أفكار وآراء

مخاطر صفقة القرن.. شعبان يتقاتلان لا يتعايشان

01 فبراير 2020
01 فبراير 2020

د. عبد العاطي محمد -

في الماضي البعيد كان وعد بلفور 1917 صفقة بريطانية للشعب اليهودي لإقامة دولة له على أرض فلسطين التي كانت تحت الولاية العثمانية، ولم تفلح هذه الصفقة في إضفاء الشرعية على وجود الدولة العبرية، وإلا لما كان كل هذا الإصرار الإسرائيلي حتى الآن على ضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية هذه الدولة.

مع تصاعد سخونة الحملة الانتخابية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، عادت خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين والمعروفة بصفقة القرن إلى واجهة الأحداث، بين ترحيب من نتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية المكلف وحماسة جديدة لها من الرئيس ترامب، ورفض مكرر من السلطة الفلسطينية جملة وتفصيلا، واهتمام مفاجئ من وسائل الإعلام والمحللين المعنيين بالشرق الأوسط بمستقبل السلام في المنطقة بعد أن كانت القضية الفلسطينية قد دخلت عالم النسيان.

وربما عاد حديث الصفقة إلى صدارة الأحداث مجددا لكونه جاء قبل أيام قليلة من الزيارة التي تم الإعلان عنها لكل من نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي المكلف وبيني جانتس رئيس حزب أزرق أبيض المعارض لواشنطن، بدعوة من الرئيس الأمريكي، وربط الزيارة بأنها المناسبة التي طال انتظارها لإعلان تفاصيل هذه الصفقة، بعد أن ظلت موضع غموض على مدى نحو ثلاث سنوات مضت. وربما أيضا لكون الترويج للصفقة مجددا كان ضروريا لمساعدة كل من نتانياهو وترامب في حملة كل منهما للبقاء في السلطة حيث يعيشان حالة انتخابية صعبة.

فالأول مضطر لخوض الانتخابات لثالث مرة لعدم تمكنه من تشكيل الحكومة في المرتين السابقتين، وسط محاولات لمحاسبته قانونيا لأسباب تتعلق بالذمة المالية!، ومقاومة شرسة من منافسه جانتس. والثاني دخل في معركة مع مجلس النواب الأمريكي الذي تسيطر عليه الأغلبية الديمقراطية التي طالبت بعزله بدعوى سوء استغلاله لسلطاته للتأثير على منافسه جون بايدن، وعرقلة مجلس النواب في مهمته بشأن العزل.

وبناء على هذا التصور فإن توقيت الإعلان عن تفاصيل الصفقة والمرتبط بذروة الانتخابات على الجانبين، إنما بقصد تبادل المنافع الانتخابية حيث من مصلحة ترامب أن ينجح نتانياهو في انتخابات مارس 2020 (الثالثة) لأن الأخير يدعم إلى حد كبير سياسات الأول في الشرق الأوسط خصوصا فيما يتعلق بالمواجهة مع إيران، وهناك تقارير غربية تشير إلى أن إسرائيل بقيادة نتانياهو كان لها دور في إنجاح عملية مطار بغداد التي تم فيها قتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني بأيدي قوات أمريكية. كما أنه كثيرا ما وصف نتانياهو مواقف ترامب تجاه إسرائيل بأنها تاريخية، ومن ذلك عندما اعترف الرئيس الأمريكي بالقدس عاصمة للدولة العبرية ونقل السفارة الأمريكية إلى هناك في خطوة لم يفعلهــا من سبقوه من الرؤساء الأمريكيين.

وهناك تقارير أمريكية أفادت بأن ترامب واثق من أن نتانياهو سيفوز في المـرة الثالثة للانتخابات، وكـان قد أرجـأ فـــــي سابق الأيام الإعلان عن تفاصيل الصفقـة بدعوى تأجيل الانتخابات الإسرائيلية لأكثر من مرة، وبما أنه تولدت لديه قناعة بفوز نتانياهو، فإنه يســبق التطورات بتقديم هدية له هي صفقة القرن ليضمن تحالفه معه إن قدر له البقاء في البيت الأبيض حتى 2025.

ومن جهة أخرى فإن ترامب عينه بالطبع على اللوبي اليهودي ذي التأثير القوي في الحياة السياسية الأمريكية لمساندته في معركة الانتخابات مع منافسه جون بايدن من الحزب الديمقراطي، وتدعيمه لنتانياهو يحتم على الأخير أن يعبئ اللوبي اليهودي في صف إنجاح ترامب في الانتخابات.

ولكن كل ما يتعلق بالمنافع الانتخابية، وبرغم ما يتسم به من دقة ووجاهة، يظل أمرا مفيدا في فهم الجانب الشكلي بخصوص الإعلان الجديد والمفاجئ المتعلق بصفقة القرن لأنه ينطلق أساسا من أهمية عامل التوقيت في حد ذاته. وأما الجانب الموضوعي فإنه يتعلق بمضمون الخطة - الصفقة من ناحية، وبتداعياتها حاضرا ومستقبلا من ناحية أخرى، وكلاهما في الحقيقة لا يقف عند مسألة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بغض النظر عن الشخص الذي في قمة السلطة هنا وهناك، وإنما يتعداه إلى حد كبير ليشمل مواقف وردود أفعال وعلاقات القوى الكبرى دوليا وإقليميا المعنية بالشرق الأوسط سواء بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي أو الصراع بين الطرفين المباشرين، أى الإسرائيليين والفلسطينيين.

وربما يقلل البعض من أهمية حدث الإعلان مجددا عن الصفقة وتفاصيلها ويحصره فقط في أبعاده الانتخابية، وبانتهاء الانتخابات تعود الأمور إلى سابق حالها، هذا صحيح ولا يمكن تجاهله، بالنظر إلى أنه قد سبق مرارا إثارة الصفقة وخرجت بشأنها عديد التسريبات، ولم يكن هناك جديد في المواقف من حيث الترحيب الإسرائيلي والرفض العربي والفلسطيني وعدم المبالاة الدولية، ولكن إصباغ قدر كبير من الجدية سواء من الجانب الأمريكي أو الإسرائيلي على أن تتصدر الصفقة الأحداث يجعلها بمثابة معطى يفرض نفسه واقعيا على حاضر ومستقبل الشرق الأوسط بشكل شامل.

وعند هذا الحد من المفترض أن يتعامل الطرفان العربي والفلسطيني بنفس الجدية والمواجهة مع ما يمثله مضمون الصفقة وما يسببه من تداعيات. لم يكن مضمون الصفقة أو تفاصيلها أمرا مجهولا على أحد، حتى وإن راوغت الإدارة الأمريكية من قبل في التوضيح، كما لم يكن مجهولا الرفض الفلسطيني منذ عام 2017 الذي تجمدت فيه الاتصالات الفلسطينية الأمريكية، حدث ذلك من جانب السلطة، ومن حماس بالطبع، اتخذت الأطراف العربية موقفا واضحا هو التأكيد دائما على الملامح الرئيسة لما تم الاتفاق عليه منذ مؤتمر مدريد 1991 وقمة بيروت العربية 2002 وجوهره الأرض مقابل السلام (قضايا الحل النهائي المعروفة ولا تحتاج إلى إعادة تذكير)، وتم النظر لهذا الموقف العربي على أنه رفض للخطة الأمريكية.

وفي المستجدات حيث أصبح الموقف الأمريكي وكذلك الإسرائيلي منصبا على إضفاء الشرعية على الاحتلال، سواء وافق الطرفان الفلسطيني والعربي أم رفضا على الصفقة التي تلبى مطالب الاحتلال، فإن المؤكد هو أنها صفقة تؤدي إلى أن يتقاتل الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني لا أن يتعايشا لمدة غير معلومة من الزمن.

الأمر لم يعد فرض السيادة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة في حرب 67، وإنما ضم هذه الأراضي فلا حديث عن الحدود، والمستوطنات تصبح جزءا من أراضي دولة إسرائيل، ولا حديث عن القدس بعد أن تم الاعتراف الأمريكي بها عاصمة لإسرائيل، فقط إمكانية حرية الفلسطينيين في دخول المسجد الأقصى وليس السيادة عليه، ووضع رمزي في القدس الشرقية لو كانت هناك فرصة لدولة فلسطينية مستقبلا، وعودة محدودة للاجئين أو التعويض، والأهم لا حديث مستقبلا عن المقاومة الفلسطينية المسلحة (نزع سلاح كل الفصائل بما فيها حماس لتنتهي مشكلة القطاع إلى غير رجعة).

إلغاء التاريخ بهذه الطريقة لا يحقق الأمن والسلام ليس للفلسطينيين وحدهم بل ليس للإسرائيليين أيضا، والبديل هو العودة إلى نقطة الصفر منذ قيام دولة إسرائيل، أي تكرار المواجهة المسلحة بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.

لقد بنى الرئيس ترامب تصوره على أنه يسعى إلى حل سلمي فشلت كل المحاولات السابقة في التوصل إليه، ولكنه واقعيا يدفع هذين الطرفين إلى الدخول في مرحلة الاقتتال المتبادل لأنه يعزز فرض الشرعية على الاحتلال ضاربا عرض الحائط بكل الأطر والقواعد الدولية التي صدرت بخصوص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ عام 1948، ومتجاهلا كل دروس التاريخ.

لقد قامت دولة إسرائيل على أطلال معارك وحروب ودون اعتراف عربي في الأمم المتحدة، وتم الاعتراف بها واقعيا بعد حرب 67 على أساس أن هناك احتلالا يجب أن ينتهي وأن هناك حقوقا فلسطينية ثابتة يتعين الوفاء بها مقابل سلام دائم، ولم يوفر الاحتلال لا الأمن ولا السلام لإسرائيل لا مع الفلسطينيين ولا مع المحيط العربي، فكيف يتم الاعتماد عليه مجددا كطريق للحل كما يتضح من الخطة الأمريكية؟!

وفي الماضي البعيد كان وعد بلفور 1917 صفقة بريطانية للشعب اليهودي لإقامة دولة له على أرض فلسطين التي كانت تحت الولاية العثمانية، ولم تفلح هذه الصفقة في إضفاء الشرعية على وجود الدولة العبرية، وإلا كان كل هذا الإصرار الإسرائيلي حتى الآن على ضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية هذه الدولة.

وأيا تكن المغريات والضغوط وفقا لمنطق الصفقات، فإنها لا تجدي في حل الصراعات القومية وغالبا ما تكون وقودا لحروب أو معارك تتجدد عبر الزمن، خصوصا في حالة مثل الصراع العربي الفلسطيني الذي يبقى صراع أجيال لا يتوقف طالما غابت عنه العدالة. والصفقة الجديدة إن قدر لها التفعيل لن تؤدي سوى إلى تدشين مرحلة جديدة من عدم الاستقرار في العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي قوامها الاقتتال لا التعايش.