أفكار وآراء

في ما بعد الدولة القومية!

05 فبراير 2020
05 فبراير 2020

محمد جميل أحمد -

فيما تبدو اليوم ملامح واضحة لتراجع دور الدولة القومية (على اختلاف طبيعة ونسبية هذا التراجع بين العالم الأول والعالم الثالث) لا يبدو البديل الذي أشار إليه المفكر المغربي الكبير عبدالله العروي، في محاضرة له مؤخراً، فيما أسماه: مستقبل سلطة القبيلة أو الفيدراليات الهشة، قادراً على إنتاج ما هو أفضل من فكرة الدولة القومية التي هي أعظم اختراع بشري في الأزمنة الحديثة.

لقد كانت الدولة القومية باحتكارها للعنف، وتطبيقها للقانون وتخطيطها لمبدأ الاندماج الوطني في مجال الدستور والهوية العامة عبر نظم إدراك تقوم على تأطير متخيل مشترك في شبكة من العلاقات الحميمة داخل الحدود الوطنية وعبر البنى الفوقية للتعليم والثقافة والفكر والتعليم؛ كانت الدولة بكل تلك الأدوات هي الحامية من انفلات النزعات الفوضوية للبشر كالتي كان الحال عليها ما قبل اتفاقية وستفاليا عام 1648التي نشأت بموجبها الدولة القومية الحديثة، عقب حروب الثلاثين عاماً بين الإمبراطوريات الدينية لأوروبا.

والإشكال اليوم ــ كما يقول العروي أيضاَ، آتٍ من صعوبة التمييز بين الفكر والوهم في معطيات رقمية موجودة لكنها غير محسوسة، أو أنها معطيات موجودة لكن وجودها وهمي، في إشارة إلى طبيعة التواصل الرقمي العابر للحدود بفعل ثورة المعلوماتية والاتصال والعولمة.

هكذا سيبدوا جلياً أن العلاقة الجدلية بين العولمة وثورة المعلوماتية هي التي تنعكس سلباً على قوة الدولة القومية الحديثة؛ عبر تسريع ألغى كثيراً من منظومات عمل الدولة وجهازها البيروقراطي، بما في ذلك انتشار البطالة وتقليص القدرات التنظيمية للدولة وأنظمة حمايتها، لحساب شركات عابرة للقارات لا تضع اعتباراً للعمالة إلا في الحدود الضرورية.

إلى جانب ذلك لعب التشويش المتعدد الوجهة والمكان بفعل منصات وسائل التواصل الاجتماعي والمنتجات المتجددة في العالم الرقمي دورا كبيرا في خلخلة وعي المتلقي والمتابع. فشبكة الإنترنت وتأثيراتها الهائلة عبر شبكات أفقية ورأسية، أصبحت اليوم لها النصيب الأكبر من الاستحواذ على عروض التجارب والأنماط الساحرة والمغيرة للكثير من مفاهيم المتلقي العادي.

لكن أخطر ما تتضاعف به إشكالات المأزق الخطير لدول العالم الثالث مع الثورة الرقمية، هو أن هذه الثورة ــ كما يقول العروي ــ بدت كما لو أنها تشتغل بعكس الدور الذي لعبته ثورة الطباعة الأولى في توجيه العالم باتجاه التدوين والكتابة، أي أن هذه الثورة الرقمية وسعت من دور الشفاهة الجديدة، في عالمنا العربي خاصةً، بحسبانها تماهياً مع تلك الثورة الرقمية، حيث عادت ثقافة الشفاهة بقوة.

ذلك أن الثورة الرقمية قضت على الكثير من نتائج ثورة التدوين التي أحدثتها الطباعة، حتى بدا عالم الإنترنت (عبر الاستهلاك السريع الذي صمم عقليات الناس في النفور من عالم الكتاب) اتجاها خادعاً لنا بالانخراط في عالم رقمي تواصلي عابر للدول، ولكنه في الوقت ذاته، ليست لدينا فيه القدرة على امتلاك فاعلية موازية لاستحقاقاته في غياب بنى تحتية للمعرفة والتعليم النوعي الحديث في عالمنا العربي! وإذا أخذنا نموذجاً (رغم السياق الأوتوقراطي الذي أنتج ذلك النموذج) إلا أنه يعكس طبيعة الأعمال الكبرى التي قد تحمي بها الدولة القومية خصائص قوتها. ونقصد بذلك التقنيات البديلة التي طورتها الصين في مجال نظائر الوسائط الرقمية عبر استحداث نماذج مشابهة للفيس بوك والواتساب والانستغرام وغيرها.

وفيما تشتغل التطورات الرقمية على إضعاف نموذج الدولة القومية لصالح مستقبل غامض لسيادة العرق، أو السلطة القبلية والفيدراليات الهشة (كما جزم بذلك عبد الله العروي) لا تبدو تلك البدائل مستقبلاً حقيقاً يحمي البشر ويكون بديلاً عن أدوار الدولة القومية.

يمكن القول، إذاً، أن استهلاك دورة الأفكار المختلفة في تعبيرات ونظم إدراك عالمنا السياسي والفكري وصلت إلى جدارها المادي الأخير. وبدا أفق الشغف والتوقعات الذي قتلته الثورة الرقمية في فضول وتطلعات البشر غير قادر على التبشير بالقيم الإنسانية المجردة، بعدما أصبحت حياة البشر مكشوفة وعارية من تلك التوقعات. وبطبيعة الحال، يواجه العالم اليوم، في ظل الثورة الرقمية، حالة من الارتداد عن الأحلام والطموحات القيمية المجردة للإنسان. لأن إمكانية الوصول إلى أي شيء والحصول عليه جعلت آفاق البشر محدودة.

وغني عن القول أن طبيعة المصلحة الذاتية للبشر والأنانية المادية أصبحت في العصر الرقمي حجاباً غطى على ما كانت توفره الآفاق الفكرية القيمية للبشر عبر وسائط المعرفة كقراءة الكتب، التي باتت قراءتها اليوم أمراً ثقيلاً على النفس، مع سهولة الوصول إلى المعلومات.

لا يبدو ثمة أمل في إعادة ما تم تجريبه. فتلك الدائرة من الأنانية التي ضاقت اليوم حتى على أفق الدولة القومية متجاوزة إياها، لا يمكن أن تنتج إلا ما توقعه المفكر الكبير عبدالله العروي من مستقبل سلطة القبيلة أو الفيدراليات الهشة.

وفي ظل مستقبل كئيب كهذا لا بد من تفكير يختبر الإمكانات الروحية لقدرة العقل البشري للخروج بوعي جديد يفك الارتباط بين المادية والأنانية. أي تفكير يمنح البشر قدرة على تجاوز ذواتهم عبر مبدأ عقلاني لمفهوم اليوم الآخر، وهو ما قد يبدو متصلاً، نوعا ما، بما خلص إليه ريجيس دوبريه في أطروحته المركزية، بأن: (كلّ مجتمع يتأسّس حول مبدأ غير مرئيّ، يوحِّد بين أفراده) !