أفكار وآراء

الندرة .. فعل بشري بامتياز

09 فبراير 2020
09 فبراير 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

كيف يواجه صاحب القرار معضلة الحاجة في ظل تموضع الندرة، وتسيد الرغبة لدى قطاع كبير من أفراد المجتمع، بناء على حالة «ناعمة» قدر لها أن تعمر طويلا في حاضنة الذاكرة الاجتماعية؟

خلال الأسبوع الماضي تداول مستخدمو التواصل الاجتماعي الـ«واتس أب» صورًا لأطفال لم يوضح انتمائهم الجغرافي، أهم من الشرق أو من الغرب، فقط أنهم بشر؛ ولعل ذلك يكفي؛ عليهم ثياب ممزقة، ووجوده كسرت نضارتها المأساة، وأجسام ناحلة أنهكها الجوع والتشرد، وكتبت عليها تعليقات كثيرة تستجدي الرحمة والعطف، والعون، والترحم، والهدف من ذلك استدرار العواطف من قبل من تمر عليه هذه الصور عبر شاشة جهازه الصغير، الذي يضم بين مواده، هذه الصور المأساوية، ليستشعر مأساتهم الإنسانية، التي تبرز في القرن الـ«واحد والعشرين» كأهم مأساة في حياة الشعوب، هذه الشعوب التي لم تستطع؛ حتى الآن أن تعيد توازناتها الاجتماعية والنفسية، ولعلها تعيش قدرًا محتومًا، هي من يحرص على بقائه بصورته المأساوية الخالدة، على الرغم من التقدم المذهل في مختلف المجالات المادية بصورة لم يسبق له مثيل، على الرغم من أنها أجمعت على تأسيس منظمات عالمية معنية بحياة الإنسان ورفاهيته، وحمايته، واحترام إنسانيته، ولكنها مع ذلك لا تزال تسجل هزيمتها الماثلة اليوم في كل هذه المشاهد التي لا تزال تراوح مكانها، مسجلة بذلك أكبر هزيمة فكرية، وعقائدية، وتتخذ من الإنسانية مساحتها الأكبر في تأصيل هزيمتها.

يستلزم الأمر هنا طرح مجموعة من الأسئلة التي -ربما- تقترب قليلا من الفهم في بحث إشكالية هذه المسألة، وأجزم أن كل الأسئلة متاحة في ظل حالة إنسانية لا تزال تراوح مكانها، مع ما تشهده الإنسانية ذاتها من تحولات غير مسبوقة في مختلف المجالات المادية، كما هو معلوم ومعاش، ومن ذلك: هل يعقل أن يتأصل فعل الندرة في الحياة البشرية، حتى لا تستطيع البشرية ذاتها التحرر من هذه العقبة الكأداء؟

على ماذا يقوم التطور الحاصل في مجاميع الحياة البشرية، إن لم يلثم ثغرة «الندرة» ويستقصي أبعادها المأساوية على حياة البشر، منذ ذلك التاريخ البعيد، وإلى اليوم؟

وإذا كان الأمر غير ذلك؛ فما هي الأسباب التي تحول دون تحقق الـ«وفرة» لتقضي على كل المآسي الإنسانية القائمة بفعل الندرة على امتداد الجغرافيا البشرية؟

ومن جانب آخر، كيف تستطيع «فئة» صغيرة في المجتمع الدولي أن تتحكم برغباتها التي لا تنتهي؛ لتقضي على الأحلام المتواضعة للشعوب قاطبة، هذه الشعوب التي لا تطمح أكثر من تحقيق حاجياتها الأساسية في الحياة؟

عندما تزور بلدانا؛ هي في حكم التقييم الدولي؛ دول غنية بامتياز، وترى نفس المأساة الإنسانية في بعض أفرادها، كما هو الحال في الدول الفقيرة وفق التقييم ذاته؛ تدرك أن الندرة هي فعل بشري بامتياز، حيث يعمد البشر على تأصيلها إمعانا في إذلال بعضهم البعض، وإشباع رغبات ذاتية، ولو على حساب الآخر الذي يوصف بـ«الضعيف» فهذا الضعيف لو قدر له التحرر من دائرة الضعف المحاط بها؛ لأصبح فاعلا في مشروع الحياة، لا يختلف عن الآخر الذي يمارس غواياته الشيطانية في الإذلال والإهانة لما هو دونه.

لذلك عندما استطاعت بعض المجاميع البشرية أن تتحرر من عقدة السيطرة، استطاعت أن يكون لها موطئ قدم في المشروع الإنساني الممتد، وهنا تتجلى المقارنة أكثر في الفعل البشري لحالة الندرة، عندما ترى هذه الشعوب التي أنهكتها قوى الفقر، والحروب، فإذا بها تخرج من قمقمها، وتشرع في إعلاء مختلف البناءات الحضرية، وتتميز، وتنافس، وتحتل مكانة الصدارة في فترات زمنية قياسية، عندها تصل إلى قناعة أن الندرة «خرافة» وإنما هي فعل بشري، وليست قضاءً وقدرًا؛ كما يقيم البعض ذلك؛ هنا تنيخ العبرة رحالها، وتتأصل القناعة أكثر، ولكن المفاجأة أكبر عندما تعيد هذه الشعوب المستفيقة دورتها المأساوية من جديد، تصاب بحالة غثيان من هذا التسلط البشري الغبي الغريب.

فالحشرية التي يمارسها الفرد في كل شؤون حياته اليومية تنقله من حالة اليسر إلى حالة العسر، خاصة في ظل غياب قانون وجودي في الحياة يحكم هذه التصدعات التي تمارسها البشرية على بعضها البعض، ونتيجة لهذه المبالغة في التدخل، يفتقد في المقابل الكثير مما قد توهبه له الحياة بفضل الله سبحانه وتعالى، حيث يعاني من الفقر، ومن قلة الأمان النفسي، ومن تسلط الأفراد والمجموعات البشرية قاطبة على بعضهم البعض، حيث يظل «بعبع» شريعة الغابة قائمًا، مهما استطاع هذا الفرد كسب رهانات كثيرة في سلم ترقيه الحضاري الذي يفاخر به، صعد سلمًا في هذا الاتجاه، وهذه الصورة لا تبعدنا كثيرًا عن تسلط القوى العظمى وفرض هيمنتها وسطوتها باستخدام خداع مأزق «الندرة» وكأن الندرة هي واقع «سرمدي» لا يمكن زحزحته، أو خلخلته في الذاكرة الجمعية، وإمعان في هذا التسلط الذي تمارسه، تنظر هذه الدول في مستوى الاستجابة من القوى الضعيفة «فكريًا» ومدى استسلامها، وإيمانها أيضا بهذه الحقيقة المبالع في توظيفها على الواقع، وعندها تمضي قدمًا في الإذلال، والاستغلال لتحقيق مصالحها.

الحقيقة أن لا ندرة بالمطلق، وإنما هي خرافة وصناعة، تقع في مأزقها كثير من الشعوب، التي تقنع نفسها أنها المغلوبة على أمرها، وهكذا يتم التمادي في استغلال مأزق الفهم في العلاقة بين حقيقة الندرة، وتحقق الوفرة، والضغط أكثر في إعلاء صوت الرغبات على حساب الحاجيات عند الفرد الواحد عبر رسائل كثيرة، يلعب الإعلام الدور المحوري في ذلك، وهذه إشكالية موضوعية في هذا الجانب.

ولذلك عندما تعلن الرغبة سطوتها على ثقافة الفرد، تكون الحاجة إلى مأزق كبير؛ لأن الحاجة هي أولوية قصوى تتجاوز غرور الرغبة، ولعله من هذا المدخل الجوهري، تعمل القوى المتسلطة على «لي» ذراع الأنظمة المحايدة للركوع في تنفيذ رغبات هذه القوى، وخاصة عندما تجد أن هناك من يستجيب لمثل هذه النداءات الـ«خبيثة» الهادفة إلى ضعضعة استقرار الدول، وهدوئها، واشتغالها ببرامج تنمية شعوبها، بعيدًا عن الدخول في مأزق الشتات، والتشتت.

من هنا يستلزم الأمر تسليح أبناء المجتمع بثقافة القدرة على تحييد القضايا الرئيسية في حياة الناس وهي القضايا التي ترتكز على تحقيق الحاجيات الرئيسية، وعدم الوقوع في منزلق القضايا الثانوية، وهي التي تتموضع على الرغبات، ويبقى الفهم أن الرغبات حالات ثانوية، إن تحققت فذلك شيء تكميلي، وإن لم تتحقق، فليست هناك ثمة ضرورة في أن تحجز لها موقعًا متقدمًا على الحاجات الملحة في برامج التنمية على سبيل المثال؛ وهذا الأمر ليس شرطًا أن يكون برنامجًا حكوميًا؛ إنما يستشعره الفرد، ويؤمن به، ويصبح منهاجًا عمليًا في مختلف شؤون حياته اليومية بصورة تلقائية، وبلا تكلف، وهو ذات الفهم الذي يذهب إلى العلاقة القائمة بين الندرة والوفرة فهي علاقة وشائجية على درجة كبيرة من الأهمية، وأقرب الوشائج بين الطرفين، هي أن خروج أحدهما عن السيطرة يؤدي إلى إضعاف الثانية، وهذا ما يستدعي -دائما- أن يكون التأسيس منذ البدايات الأولى لعمر الفرد، وألا تترك المسألة للصدفة، أو عند الوقوع في المأزق؛ لأن العلاجات -كما هو معروف- في اللحظات الحرجة، يكون ثمنها باهظًا لتلبية الحاجة في ظل ندرة مستمرة.

كيف يمكن وضع مقياس -ولو نسبي- لمعرفة التحول الموضوعي لدى الذاكرة الجمعية من حالة الندرة إلى حالة الوفرة، ومن الترقي من الحاجة إلى الرغبة؟

هذا الأمر يمكن ملاحظته من خلال مجموعة من السلوكيات التي يأتي بها الأفراد في أي مجتمع، وذلك عندما يكون اهتمام قطاع عريض من أبناء المجتمع باقتناء الكماليات على حساب الأساسيات، أو العكس، وهذه الصورة أيضًا لا تحل هكذا فجأة، وإنما تعيش حراكًا متطورًا يمكن ملاحظته من خلال المعايشة والملاحظة اليومية، وواقع الناس يعكس حالةً نسبيةً في كل المجتمعات -على ما يبدو- فالإنسان تتحكم به رغبات واستشرافات كثيرة، وهو ليس بعيدًا عن مختلف التأثيرات الضاغطة عليه بفعل الثورة الإعلامية الشاملة اليوم. واختم هنا بالسؤال التالي: كيف يواجه صاحب القرار معضلة الحاجة في ظل تموضع الندرة، وتسيد الرغبة لدى قطاع كبير من أفراد المجتمع، بناء على حالة «ناعمة» قدر لها أن تعمر طويلا في حاضنة الذاكرة الاجتماعية؟