أفكار وآراء

هل ستتراجع القوة الأمريكية فـي القرن الحادي والعشرين؟

31 يناير 2020
31 يناير 2020

د.صلاح أبونار -

لا تصعد قوة عظمى وتتسيد في السياق الدولي، لمجرد قدرتها على مراكمة وتنمية موارد القوة والمكانة، بل لابد لكي يحدث ذلك أن تدخل القوة الدولية المسيطرة في صيرورة تراجع أو ركود. ودونما هذا فإن القوة الصاعدة ستنجح أولا في الوصول إلى حالة تكافؤ نسبي للقوة، قد تكون مؤقتة ويمكن أن تكون دائمة. وهكذا سوف يظهر سؤال مكمل لسؤال: هل ستتسيد الصين القرن الحادي والعشرين، الذي طرحناه الأسبوع الماضي، وهو هل ستنحدر القوة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين؟

فكيف ستكون إجابة سؤالنا الجديد؟

يمكننا تتبع موضوعنا عبر تحليل تحولات موازين القوى المحيطة بالقوة الأمريكية، لكي نقيم إذا ما كان بعضها قد وصل إلى مرحلة تهيئة لمناطحة ووراثة الدور الأمريكي. ثم ننتقل لاختبار حدود صحة فكرة رائجة، ترى القوة الأمريكية في طريقها للتدهور والركود.

هناك اربع قوى دولية مرشحة لرصد مواردها العامة وقدرتها على تحويلها إلى قوى سياسية: الاتحاد الأوروبي، واليابان، وروسيا، والصين.

سنبدأ بالاتحاد الأوروبي. في عام 2015 كان عدد سكانه 507 ملايين مقابل 319 لأمريكا، ووصل إجمالي ناتجه المحلي إلى 18.9 تريليون دولار في مقابل 18.3 لأمريكا، وكانت نسبة ديون كل دولة 98% من الدخل الإجمالي بينما كانت في أمريكا 105%، واستوعب السوق الاتحادي 65% من إجمالي تجارته الخارجية، ويحتل الاتحاد مركز الشريك التجاري الأول لحوالي 80 دولة ونصيب أمريكا 20 دولة فقط، كما يحتل المرتبة الأولى عالميا في الاستثمار الدولي الداخلي والخارجي. والحاصل انه يشكل قوة اقتصادية توازن أمريكا في الكثير من الجوانب، إلا إنه يعاني أوجه نقص تعوق قدرته للتحول إلى قوة عظمى مسيطرة. اقتصاديا تتفوق عليه أمريكا في مجالات الإنقاق على البحث العلمي، وأسواق المال المتطورة، وثقافة ريادة الأعمال، والابتكار العلمي، والتكنولوجيا التنافسية. وعسكريا يقل إنفاقه العسكري كثيرا عن الأمريكي، وتقنياته العسكرية اضعف من الأمريكية. وسياسيا لازالت سياساته الخارجية المشتركة في بدايات تكوينها، وعليها تحقيق خطوات ضخمة للتصرف كقوة دولية واحدة، وهو اقرب لسوق واحد لم يصل بعد لمستوى الدولة الواحدة. وثقافيا لا يملك سوى 27 جامعة ضمن افضل مائة جامعة في العالم، ولأمريكا 52 جامعة.

تشكل اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم وكانت الثانية حتى 2010، ولكن عند مقارنتها بالولايات المتحدة تبدو المسافة واسعة. تبلغ مساحة اليابان 377.979 كيلومترا مربعا، مقابل 9.831.510 لأمريكا. ووصل عدد سكانها عام 2018إلي 126.529 مليون مقابل 327.352 لأمريكا. وفي عام 2018 كان اقتصادها كما يلي: وصل ناتجها المحلي إلى 4.971.767 تريليون دولار، مقابل 20.580.200 لأمريكا. ونصيب الفرد من الناتج المحلي إلى 39.593 دولار، مقابل 62.869 لأمريكا. ونسبة الديون من الناتج المحلي إلى 234.99%، مقابل 104.26% لأمريكا. وفي عام 2019 احتلت المرتبة السادسة في مؤشر التنافسية العالمي وأمريكا المرتبة الثانية، بينما شغلت المرتبة 13 في مؤشر الابتكار عام 2018 وجاءت أمريكا السادسة. ولكن في عام 2017 كانت نسبة الصادرات من الناتج المحلي 14.36% وأمريكا 7,92%، وكان الخلل في ميزانها التجاري 0.54% وأمريكا 4.42%. ولكن معوقات اليابان عديدة وخطرة. فمساحتها الجغرافية لا تزيد عن مساحة كاليفورنيا، ومن المرجح أن يتراجع سكانها في 2050 إلى 100 مليون. ولديها جيش حديث ولكنها ترفض التسلح النووي، وترفض القيام بدور سياسي دولي نشط وتفضل مواكبة الدور الأمريكي، وليس من المرجح أن تغير سلوكها السياسي في المدى المتوسط.

تشكل روسيا القوة الاقتصادية الحادية عشرة في العالم. وتبلغ مساحتها 17.098.250 كيلومتر مربع، أي اقل قليلا من ضعف مساحة أمريكا. ولكن سكانها 146.801 مليون أي اقل من نصف سكان أمريكا. وفي عام 2017 كان معدل نموها السنوي1.7% مقابل2.1% لأمريكا. وفي عام 2018 كانت مؤشراتها الاقتصادية كما يلي: ناتج محلي قيمته 1.657.290 تريليون دولار مقابل 20.580.200 لأمريكا، ونصيب للفرد من الناتج المحلي يبلغ 11.289 دولار مقابل62.669 لأمريكا. وفي نفس العام احتلت المرتبة 28 في مؤشر الفساد وجاءت أمريكا في المرتبة 71، والمرتبة 46 في مؤشر الابتكار والمرتبة السادسة لأمريكا. وفي عام 2019 شغلت المرتبة 43 في مؤشر التنافسية وجاءت أمريكا الثانية. وفي عام 2015 شكلت صادراتها من التكنولوجيا المتطورة 7% من صادراتها الصناعية مقابل 28% لأمريكا. ولا تتفوق روسيا على أمريكا إلا في مؤشرات محدودة مثل نسبة الديون والصادرات من الناتج المحلي، والسبب ليس قوة اقتصادها بل المكانة التي يحتلها النفط والغاز فيه، اللذان يشكلان ثلثي صادرتها ونصف موارد الدولة. ولكن روسيا في ظل بوتين تمارس دوراً دولياً اكبر من قدراتها، وهو ما يمكن إرجاعه إلى المواريث الجيواستراتيجية للاتحاد السوفيتي، وقوة ترسانتها النووية وضخامة جيشها التقليدي، والاهم الطاقة السياسية التي أولدها فلاديمير بوتين وقدرته على إدارة الصراعات واقتناص الفرص.

ولكن هذا الدور الروسي الجديد والمتصاعد غير مؤهل لمنافسة جادة للمكانة الأمريكية، فهو لا يستند لاقتصاد رأسمالي دينامي حر، والمؤسسات السياسية لاقتصاد السوق ضعيفة، ورأسمالية الدولة ينقصها التنظيم القانوني، والتطور المؤسسي للدولة مجرد تحديث للتسلطية، والجامعات الروسية كمؤسسات علمية متخلفة رغم احتوائها على الكثير من الكفاءات.

تشكل الصين ثاني اكبر اقتصاد. تصل مساحتها 9.562.910 كيلومتر مربع أي اقل قليلا من أمريكا، وسكانها عام 2018 كانوا 1.395.300، أي ما يزيد عن أربعة أضعاف أمريكا. نمت الصين من أواخر السبعينيات بمعدلات عالية. في 1979 حققت7.6%، وقفزت إلي 15.2% عام 1985 و 14.3% في 1993، ويشكل 2007 اخر سنوات النمو الشاهق. وفيما بين سنوات الذروة انخفضت معدلات النمو، لكنها ظلت أضعاف المعدل الأمريكي. وهكذا سجلت 6.52% عام 2019 مقابل 2% لأمريكا. ولكن أغلب مؤشرات الاقتصاد القطاعية في اللحظة الراهنة ترجح كفة أمريكا. تخبرنا مؤشرات 2018 ما يلي: كان الناتج المحلي الصيني 13.386.073 تريليون دولار مقابل 20.580.200 لأمريكا، وكان نصيب الفرد من الناتج المحلي 9.580 دولار مقابل 62.869 لأمريكا. واحتلت المرتبة 39 في مؤشر الفساد مقابل 71 لأمريكا، والمرتبة 28 في مؤشر التنافسية مقابل الثانية لأمريكا، والمرتبة17 في مؤشر الإبداع مقابل الثانية لأمريكا. وماذا يعني ما سبق؟

الصين طاقة نمو هائلة متواصلة، تسندها إمكانيات ضخمة وسوق واسع، والاهم دور مركزي مستقل وتخطيطي للدولة. وكل ذلك يؤهلها لمناطحة وتخطي أمريكا اقتصاديا في المدى المتوسط، لكنها ستواجه عقبات ليست هينة وليس من المؤكد تخطيها. والاهم أن النجاح حال تحققه لن يترجم نفسه بالضرورة وفورا لمكانة سياسية. فالتفوق العسكري الأمريكي سيحتاج عقودا لتجاوزه، والسيطرة الأمريكية محفورة في بنية النظامين الاقتصادي والسياسي العالمي اللذين صممتهما أمريكا، وليس لدى الصين قوة ناعمة قادر على موازنة القوة الأمريكية.

ولكن القوى المسيطرة لا تفقد مكانتها فقط لصعود المنافسين، بل أيضا لأنها قد تتجه للتراجع وفقا لعوامل تحلل داخلي. فما هو مدى صحة هذا الاحتمال في حالتنا؟

هناك تصور شائع حتى داخل أمريكا، يرى أن أمريكا تعاني تآكلا دخليا سيدفعها مع الزمن بعيدا عن الصدارة. تحمل حجج أنصار هذا الرأي درجة كبيرة من الصحة، ويقبلها خصومه ولكن مع تحفظات تمزج بين نسبية الخطورة والقدرة على مواجهتها. اقتصاديا يشدد المناصرون على تدني معدل النمو بعد 2008، وانخفاض معدلات الادخار، وتضخم الدين الحكومي، والعجز الكبير في الميزان التجاري. ويشيرون لضعف دور الدولة الاقتصادي. فالإنفاق على البنى التحتية منخفض، وشبكة الأمان الاجتماعي ضعيفة، والتأمين الصحي منخفض الكفاءة، والبنى المالية تحابي رجال الأعمال. ولكن المعارضين يرونها مشاكل قابلة للاحتواء وليست مؤشرا على تدهور متواصل، ويشيرون لجوانب القوة مثل ثورة النفط الصخري ونتائجها، وإنفاق 31% من الإنفاق العالمي على البحث والتطوير، ووصول براءات الاختراع إلى 48% من البراءات العالمية، والتقدم التكنولوجي والعلاقة العضوية بين الجامعات والشركات. ثقافيا يشير المناصرون لدراسات ميدانية أثبتت تدهور التعليم قبل الجامعي بالمعايير العالمية، والمهارات التكنولوجية للعمال الأمريكيين. ولا ينكر المعارضون لكنهم ينوهون بتقدم التعليم الجامعي، وضخامة إنفاق البحث العلمي، وتواصل الهجرة ومعها الحيوية الثقافية. سياسيا يشير الناقدون لمشاكل خطيرة. أصاب الجمود النظام الحزبي، وتقاربت خطوط الحزبين وتراجع تمايزهما، ومعها ديناميكة الحياة المدنية والحزبية، ليحل الضعف بأحد مقومات توازن النظام. وتسجل الإحصائيات تراجعا كبيرا في الثقة في كفاءة مؤسسات النظام والشركات والجامعات والطب والصحافة. وتصاعدت الشعبوية ومعها التعصب القومي، واخترقت مراكز النظام. ويقر المعارضون بذلك لكنهم يشيرون إلى أن النظام لا يواجه ازمة مستعصية فلا تزال آلياته قادرة على استيعاب الأزمات، وإلى الطابع التاريخي المتغير لمؤشرات تدني الثقة، وإلى تفاوت قوة السلبيات بين المستويين المركزي والفيدرالي.