديد سيظل محدود الانتشار والخطورة عالميًا، وسوف تحافظ الصين على قدرتها على محاصرته داخليًا، وأن الوصول إلى حل جذري له لن يستغرق فترة طويلة.

ولكن من هنا حتى التعرف على خصائصه كليا، والتوصل إلى علاج مراحلة الخطرة ولقاح وقائي، سوف تكون له تداعيات اقتصادية وخيمة لا تستمد أسبابها من خطورة الوباء، بل أساسا من حجم الاقتصاد الصيني وتشابكاته العالمية.

ينتمي الفيروس لفصيلة واسعة الانتشار تسبب أمراضًا كثيرةً، تتراوح بين نزلات البرد والاعتلالات الأشد وطأة، مثل متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس) ومتلازمة الالتهاب الرئوي الحاد الوخيم (سارس).

ما هي أبعاد انتشار الفيروس الجديد داخل الصين وخارجها؟

سنعتمد على البيانات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، وبالتحديد التقارير التي تواصل أصدارها يوميا من 21 يناير. ولكن ينبغي ملاحظة أن كل البيانات المتعلقة بالصين مصدرها الحكومة الصينية. وسوف نجد داخل بعض مصادر الصحافة العالمية نوعا من الشك في دقتها. ولكن هذا الشك لا نرصده إلا قليلا، ولم تظهر منظمة الصحة العالمية أي تحفظ على دقة البيانات الصينية.

جاء أول إعلان رسمي صيني عن الوباء في 31 ديسمبر 2019 بالإشارة لوجود 44 إصابة في مدينة ووهان بمقاطعة هوبي. وفي 11 يناير أشارت لاكتشافها نوع جديد من الفيروسات، ثم أعلنت في 7 يناير نجاحها في عزلة، وفي 12 يناير أعلنت أنها أرسلت خصائص الفيروس لبعض البلدان للمشاركة في تطوير علاج له.

ماذا بشأن معدلات انتشار الفيروس؟

هناك أكثر من ملاحظة.

تتعلق الأولى بمعدل انتشار الفيروس داخل الصين. في 21 يناير وصل عدد الإصابات الصينية المؤكدة 278 إصابة، ثم أخذت تتصاعد حتى وصلت في 31 يناير إلي 9720 إصابة، ثم تواصل صعودها لتصل في 5 فبراير إلى 24.363 إصابة. ولوحظ أن معدل زيادة الإصابة اليومية يتصاعد، إذ كانت الزيادة التي تحققت يوم 23 يناير 262 فقط، بينما وصلت زيادة 30 يناير إلى 2839، لتقفز الزيادة في يوم 5 فبراير إلي 3832 إصابة. وبدأت الوفيات الصينية بست وفيات يوم 22 يناير، واطردت حالات الوفاة يوميا لتصل في 5 فبراير إلى 481.

وثاني الملاحظات تتعلق بنمط الانتشار الجغرافي داخل الصين. وفقًا لبيانات 5 فبراير توزعت الإصابات بين 34 مقاطعة بمعدلات شديدة التفاوت. كان نصيب هوبي وحدها 16.678، وبقية الولايات 7658 إصابة. وبمطالعة الجداول يمكننا توزيع الإصابات خارج هوبي بين أربع فئات.

أولى (15 مقاطعة) تراوحت إصاباتها بين 1- 89 ، وثانية (5 مقاطعات) تراوحت إصاباتها بين 122 -190، وثالثة (7 مقاطعات) تراوحت إصابتها بين 205 -366، ورابعة (6 مقاطعات) تراوحت إصاباتها بين548 -895.

وثالث تلك الملاحظات تتعلق بمدي ونمط انتشار الفيروس خارج الصين. بدأت الإصابات في 21 يناير بأربع إصابات موزعة على ثلاث بلدان شرق آسيوية، وانتهت في 5 فبراير الى191 إصابة موزعة على 24 بلدًا، وسجلت وفاة واحدة. وبالنظر إلى موقع بلدان الإصابة يوم 5 فبراير، سنلاحظ أن نصفها الأول والأكثر إصابة يقع جوار الصين أي شرق أو جنوب شرق آسيا، والنصف الآخر والأقل إصابة موزع على دول بعيدة عن الجوار الصيني. وبالنظر إلى حالات الإصابة في تلك البلدان في نفس اليوم، سنلاحظ أنه من ضمن 191 إصابة هناك 134 لأصحابها صلات سفر سابقة مع الصين، و57 ليس لها صلات سفر سابقة مع الصين.

وسنخرج من التحليل السابق بعدة نتائج.

تفيد الأولى أن الفيروس موطنه ونقطة انطلاقة في الصين، لكن خطورته شديدة التفاوت داخلها. وبالنظر لحجم الصين وكثافة اقتصادها وسيولة المواصلات، يبدو الفيروس تحت السيطرة الكاملة رغم ارتفاع معدل انتشاره.

وتفيد الثانية أن الفيروس تحت السيطرة خارج الصين، فرغم كونه أكثر انتشارًا في جوارها الجغرافي وبين الفئات التي لها صلات سفر بالصين، سنجد في محدودية انتشاره مؤشرًا صلبا على السيطرة العالمية عليه.

وتفيد الثالثة بأن تلك السيطرة لا تعني بالضرورة قصر دورته. فلقد استمرت دورة سارس ستة أشهر رغم ضعفه قياسًا على الفيروس الراهن. والأرجح أن دورته ستكون أقل من سارس، وخلالها قد تصل إصاباته ووفياته إلى أضعاف المعدل الراهن، لكنها ستظل تحت السيطرة الصينية المحكمة. وتفيد تقارير شهود العيان أن السلطات الصينية نجحت في أخطر التحديات، وهي إجراء عمليات عزل صحي للمناطق كثيفة الإصابة، مع النجاح في التوفير المنظم والكامل لاحتياجات الأهالي، وبالتالي ضمان تعاونهم الكامل مع تواصل العزل لفترة أطول.

والأرجح أن خطورة الفيروس اقتصادية أساسًا، إلا أن معدلها يصعب تقديره؛ لأننا مازلنا في قلب الحدث، لكننا سنستخدم المؤشرات المتوفرة.

يمثل حجم الاقتصاد الصيني الراهن ثمانية أضعاف حجمه خلال وباء سارس الذي استمر 6 أشهر، ووصلت الخسائر 40 بليون دولار، وانخفض معدل النمو بنسبة 0.1%. وبالتالي يتوقع أغلب المراقبين خسائر أعلى وانخفاضا أكبر في معدل النمو. وتنبع التوقعات من حالة الشلل المتفاوتة، التي حاقت بقطاعات منه نتيجة لفرض الحظر الصحي على المناطق كثيفة الإصابة، والتقييد العام والمتفاوت للحركة البشرية والنشاط الاقتصادي على نطاق أوسع داخليا وبين الصين والعالم الخارجي.

ماهي مؤشرات هذه التوقعات؟

تنوه التحليلات أنها توقعات نسبية يتوقف مداها وصدقها على مدة الوباء وسياسات الدولة. داخل الصين توالت المؤشرات السلبية. كان المشهد العام يسير هكذا: مناطق الإصابة الكثيفة توقفت فيها وسائل النقل العام، وشركات كثيرة توقف أعمالها مؤقتًا، ودول قررت سحب رعاياها، ومدارس وجامعات مغلقة إلى حين، وشركات طيران عالمية وشحن بحري أوقفت رحلاتها. وكل ذلك كانت له تداعياته.

عندما افتتحت البورصة الصينية بعد انتهاء إجازة رأس السنة القمرية، سجل مؤشر داو جونز هبوطًا من 603 نقاط يوم 31 يناير إلى 350 نقطة في 3 فبراير، وهبط مؤشر سوق شنجهاي المركب بنسبة 8%، رغم قرار البنك المركزي بضخ سيولة مقدارها 174 بليون دولار.

وسجلت التقارير أن بعض الشركات العالمية قررت مؤقتًا إيقاف عمل فروعها في الصين، منها شركة تيسلا التي أوقفت مصنعها في شنجهاي، وشركة هونداي التي أوقفت العمل في مصنعها، وشركات ايليكترولوكس وبيجو ستروين وديري وكوالكوم وآبل وولمرت ومكدونالدز وكنتاكي وغيرها. وانعكس هذا على الطلب الصيني على النفط.

تعتبر الصين أكبر مستورد للنفط، وقدر استهلاكها في ديسمبر 2019 بحوالي 10.78 برميل يوميا، أي 10% من الناتج العالمي. وتبعا لتقرير لبلومبرج هبوط الطلب الصيني مع هبوط الإنتاج 3 مليون برميل يوميا، واضطرت شركة سينوبيك لتكرير النفط لإلغاء بعض صفقاتها وبيع أخرى. وانعكس هذا على توقعات نمو الاقتصاد الصيني خلال الربع الأول من العام . وهكذا يتوقع المحللون انخفاضه من 6.1% إلى 5.4% أو 4%. ولكن الجميع لا يجزم بمسار الانخفاض خلال بقية العام، ويذكرون أن الأمر يتوقف على مسار الأحداث وسياسات السلطات.

وماذا بشأن الاقتصاد العالمي؟

من السهل عند رصد أسماء الشركات الدولية السابقة، أن نستنتج أن كل خسارة صينية خسارة دولية أيضا. ويخبرنا معلق أن شركة كوالكوم الأمريكية تعتمد على مائة شركة صينية كمصدر لمكونات سلاسل الإنتاج. ويضيف آخر أن توقف الإنتاج في صناعات صينية معينة، أدى إلى توقف إمداد الشركات الأمريكية بقطع الغيار التي تحتاجها.

ويلاحظ ثالث أن تباطؤ إنتاج الشركات الصينية الخالصة ألحق أضرارا بشركات عديدة في الخارج، وعلى سبيل المثال هبط سعر خام الحديد الأسترالي المصدر للصين بنسبة 10%. والأخطر أن الصين لديها أكبر طبقة وسطى في العالم، وسيؤثر التدهور في أنماط استهلاكها على عوائد سلع عالمية كثيرة. تكسب شركة كوالكوم الأمريكية 48% من دخلها من السوق الصيني، والصين اكبر سوق سيارات عالمي، وفي 2018 استحوذ الصينيون على ثلث مبيعات الرحلات السياحية العالمية. وهكذا اضطرت شرطة ستاربوكس لإغلاق نصف فروعها في الصين، ويقدر انه لو استمر توقف توافد الطلاب الصينيين ستة اشهر سيخسر التعليم الأسترالي 6 - 8 بليون دولار، وعلى مدى الشهر الأخير فقدت اسهم شركات الطيران ما يزيد عن 10% من قيمتها. وربما كانت النتيجة الأهم هي التأثير على أسعار النفط العالمية. خلال شهر يناير وحتى 4 فبراير هبط سعر خام برينت 17% وخام عرب تكساس 18%، وهو ما دفع الأوبك للتفكير في عقد اجتماع طارئ.