Untitled-1
Untitled-1
المنوعات

مرفأ قراءة.. إحياء تراث فؤاد الأهواني الفلسفي

01 فبراير 2020
01 فبراير 2020

[gallery type="rectangular" size="full" ids="763527,763526,763525"]

إيهاب الملاح -

أتابع منذ سنوات الطفرة الكبيرة في إنتاج ونشاط دار (آفاق) للنشر؛ وهي إحدى دور النشر المصرية والعربية الشابة استطاعت في فترة لا تزيد على عشرة أعوام أن تحقق لنفسها بصمة واضحة ومميزة في عالم النشر؛ ويأتي مشروعها الرائع الذي مثّل مفاجأة جميلة لكل عشاق الفلسفة والأعمال الفكرية الرائدة، بإخراج الأعمال الكاملة لأستاذ الفلسفة وعلم النفس الراحل القدير الدكتور أحمد فؤاد الأهواني الذي لطالما أدرجته ضمن من أسميهم صناع الثقافة المصرية والعربية المجهولين أو على الأقل ممن لم يحظوا بالانتشار والشهرة التي يستحقونها، ليؤكد أنها فعلا تستحق أن تكون ضمن الطليعة الرائدة من دور النشر العربية الممتازة.

وأحمد فؤاد الأهواني (1908-1970)؛ لمن لا يعرفه من الشباب والقراء الجدد أحد أهم أساتذة الفلسفة وعلم النفس والفكر الإسلامي في جامعة القاهرة على امتداد تاريخها العريق، والذي قدّم للمكتبة العربية والدراسات الفلسفية العديد من المؤلفات والمترجمات في الفلسفة وتفرعاتها المتشابكة ما بين تأليف وتحقيق وترجمة وفي القضايا الفكرية العامة.

لقد كان الأهواني دون شك أحد سادات الثقافة الرفيعة في مصر والعالم العربي في القرن العشرين، وأحد كبار الأساتذة في الفلسفة الذين قدموا كتابات ومؤلفات وترجمات أقل ما توصف به أنها «ممتازة»، وأنها من أفضل ما كتب في العربية في بابها، لمن يبتغي البحث عن البدايات والخطوات الأولى في مدارجها.

كتب الأهواني عن ماهية الفلسفة، وتاريخها، وأعلامها، وقضاياها وموضوعاتها الرئيسية، توقف عند بعض شخصياتها التأسيسية (الكندي الفيلسوف، وأفلاطون، وجون ديوي)، وكتب عنها أفضل ما يمكن أن تقرأه بلغة عربية سلسة وعميقة في الوقت ذاته؛ وبالتوازي مع هذا الجهد التعريفي والتثقيفي العام مارس الأهواني الترجمة أيضا وقدم إلى اللغة والثقافة العربية نصوصًا فلسفية لم يكن ممكنا أن نقرأها ونفيد منها إلا بفضل ترجمات الأهواني الرائقة.

والأهواني من نوعية المؤلفين الذين إذا قرأت لهم كتابًا واحدًا أو حتى كتيبا صغيرًا تشعر بفارق عقلي كبير بين حالتك قبل القراءة وبعدها؛ لأنه عالم وباحث جاد حقيقي غزير الاطلاع، ومتنوع الروافد والمصادر، جمع بين التبحر في محيطات الفلسفة القديمة منذ ميلادها وفجرها البازغ؛ وصولًا إلى الفلسفات الإسلامية والمسيحية في العصور الوسطى.. ولا أنسى أبدًا كتابه الجميل الممتع «الفلسفة الإسلامية» الذي صدر في سلسلة (المكتبة الثقافية) العريقة، في خمسينيات القرن الماضي (عثرتُ على نسخة منه في سور الأزبكية)، وكان هذا الكتاب الجليل مدخلي ورائدي لقراءة أعمال ونصوص الفلاسفة المسلمين منذ الكندي والفارابي وحتى ابن رشد..

وكان الأهواني أيضًا أول من وجّه نظري إلى اعتبار التعامل مع أصول الفقه، والتصوف، وعلم الكلام باعتبارها علومًا أصيلة لا تنفصل عن سياق درس الفلسفة الإسلامية ككل من حيث هي طرائق في النظر وطرح الأسئلة عن ماهية المعرفة وطرقها وتأسيس العلم.. إلخ (عرفت طبعا فيما بعد أن أستاذه الشيخ الجليل مصطفى عبد الرازق كان أول من أعاد ترسيم حدود التراث الفلسفي في الإسلام في كتابه الرائد «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» بضم علم أصول الفقه والتصوف والكلام.. إلخ)

موسوعة الأهواني الفلسفية

يأتي إصدار هذه الطبعة الكاملة من كتب الأهواني، في إطار خطة طموح تنتهجها دار آفاق، وتقوم على إصدار طبعات جديدة منقحة من الكتب المهمة ذات القيمة في حقلها المعرفي، والتي مر على إصدارها أكثر من خمسين عامًا. وكانت آخر طبعة من كتب المرحوم الأهواني صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب قبل ما يزيد على عشر سنوات!

من بين أعمال الأهواني الكاملة، ثلاثة كتب مهمة يسد كل منها فراغا كبيرا في مكتبتنا العربية؛ الأول هو «فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» وواضح من عنوانه أنه يتناول تاريخ الفلسفة اليونانية في بواكيرها الأولى قبل أن تصل إلى ذروة نضجها على يد أعلامها الكبار (سقراط)، (أفلاطون)، (أرسطو).. وهو من أهم وأفضل الكتب المؤلفة بالعربية في مجال تاريخ الفلسفة اليونانية قبل سقراط، وكانت الطبعة الأولى من الكتاب قد صدرت في عام 1954.

أما الكتاب الثاني؛ فهو «كتاب النفس لأرسطو طاليس» الذي قام الأهواني بترجمته إلى العربية، وراجعه على لغته اليونانية الأصلية الأب جورج شحاتة قنواتي، وهو الكتاب الذي كان يمثل حلقة مهمة من حلقات نشر التراث الأرسطي نشرا علميا رصينا ومصدر بدراسات معمقة وتفصيلية تحلل الجوانب المتعددة لإبداع وفكر هذا المفكر والفيلسوف الجبار (أرسطو)، وقد أضاف الكتاب جهدا محمودا لمن سبقه من المشتغلين بالفلسفة في نقل كتب أرسطو إلى لغة الضاد، خصوصا جهود الأستاذ الجليل الدكتور أحمد لطفي السيد الذي ترجم لأرسطو طائفة من كتبه، نذكر منها (الطبيعة)، (الكون والفساد)، (الأخلاق)، و(السياسة).

أما الكتاب الثالث -في هذه الطبعة الجديدة- فهو «في عالم الفلسفة» الذي يجمع بين دفتيه دراسات ومقالات متفرقة كان المؤلف قد نشرها في أماكن مختلفة وتوقيتات متغيرة وصدرت طبعته الأولى في نوفمبر 1948، وهو مقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، (في عالم الفلسفة اليونانية)، (في عالم الفلسفة الإسلامية)، (في عالم الفلسفة الحديثة) وهو بذلك يغطي المحطات الرئيسية في تاريخ الفلسفة ككل. وهذا الكتاب؛ أي «في عالم الفلسفة»، مع كتابيه الآخرين؛ «المدارس الفلسفية»، و«الفلسفة الإسلامية» من أفضل المداخل والكتب التعريفية التمهيدية المكتوبة بالعربية لموضوعاتها الفلسفية المركزة.

(خطابة أرسطو طاليس)

ولعل كتاب «الخطابة لأرسطو طاليس، تلخيص وشرح أبي علي بن سينا» من أهم كتب تراث الفيلسوف اليوناني الأعظم (أرسطو)، وواحد من أهم الكتب للمشتغلين بالتراث الأرسطي والفكر الفلسفي عموما، ومن أهم المصادر -إن لم يكن أهمها هو وشقيقه كتاب (الشعر)- للمعنيين بالدراسات الأدبية والنقدية وتاريخ البلاغة بشكل خاص.

ويعد كتاب (الخطابة لأرسطو طاليس) مصدرا مهما من مصادر الفكر الفلسفي القديم، له من الوهج والحضور المتجدد ما يجعله دائما محل اهتمام الباحثين والدارسين في مختلف اللغات والبلدان، وهو يمثل حلقة مهمة وقاعدة تأسيسية في المشروع الفكري والفلسفي للمعلم الأول (أرسطو)، والكتاب في صورته العربية المحققة له دلالة مهمة على اتساع مجرى الفكر العربي والإسلامي، بعد أن تداخلت فيه العديد من الروافد والتيارات الوافدة إليه من حضارات وثقافات الأمم الأخرى في عملية مصاهرة ومزاوجة فكرية وثقافية كبرى ربما لم يشهد لها التاريخ الفكري والثقافي مثيلا من قبل.

يقول الأهواني في تقديمه لهذا الأثر النفيس «لقد قام العرب، ومن قبلهم الفرس بنقل العديد من الكتب والآثار المهمة التي أبدعها علماء ومفكرو اليونان وخصوصا فلاسفتها، وبالأخص منها كتابات وآثار الفيلسوف العظيم (أرسطو)، والتي كان من بينها كتاباه الأهم في مسار الفلسفة القديمة وتاريخ البلاغة (الريطوريقا) وهما (الخطابة)، و(الشعر) اللذين حظيا باهتمام كبير من المترجمين والشراح والفلاسفة المسلمين، أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، ومن تلاهم من علماء اللغة والأدب والبلاغيين والنقاد الذين ظهرت في أعمالهم تأثيرات الفكر الأرسطي بدرجات متفاوتة».

وعن الأهواني، وجمال عبارته، وسلاسة لغته المشرقة المعبرة؛ يقول الأديب والمؤرخ محمد عبد الغني حسن؛ في مقاله التأبيني عنه سنة 1970 «يتجلى في كتابة الأهواني أسلوب عربي يمتاز بالإشراق والوضوح والدقة مع الإطراف في التعبير والتأنق في العبارة».

رحم الله العالم الجليل وجزاه خير الجزاء.