أفكار وآراء

الصين دولة عظمى في مواجهة الأزمات

07 فبراير 2020
07 فبراير 2020

إميل أمين كاتب مصري -

يوما تلو الآخر تثبت الصين أنها بالفعل دولة كبرى، وأن تراثها الإنساني الكبير يدعم تجربتها الصاعدة إلى الأعلى في سماوات القطبية الأممية.

الذين لهم دالة على اللغات الأجنبية يدركون أن معنى الصين هو (الملكوت الأوسط أو الملكوت المركزي)، ما يفيد بان الصينيين ينظرون إلى بلادهم بانها جنة على الأرض، مع ما يستتبع ذلك من رؤية كوسمولوجية قائمة وقادمة للدور الصيني حول العالم.

ينظر الكثيرون إلى الصين نظرة فيها الكثير من الخوف، بمعنى أن هناك من الأمم والشعوب والأقطاب الدولية من يخشى من صحوة التنين الصيني، وقد كان نابليون بونابرت أول من تنبه لصحوة الصينيين وحذر من تفوقهم، وهو أمر يمكن تفهمه في ضوء الصراع القطبي، والثنائية الأممية المحكوم العالم بها منذ خلق الإنسان وحتى ساعتنا هذه.

استطاعت الصين أن تحقق نهضة حقيقية قوامها البشر والحجر في اقل من خمسة عقود تقريبا، ويتوقع خبراء المال والأعمال أن تتسلم بكين قمة العالم اقتصاديا في العقد القادم، وتفوق بذلك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.

الذين لديهم علم من كتاب الشعب الصيني، وجذوره الكونفوشيوسية، يدركون انهم غير سباقين إلى الهجوم، وغير ميالين إلى إشعال الحروب، ومن استمع في خمسينات القرن الماضي إلى رئيس وزراء الصين العتيد « شوان لاي»، وهو يتحدث عن الصبر الصيني التقليدي القادر على الانتظار ألف سنة للحصول على حقوقه، سوف يدركوا كم هي عالية حظوظ الصينيين في تحقيق نجاحات عولمية.

قبل أن يدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البيت الأبيض، ومنذ أن كان مرشحا رئاسيا، اعلن الرجل نواياه الخاصة بقطع الطريق القطبي على الصين، وشن منذ اعتلى سدة البيت الأبيض أن جاز التعبير، حروبا تجارية، على الصين والصينيين بغرض إضعاف وضعها الاقتصادي، وجاءت مبرراته تلتحف بغطاء الدفاع عن الوضع الاقتصادي في الداخل الأمريكي، والحمائية التجارية.

كان من اليسير إذن على الصينيين أن يسارعوا بدورهم إلى رد الهجمات بهجمات مماثلة، والانتقام بنفس القدر وفي اتجاه مغاير، ما يكبد الولايات المتحدة الأمريكية خسائر فادحة، وهم يدركون تمام الإدراك أن واشنطن تعلم أن القوة الاقتصادية هي الطريق إلى بسط الامتداد الامبراطوري لأي قوة صاعدة حول العالم، ومن يقرا استراتيجية الاستدارة نحو آسيا، وهي كما يعلم الخبراء ببواطن الرؤى والاستراتيجيات الأمريكية، الطبعة الأحدث من توجه أو مبدأ (القرن الأمريكي)، ذاك الذي بلور أوراقه المحافظون الجدد في نهاية عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، بالعام 1997، وبات يمثل الدستور الأمريكي المعاصر، الذي لم يكتبه الآباء المؤسسون في القرن الحادي والعشرين.

احد اهم الكتب الصينية التي تشكل عقل القيادة السياسية والعسكرية للصينيين، كتاب (فن الحرب) لصاحبه ومؤلفه الصيني الأشهر (صن تسو)، والذي يعد المرجعية الأهم والأكبر في عالم كتب الاستراتيجيات العسكرية حتى الساعة، وحكما يسبق رؤى (كلاوزفيتز) المنظر العسكري الألماني بمراحل.

هذا الكتاب علم الصينيين كيف يتوجب عليهم تفويت الفرص التي يتصيدها الأعداء لنصب الفخاخ للدولة الصينية الكبرى والعظمى التي ترتقي معارج الانتصار يوما تلو الآخر، ولهذا اجتهد المفاوض الصيني طويلا، متحليا بصبر امبراطوري في مواجهة ومجابهة التهور الاستراتيجي الأمريكي، ذاك الذي لا يدري من أمر التعاطي الدبلوماسي سوى المواجهة العسكرية، وربما يجد الباحث في الشأن الأمريكي العذر للرجل الأمريكي الأبيض المعاصر لاسيما وان هذا هو الإرث الوحيد الذي تركه له الرجل الأبيض القديم، أي المستعمر الأمريكي الواسب (الوايت انجلو ساكسون بروتستانت)، قبل نحو ثلاثة قرون حين استولى على ارض الهنود الحمر بالقوة العسكرية وليس سواها.

نجح المفاوض الصيني مؤخرا في التوصل إلى طريق يهدئ به من روع العم سام، ويفتح أمامه مسارب التعاون من جديد، وقد ظهر جليا أن الصيني يدرك جيدا المقولة الشهيرة «لا تحارب الحقائق بل تعامل معها»، وفي قلب هذه الحقائق أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال قوة امبراطورية مهيمنة، وسوق تجاري هائل، وكيان اقتصادي غير مسبوق، وعملة نقدية لها السطوة، وانه ليس من صالح الصين الدخول في صراعات اقتصادية تفقد بكين قدرتها على الاستقرار والاستمرار الاقتصاديين، وصولا إلى القطبية المرغوبة على تؤدة وبغير اندفاع أو تهور.

والشاهد أننا حين نقول أن الصين بالفعل دولة عظمى في مواجهة الأزمات الدولية والملمات الحياتية الطارئة، فهو قول لا يداهن الصين أو الصينيين، بل يشرح الحالة التي آلت إليها هذه الدولة حالة الدولة العظمى بالفعل.

في كتابه القيم هل الصين دولة عظمى؟ لمؤلفه البروفيسور الصيني جين تسان رونغ، والصادر حديثا عن دار بتانه في القاهرة ومن ترجمة الأستاذ علي ثابت، يحدثنا المؤلف عما لا يمكن للعالم أن يتغاضى عنه اليوم أو يغفله، فالصين تخطو اليوم خطوات حثيثة تجاه مركز المسرح الدولي، وقد تدرجت أدوارها من (ممثل الجماهير)، إلى (الدور الداعم) ثم الدور الأكثر دعما، وبعدها (الدور الرئيسي)، وفي المستقبل من الممكن جدا أن يكون الدور المركزي.

هل هذا الحديث له نصيب من الحقيقة؟

المؤكد أن ذلك كذلك وعلى غير المصدق أن يلقي نظرة على العالم خلال العقد الماضي، ففي حين كانت أزمة الرهن العقاري العالمية، وأزمة التباطؤ الاقتصادي لدى الدول الغربية تلقي بظلالها القاتمة على العالم، يستمر الاقتصاد الصيني في الحفاظ على نموه السريع للسنة العاشرة على التوالي، ويصبح المحرك الفعلي الأقوى للاقتصاد الدولي، وأصبحت مسؤولية الصين حقيقة لا جدال فيها للعالم حينما انتشر شعار (صنع في الصين) في كافة أنحاء وربوع العالم، وعندما اصبح مفهوم النموذج الصيني هو الأكثر تبنيا وسط الدول النامية، وعندما بات شعار (الصين المنسجمة)، محطة جديدة لدبلوماسية العالم، وأيضا عندما أصبحت الصين (مصنع الأحلام)، هي محط رحال المستثمرين في العالم.

هل يغيب عن القارئ المحقق والمدقق العلاقة بين السطور السابقة وما يجري على الأراضي الصينية في هذه الأوقات من أزمة فيروس كورونا؟

قطعا تبقى هناك علاقة جذرية بين هذا الحديث وبين النازلة التي حلت بالصين من فيروس خطير يمكن أن يمثل عند نقطة معينة انعطافة حقيقية يراها البعض سلبية في حق الصين أو الصينيين...ماذا عن هذا؟

مع اشتداد أزمة الفيروس الأخير والذي لا يعدو أن يكون تطورا لفيروس الإنفلونزا الاعتيادي، بدأت الأسئلة والتوجسات وبعضها مضى إلى ما هو أبعد من الواقع الحالي، والذي يشاغب نظرية المؤامرة.

تساءل البعض هل الصين تتعرض لنوع من أنواع الهجوم الخفي عبر إطلاق سعير الفيروسات المهلكة داخلها؟

بالطبع علامة الاستفهام هذه تحمل فكرة وبصمة النوع أو الأنواع الجديدة من الحروب، والتي وصلت إلى حروب الجيل الخامس، فيما اللجوء إلى هذا النوع من الحروب أي حروب الفيروسات يمكن أن يعد حروب الجيل السادس والسابع.

لكن الواقع يخبرنا بان تلك الأسلحة لا تستخدم إلا في أزمنة الحروب العالمية، والقوة الاقتصادية الأمريكية الكبرى تحتاج إلى الصين والى إعادة تدوير استثماراتها في الداخل الأمريكي، إذ ليس سرا أن الصينيين يستثمرون اكثر من 3 تريليون دولار في سندات الخزانة الأمريكية ما يعني انه ليس في مصلحة الأمريكيين أن يصاب الاقتصاد الصيني بالعطب على هذا النحو.

عطفا على أن فكرة المؤامرة على الصين لا يمكن أن تتماشى مع معطيات العولمة المعاصرة، حيث العالم اضحى قولا وفعلا قرية صغيرة، ولهذا ظهرت حالات مصابة بالفيروس من مشارق الأرض إلى مغاربها، في كندا واستراليا، وفي أمريكا وافريقيا، ما يعني أن الأزمة عالمية بالفعل.

هناك من خرج علينا بالقول أن ما جرى هو تسرب فيروس من معامل بيولوجية صينية كانت تعد لأسلحة فتاكة تستخدمها في المواجهات القادمة لها.

غير أن هذا القول مردود عليه بانه من الممكن اكتشاف الأمر بسهولة، سيما في ضوء العلاقة القوية بين الروس والصينيين، وروسيا معروفة منذ زمن الحرب العالمية الأولى بأسلحتها الكيميائية والبيولوجية، ولن يفوت عليها المقدرة على تحديد ذلك الفيروس وهل هو طارئ على البشرية، أم تم تحضيره بالفعل ضمن حواضن صينية داخلية، ما يؤدي بالضرورة إلى تشويه صورة الصين وشعبها في عيون العالم، ولاحقا يمكن لهذا المشهد أن يقطع طريق المستثمرين الساعين إلى الاستثمار الخلاق على الأراضي الصينية.

ما الذي حدث بالضبط وفيما يخص فيروس كورونا؟

قد يكون الجواب علميا في حاجة إلى الانتظار قليلا لحين التوصل إلى حقيقة المشهد الطبي والعلمي، غير أن ما يؤكد أن الصين قوة عظمى حتى في الأزمات هو السياق الذي جرت وتجري فيه أحداث الأزمة.

بداية اكتشف العالم أننا أمام صين مغايرة، إنها ليست الصين الشيوعية التي تضرب جدرانا عالية من حولها، وتعمد إلى إخفاء الحقائق، من منطلق الخوف من التبعات.

سريعا تنادت السلطات الصينية بدءا من الرئيس شي بينغ مرورا بالمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، وصولا إلى وسائل الإعلام، في تلبية لأبعاد الأزمة، وقد كان التصرف الأول والاهم هو الاعتراف بوجود أزمة حقيقية، وبان هناك وباء تفشى في مقاطعة «ووهان»، ولم يكن هناك أي التفاف على الحقائق، الأمر الذي اكسب القيادة الصينية احتراما كبيرا في عيون العالم الذي بات يدرك مساحة الحقيقة والإنسانية عند القيادة الصينية، حتى وان تعرضت البلاد لازمة اقتصادية مؤقتة، إلا أنها ستعاود من جديد الانفلاش حول العالم بقوة ونجاح.

أظهرت الصين كذلك أنها دولة عظمى حين استطاعت أن تبني أربعة مستشفيات بقدر ألف سرير للمستشفى كاملة التجهيزات الطبية في أيام قلائل، وحين سارعت الزمن ولا تزال من اجل فك شيفرة الجين المسبب لفيروس القاتل والقضاء عليه بطريقة علمية.

أما المتطوعين الصينيين لمواجهة الأزمة فهو مشهد يؤكد أن الصين كتبت شهادة عظمتها في الحال والاستقبال.