أفكار وآراء

ميزانية 2020 .. السياق الاقتصادي

09 فبراير 2020
09 فبراير 2020

يوسف بن حمد البلوشي -

[email protected] -

تمثل الميزانية العامة للدولة (قطاع المالية العامة) أحد الحسابات الاقتصادية الكلية الأربعة المعروفة التي تشمل كذلك الحسابات القومية (قطاع الإنتاج والأسعار) وميزان المدفوعات (القطاع الخارجي) وحسابات النقود والبنوك (القطاع النقدي والمصرفي). وهذه أهم أدوات إدارة التنمية ومواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية في الدول من خلال إدارة العلاقات والتشابكات بينها.

من واقع تجربتي السابقة في البنك المركزي العماني ومكتب رؤية عمان 2040، أود تقديم بعض الإضاءات حول هذا الملف المهم الذي يترقبه سنويًا جميع المهتمين بالشأن المالي والاقتصادي للسلطنة.

سأبدأ بالإشارة إلى أن أداء الميزانية العامة مرتبط بشكل مباشر بأداء الحسابات الاقتصادية الأخرى والحلول تتم من خلالها وليس من خلال الحلول المالية فقط، فعلى سبيل المثال التعامل مع مشكلة تحقيق الاستدامة المالية لن يتأتى بدون فهم وإدارة دقيقة للمتغيرات الاقتصادية في تلك الحسابات.

أولا: في الحسابات القومية نجد أن المالية العامة أحد الأجزاء الستة المشتملة ضمن نظام الحسابات القومية، والمتمثلة في جانب الإنفاق الحكومي بشقيه، الاستهلاكي والاستثماري، وتكمن أهمية دورها في أنها تعد أداة تأمين التوازن الاقتصادي، وتكمن أهم معالجات الميزانية في رفع مكونات ومساهمات القطاعات الإنتاجية في الناتج المحلي الإجمالي، التي تتسم بأداء متواضع وما نحتاجه في المرحلة القادمة ليس زيادة تدريجية لمساهمة القطاعات غير النفطية وإنما إلى قفزات تنموية تتماشى مع جاهزية السلطنة وتناقص المساحة المتوفرة للقيام بإصلاحات اقتصادية تمكن من تنويع الاقتصاد وتوليد فرص عمل لأعداد متزايدة من أبناء هذا الوطن.

ويعزى ذلك إلى التغيرات المرتقبة في قطاع الطاقة وأهمية النفط الاستراتيجية وتزايد أهمية الطاقة المتجددة.

ثانيًا: في ميزان المدفوعات الذي يقيس التدفقات النقدية بين السلطنة والعالم، وأخذا في الاعتبار أن عمان دولة تعتمد على سياسة سعر صرف ثابت مقابل الدولار بما يتطلب الاحتفاظ باحتياطيات معينة من النقد الأجنبي للمحافظة على سعر الصرف، يكمن علاج الميزانية العامة في إدارة جانبي هذا الميزان ومحاولة زيادة التدفقات النقدية إلى داخل الاقتصاد العماني والمتأتية من عائدات التصدير وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر وتشجيع الشركات العمانية لتوسعة أعمالها خارج السلطنة وتحويل أرباحها، ومن جانب آخر، الحد من التسربات في الدورة الاقتصادية الناتجة عن زيادة استيراد السلع والخدمات وتحويلات الأرباح والعاملين إلى الخارج.

ثالثا: في حسابات النقود والبنوك تكمن معالجات الميزانية العامة في إدارة الائتمان المصرفي بطريقة تضمن إطلاق محركات الإنتاج وليس نهم الاستهلاك.

وتشير الإحصاءات في هذا الشأن إلى أن الائتمان المصرفي لا يزال موجها وبدرجة كبيرة إلى القروض الاستهلاكية والسكنية وتستحوذ الحكومة وموظفي الحكومة على نصيب الأسد، في حين نصيب الشركات الصغيرة والمتوسطة لا يتجاوز 5% مقابل 30% في دولة مثل سنغافورة، كما أن حجم القطاع المالي صغير نسبيًا وينبغي تكبيره من خلال اجتذاب بنوك وصناديق استثمارية دولية تساعدنا على توفير التمويل بأدوات جديدة وأسعار فوائد منافسة وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر من قوائم زبائنها.

ما أريد أن أشير إليه هنا أن تحقيق الاستدامة المالية ليس مسؤولية وزارة المالية فحسب، وإنما مسؤولية ومحصلة لأداء القطاعات الإنتاجية والخدمية في السلطنة والتي تورد بعضًا من عوائدها للمالية العامة.

الحديث هنا عن جميع القطاعات التي لا تعمل حسب المنشود باستثناء قطاع النفط والغاز، يجب على باقي القطاعات أن تنفض الغبار عنها وتبدأ بالاستثمار والإنتاج والتصدير وهذا ما سيحقق التنويع ويولّد فرص عمل وبغير ذلك لن نحقق التنمية.

واستشهد بقول عدد من الخبراء قابلتهم أثناء مسيرة عملي السابقة حول الاقتصاد العماني، بأن السلطنة بلد يتسم بالكثير من المزايا فعدد السكان صغير والموارد عظيمة وأرض طيبة بمساحة كبيرة وموقع جغرافي متميز وعلاقات دولية مميزة مع جميع الدول تمكن السلطنة من الحصول على ما ينقصها من أموال وتكنولوجيا وأسواق من العالم.

خلاصة كلامهم أن عمان تمتلك كل الحلول ولا تحتاج إلا إلى خطة خمسية واحدة فقط للانطلاق إلى آفاق رحبة من التنمية ومعالجة المعضلات الاقتصادية في تنويع الاقتصاد وإيجاد فرص عمل لأبناء هذا الوطن العزيز وتحقيق الاستدامة المالية، ولكن الأمر يتطلب فهمًا عميقًا للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وإدارتها من منظور شمولي بفكر جديد يمتك المعرفة والشغف والابتكار.

يجب على الجميع أن يدرك، أن إدارة الميزانية وحده لن يكون قادرًا على إحداث تغييرات كبيرة في ملف التحول الاقتصادي ما لم يترافق مع سياسات وبرامج هيكلية تمس جميع عناصر الإنتاج من خلال منظومة متكاملة تعمل معًا.