أفكار وآراء

الصناعة حالة شاملة

05 فبراير 2020
05 فبراير 2020

مصباح قطب -

[email protected] -

ما زال المفكرون والاقتصاديون العرب يوصون بالصناعة والتصنيع حتى ظننا أنهم سيورثونهما. كل حديث عن النهضة لا يمكن أن يقوم على أساس ما لم يتطرق إلى التعليم والصناعة في ترابطهما وأهميتهما الحيوية لتحقيق التقدم. الصناعة اكبر بكثير كما قال منذ عقود مفكر مصري سابق لعصره هو صبحي وحيدة - سكرتير اتحاد الصناعات المصرية قبل 1952 - من أن تكون أداة لتلبية احتياجات السكان المتزايدين، أو حتى خلق فرص عمل اكثر، فالصناعة هي نوع الحياة التي نريدها لنا ولأبنائنا..هل هي الحياة العصرية في الحواضر الصناعية التي نعجب بها جميعا وتسير من اكتشاف إلى اكتشاف وترفع شأن البشر وتفتح أمامهم آفاقا لا آخر لها؟ أم الحياة القديمة بركودها وافقها الضيق وعلاقاتها البدائية والتي تفضي في النهاية إلى مركز التابع لمتبوع؟ إجمالا يعتبر وحيدة أن الحالمين بتحقيق غايات العيش والعدل والحرية والكرامة والتحرر عليهم إدراك كل تلك الأبعاد التي تنطوي عليها الصناعة.

التاريخ الحديث للبشرية هو تاريخ التطور الصناعي والتضحيات الرهيبة التي دفعتها الطبقات العاملة في البلاد التي بدأت المسار ولعل قصص عمال الغزل والنسيج في بريطانيا في بداية الثورة الصناعية الأولى والتي عالجتها كتب أدبية شهيرة هي التي حركت ميلاد مفكرين اشتراكيين كبار مثل انجلز الذي كان والده صاحب مصنع نسيج هناك!. التضحيات تكبدها كذلك بهذا النحو أو ذاك رواد أعمال مغامرون وشجعان.. يتمتعون بالجسارة والخيال والقدرة على التنظيم والإدارة وفهم الأسواق ومعهم أجيال من المهندسين والمخترعين الذين كانوا يعملون كل يوم تقريبا على ابتداع تصميمات جديدة وآلات تزيد من سرعة الأداء وترفع الإنتاجية.

كما يقول المثل العامي المصري « مفيش حاجة بتيجى بالسهل..» التحول إلى التصنيع بعد أن اصبح الإقطاع أو الأرستقراطية وما معهما من تجار ونمط تجارة غير قادرين على تلبية حاجات السكان المتنوعة مع انطلاق حرية الفكر وازدهار الوعي، وتغير احتياجات الدول. هذا التحول هو قصة أوسع بكثير من أي أدب أو درما أو تاريخ سياسي أو احتجاجي فهي في المجمل دراما- تراجيديا - البشر والأرض والموارد وتحولات الحياة في فورانها وتقلباتها.

ولأن الحديث الآن يدور حول الثورة الصناعية الرابعة فإن السؤال البديهي هو ماذا نصنع وكيف وأين ومتى وهل يجوز أن نحرق المراحل وننتقل مباشرة من الاقتصاد البسيط أيا كان شكله إلى الثورة الرابعة؟ وهل تركت أو يمكن أن تترك الدول المتقدمة شرقا وغربا مساحة للدول النامية بعد أن بدأت الولايات المتحدة عملية الانقلاب على العولمة الحديثة وهى التي كانت اكبر مطلقيها؟

للإجابة أفضل أن أنقل إلى السيدات والسادة القراء محصلة حوار مهم حول الصناعة وأحوالنا معها، دار في معرض القاهرة الدولي للكتاب منذ أيام، وكنت طرفا فيه كمدير لندوة حول الدكتور عزيز صدقي - بمناسبة 100 سنة على ميلاده - وهو المسمى أبو الصناعة المصرية بعد 1952 - حيث كانت الندوة فرصة للتطرق إلى الجدل المعاصر الخاص بالانتقال إلى التصنيع وكيف يجب أن تشغل الأجيال الجديدة من الشباب العربي نفسها به حتى يتحقق لأوطانهم التقدم الذي ينشدونه ولا يعودون بحاجة إلى أن يفروا عبر البحر أو بأي وسيلة لعيشوا ويعملوا في أوروبا فقدانا لأمل العيش في أوطان تحتويهم وتفجر طاقاتهم وتوفر لهم حياة كريمة وحديثة.

كان المتحدث الرئيس هو الدكتور إبراهيم فوزي - وزير الصناعة المصري ورئيس الهيئة العامة للاستثمار الأسبق، والمترجم القدير لأهم الكتب العلمية في العلوم الأساسية. كان هناك ما يجب التوقف عنده في النقاش الحافل وأول أمر هو أن الدول كافة - اللهم باستثناء دول صغيرة الحجم والسكان - ليس أمامها من طريق إلا الصناعة والتصنيع، ودون أي تقليل من أهمية صناعة الخدمات وحيث يمكن للأخيرة أن تكون كافية فقط في حالة الدول الصغيرة التي تحدثنا عنها. الأمر الثاني هو أن هناك ما يشبه الإجماع على أن واحدا من اهم أهداف عدوان 1967 على مصر هو وقف القفزة الصناعية التي تحققت منذ انطلاق أول وزارة للصناعة بقيادة عزيز صدقى في 1956 وإقامة نحو 1200 مصنع في تلك الفترة تغطى معظم المجالات الصناعية، ومع ذلك اكد المتحدث والحضور أن الدول ليس عليها أن تقف عند تحميل الدول الأجنبية مسؤولة عن عدم تطوير صناعتها وعيلها أن تقوم بالواجب من جهة التخطيط واختيار الأولويات حسب المعطيات الواقعية وتوفير الكفاءات - بالتعليم والتدريب والبعثات - وإتاحة التمويل الميسر والمستدام للصناع ونشر الثقافة الصناعية بين الشعب بما فيها من حرص على الدقة والانضباط والالتزام وتقدير الوقت والعقلانية في الحوار والتفاوض، إضافة إلى أن الدول عليها أن تستغل حقيقة أن الشركات العالمية كبيرة وصغيرة في النهاية تبحث عن الربح ولو وجدت فرصا معقولة ومناخا مناسبا فستقبل حتى لو كانت العلاقات بين الدول المضيفة لها ودولها الأم ليست في حالة جيدة.

قال الدكتور فوزي نصا (انه بدون صناعة لا دولة)، بمعنى أن الاستمرار في تغييب التصنيع يمكن أن يفضي على المدى الطويل إلى تحلل الدول والمجتمعات وهشاشتها ما يجعلها مطمعا للآخرين.

تم التأكيد أيضا على أن رأس المال الأجنبي لن يأتي لتصنيع بلد أو عمل ثورة صناعية فيه والأصل في الأمر هو الرأسمال الوطني العام والخاص والكفاءات الوطنية. وقد قص الدكتور فوزي واقعة أن وزير الخزانة المصري في عام ما ذهب بمشروع الموازنة إلى الرئيس جمال عبد الناصر ليعرضه عليه فقال له ناصر: هل رأها عزيزي صدقي - وزير الصناعة وقتها - فرد الأخير: لا، فقال ناصر: (انظر ما يحتاجه أولا وقم بتدبيره ثم ألقاك مرة أخرى)، ولا تعليق.

كان الدكتور عزيز صدقي قد حصل على بكالوريوس هندسة قسم عمارة من القاهرة العام 1944 وذهب إلى جامعة هارفارد وحصل على الماجستير في التخطيط العمراني ثم انتقل في الدكتوراه بوعي ذاتي ووطني إلى التخطيط الصناعي - حالة مصر - وعندما علم عبد الناصر بذلك في نهاية 1953 طلب الرسالة وقرأها ثم استقبل لاحقا صاحبها ثم كلفه بعدها بمنصب وزير الصناعة. ما يعنيني هو أن العلماء وبالذات الذين درسوا في الخارج مفتاح مهم للغاية للولوج إلى عصر الصناعة الحديثة ومتابعتهم والاستفادة من خبراتهم إحدى الوظائف الأساسية التي يجب أن يقوم بها أي نظام حكم. يكفي أن أشير إلى أن الحكم المصري في الخمسينات استعان بمسجون سياسي هو الدكتور إسماعيل صبري عبد الله عند بناء المؤسسة الاقتصادية بحيث كان يذهب صباحا إلى الرئاسة وآخر النهار إلى سجن طرة لا لشيء إلا لأنه حاصل على دكتوراه دولة من اعرق الجامعات الفرنسية في الاقتصاد وهكذا.

لقد عيب على طلعت حرب وعلى عزيز صدقي التوسع غير المحسوب من وجهة نظر البعض وأيا ما كان الأمر فإن الدراسة المتأنية والمرونة وسعة الأفق والبحث العملي التطبيقي أمور جوهرية في أي خطة تصنيع، غير أن الأهم من ذلك كله هو القدرة الواعية على حماية الحدود التجارية للدولة في مواجهة طوفان الواردات التي يمكن أن تكون افضل من حيث السعر أو الشكل أو الحداثة. الحماية الذكية والمدروسة وذات الأهداف الواضحة والتي لها جدول محدد وآجال. كل الدول الصناعية بلا أي مبالغة حمت صناعتها ولا تزال، وهي تفعل ذلك بأشكال ظاهرة وخفية، لكن تلك الدول وفي أي تفاوض معها تشترط على الدول النامية رفع الدعم وإلغاء الحماية حتى لو كانت مشروعة!.

لقد تغيرت طبيعة المعارك حول التصنيع في عصر العولمة وثورة المعلومات وما يسمى بالاستعمار الناعم لكن الجوهر يبقى قائما وهو أنه لابد من أشكال من المساندة والحماية للصناعة المحلية بما فيها صناعة البرمجيات وإن كانت الأخيرة تحتاج حماية من نوع خاص لتخدم تطور التصنيع في بلادها بدلا عن أن تكون معينا للشركات الكبرى على مزيد من التغول... و إلا لا أمل!. أخيرا فإن إدارة معدل الربح العام في الاقتصاد بكفاءة بحيث لا تنجذب كل الاستثمارات مثلا إلى الاستيراد أو القطاع العقاري وإقامة « الكمبوندات» والأبراج والمدارس الخاصة وأدوات الترفيه، هو أمر حتمي لعمل اقتصاد متنوع وراسخ.