أفكار وآراء

عقد الانعتاق من الوهم

01 فبراير 2020
01 فبراير 2020

بريت ستيفنز -نيويورك تايمز -

ترجمة: قاسم مكي -

هنالك حقب في التاريخ مثل سنوات الخمسينات من القرن الماضي يضع فيها من هم أكبر سنا المعاييرَ الثقافية والأخلاقية للشباب. وهنالك حقب أخرى كالستينات يحدث فيها العكس، العقد المنصرم من هذا النوع الأخير.

بدايته الحقيقية كانت في 17 ديسمبر 2010 حين أضرم بائع متجول تونسي، يبلغ من العمر 26 عاما واسمه محمد بوعزيزي، النار في جسمه مطلقا بذلك احتجاجات سرعان ما أطاحت حكومات في أرجاء المنطقة.

اقتربت هذه الحقبة من نهايتها مع اختيار مجلة التايم ناشطة حماية المناخ السويدية جريتا ثنبيرج (16 عاما) شخصيتها المفضلة للعام 2019.

ما بين الحدثين (البوعزيزي وثنبيرج) تشكَّل العَقدُ على نحو جذري بالإبداعات التقنية للشباب المتمثلة في الوسائط الاجتماعية وتطبيقات الهاتف النقال. كما شكَّلته أيضا الهجرات الجماعية للشباب من إفريقيا والشرق الأوسط إلى أوروبا ومن أمريكا اللاتينية إلى الولايات المتحدة وكذلك الأمراض التي تصيب الشباب على الأغلب خصوصا الإدمان والمرض العقلي.

أيضا صاغت هذا العقد القناعات الأخلاقية للشباب من شاكلة هاشتاج (أنا أيضا) و حركات «حياة السود لها قيمتها» في الولايات المتحدة والاحتجاجات الجماهيرية في هونج كونج وسواها.

لماذا وكيف هيمن الشباب على العقد المنصرم(2010-2019)؟

دعونا نركِّز «بؤرة الضوء» على أمريكا.

أولا، التركيبة السكانية. في الولايات المتحدة تزامنت الفترة التي يعرِّفها التاريخ عادة بسنوات الستينات (بدأت عند حوالي 1964 مع قانون الحقوق المدنية وقرار (خليج تونكين) مع نضج أبناء حقبة البيبي بُومرز جيل الفترة التي شهدت ازدهارا في أعداد المواليد عقب الحرب العالمية الثانية بعد أن أهلكت الحرب الزرع والنسل - المترجم). تعداد أبناء هذا الجيل حوالي 78 مليون تقريبا. أما عقدنا الحالي فيتزامن مع نضج أبناء الألفية، وهم جيل آخر يبلغ عدد أفراده 80 مليون شاب. المزيد من الناس يعني المزيد من النفوذ (يقصد الكاتب أنه كلما زاد عدد أفراد جيل ما كلما زاد نفوذهم في المجتمع- المترجم). بالمقارنة عدد أفراد جيلي (أبناء أوائل الستينات إلى أواخر السبعينات) 65 مليون فقط.

ثانيا، الغضب.

أحيانا يكون التاريخ سلسلة من ردود الأفعال وردود الأفعال المضادة. نحن نتذكر نزعة عدم الإمتثال (التمرد) الاجتماعي في الستينات والتي كانت ردا على امتثال الخمسينات، هذا العقد أيضا كان رد فعل على العقد الأخير. أي على حربين بدأتا في أجواء هيجانات أخلاقية وانتهتا إلى إخفاقات استراتيجية، كما أنه كان رد فعل على أزمة مالية بلغ عدد ضحاياها الملايين ولم يقبل أي أحد تحمل مسؤولية اندلاعها.

من جانب آخر، ليس مفاجئا أن هذا العقد اتسم بعداء حاد من جانب الشباب تجاه البديهيات التي حكمت تفكيرنا في يوم ما. فالنظام الليبرالي العالمي، حسب اعتقادهم، لم يحافظ على السلم. لقد استنزفنا. والرأسمالية لم تجعل أمريكا غنية بل جعلت الأغنياء أكثر غنى. ووادي السيلكون لم يبتكر التكنولوجيا بل اكتفى بتعدين «استغلال» بياناتنا. والكنيسة لم تنقذ الأرواح لكنها انتهكت براءة الأطفال، ورجال الشرطة لم يخدموا ويحموا لكنهم أعدوا ملفات عن الناس وقتلوا، ووسائل الإعلام لم تنقل الأخبار لكن اختلقتها.

هذه العداوة (من جانب الشباب) لا «تتمظهر» فقط في اليسار التقدمي. إنها أيضا تفسر صعود اليمين الشعبوي.

أما بالنسبة لأجهزة التقنية الحاسوبية فالشباب اخترعوا وشكَّلوا وسائل التواصل الاجتماعي. وهي بدورها شكَّلت واخترعت الشباب. لقد كان هذا العقد هو الذي نجحت فيه اللوغاريتمات أساسا في تضييق اذواقنا وهي التي قصد منها خدمتها. إنه العقد الذي أفضى فيه إيجاد مجتمعات الإنترنت إلى بلقنتنا (تقسيمنا) إلى قبائل سيبرانية (افتراضية) وإلى نشر التضليل الإعلامي والكراهية.

إنه العقد الذي عمّق فيه الربط (التواصل)الرقمي من عزلتنا الشخصية وضعفنا وسهولة قبولنا للإيحاءات. وهو العقد الذي كان يعني فيه انتشار الشاشات المحمولة التي تضخ بيانات لانهائية أن هنالك دائما شيء أكثر إثارة للقيام به من التفاعل مع الشخص الذي يقف أمامنا. إحدى النتائج التي ترتبت عن ذلك كانت نوعا من «التسطيح» لحياتنا الداخلية. إنه ذلك الوقت التي نقضيه ونحن نتساءل ونتجول ونقرأ ونستغرقه في أحلام اليقظة والتفكير في الأشياء. نتيجة أخرى وهي تسطيح حياتنا السياسية عبر استبدال الفطنة بالحذلقة والحجج المعقولة بالتغريدات السريعة والتعليقات الساخنة.

للتكنولوجيا أثر آخر. فهي تعجل بقدر كبير من سرعة تحوُّل الأفكار المتطرفة أو المعزولة في السابق على أيدي أنصارها، الشبان أساسا، إلى يقينيات أخلاقية. هذه اليقينيات ليست حصرا على الشباب، لكن من السهل تبنيها عندما لا تمنحك الحياة وقتا كافيا لإنضاج المثالية بالخبرة ومراجعة نفسك وتَعلُّم أن الأشياء التي ظننت في السابق أنها الصواب ليست كذلك.

وكما هي الحال مع أي عقد آخر، تنطوي العشرة أعوام الحالية على مفارقات وتيارات متعارضة. إحدى هذه المفارقات انتخاب أكبر الرؤساء سِنَّا في تاريخ أمريكا. رغما عن ذلك يجسد دونالد ترامب وهو أحد أبناء جيل «البيبي بوومرز» روح المرحلة بنفس القدر الذي يرفضها به، ليس أقله في إجادته استخدام وسائط التواصل الاجتماعي والطبيعة الساخرة والشكاكة والغاضبة لسياسته.

أحد التيارات التي تمضي في اتجاه معاكس خلال هذا العقد تتمثل في حركات بثت الحيوية في العقد لكنها، في «العمق» حركات عتيقة. فما يسمى بالموجة الثالثة للنسوية تنطوي على مسحة قوية من الروح الفكتورية. على نحو مماثل لذلك تنبني «مقاومة» ترامب جزئيا على الاعتقاد بأن الشخصية الأخلاقية مهمة كي يكون المرء ملائما لشغل منصب الرئيس وأن البون شاسع بين مثل هذه الشخصية والرئيس الحالي.

يجدر التنويه بأن قراء هذا المقال الذين يدققون في التفاصيل سيقولون أن العقد لن ينقضي في الواقع قبل 31 ديسمبر 2020 وهم محقون في ذلك. لذلك علينا الانتظار سنة أخرى قبل أن نطلق حكما نهائيا وناجزا على هذا العقد «عقد الانعتاق من الوهم». ثم نشرع في تلمُّس ما سيأتي بعده.