أفكار وآراء

اهتزاز ما بعد العولمة!

29 يناير 2020
29 يناير 2020

محمد جميل أحمد -

المتغيرات التي ضربت العالم منذ التسعينات، مع ظهور ثورة المعلوماتية والاتصالات، والعولمة، وما ترتب على هاتين الظاهرتين الخطيرتين من أحوال وأوضاع بعد حوالي عقدين من ظهورهما بدا العالم معها لا يعكس سوية منتظمة سواء في مجال استقرار منظومات ومفاهيم ظلت ممسكةً بهويته الدولية وضابطةً لإيقاعه (رغم ما تخلل ذلك الإيقاع من حروب) منذ الحداثة السياسة التي انطلقت مع معاهدة وستفاليا وظهور الدولة – الأمة في العام 1648م.

فحتى نهاية التسعينات، وإثر انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، كانت الولايات المتحدة تبشر بما سمته آنذاك بـ(النظام العالمي الجديد) فيما قدم مفكرون أمريكيون مساهمات نظرية مثل فرانسيس فوكوياما الذي ألف كتاباً حول «نهاية التاريخ».

لكن ما كشفت عنه بدايات الألفية الأولى من تداخل خطير في خطوط استخدامات شبكة الإنترنت، كان انعكاساً كارثياً لمعنى افتراض تعميم هوية واحدة للتعاطي مع العالم انطلاقاً من ظن عام بأن الحداثة اليوم هي في كل الأرض أصبحت بمثابة منجز مكتمل، لا في قيد الصيرورة.

ردود الفعل الخطيرة لعالم ما بعد العولمة عكست إلى أي مدى يمكن للتخلف أن يكون خطيراً ومؤذياً حال توفرت له إمكانات مفتوحة للضرر العام، على ما دلت عليه كارثة 11 سبتمبر2001 الإرهابية على مبنيي برج التجارة العالمي في نيويورك.

خطورة ردود الفعل بعد تلك الحادثة التي فتحت عصراً خطيراً من الحروب غير التقليدية، أدت لمسار من الانكفاء سار عليه العالم بعد ذلك بوتيرة متصاعدة. فالمحافظون الجدد الذين مارسوا في عهد بوش اختباراً سياسيا، بصورة من الصور، لمقولات صموئيل هنتجتون في كتابه «صدام الحضارات» (الذي تزامن صدوره قبل ذلك بسنوات قليلة)، بشروا بقرن أمريكي جديد وشرق أوسط كبير ينعم بالديمقراطية والسلام، لكن ما أصبح عليه حال ذلك الشرق الأوسط بعد 10 سنوات من بداية الولاية السياسية الأولى لجورج بوش الابن، كشف عن طبيعة الحال التي كانت بعكس ما بشر به أولئك المحافظون الجدد، بما يغني اليوم عن الشرح في ذلك.

لقد مر العالم باهتزازات كثيرة، لكن الصيغة السياسية التي ضمنت له الأمن الدولي ممثلةً في مفهوم الدولة - الأمة لم تكن مهددةً في يوم من الأيام كالتهديد الذي تعاني منه تلك الدولة اليوم في العالم الأول.

فبين انكفاء يميني بدأ يأخذ طابعاً مغرياً في التقليد والمزاج السياسي الغربي، وبين انكفاء عن الصيغ غير الناجزة لمشروع الدولة - الأمة في العالم الثالث ولاسيما المنطقة العربية، يبدو أن ما يهدد مشروع الدولة - الأمة اليوم أكثر بكثير من التهديدات التي طالته إبان ثورات ربيع الشعوب في أوروبا أربعينات القرن التاسع عشر، ولا حتى في الحربين العالميتين للقرن العشرين.

اليوم قد لا يمكننا الاطمئنان إلى مجرد أحوال الدورات السياسية وتقلباتها بين اليمين واليسار في خيارات الأحزاب والقوى السياسية كما كان الحال في العالم منذ ما قبل ثورة المعلوماتية والاتصال والشكل الجديد من العولمة، لأن تعدد المرجعيات والمنصات اللامتناهية والمتعددة الوجهة والمكان التي تضخها شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وارتخاء قبضة الدولة الوطنية في وجه الشركات الكبيرة العابرة للقارات، وهجر اليقين بمبدأ العدالة الإنسانية، وغياب الاختلاف في البرامج بين أحزاب اليمين واليسار؛ كل ذلك يبشر بمتغيرات كبيرة وجذرية حيال ما يمكن معه التنبؤ بمصير العالم!

وإذا كانت الصين اليوم تتهيأ خلال عقود قليلة لتكون القوة العظمى في العالم، فإن شبكات المصالح المتطورة والمغرية بالحوافز المادية العملاقة لذلك العملاق في فرض شروط التجارة العالمية أصبحت اليوم لا تشتغل بكفاءة فقط، في غض الطرف عن قضايا أساسية حيال مبادئ العلاقات الدولية، لدول العالم المتقدم (وعلى رأسها الولايات المتحدة)، بل ربما تكون جزءاً من التحديات والمشكلات الداخلية في أجندات دول العالم الأول ذاته!

ذات يوم وصف الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت البيت الأبيض في واشنطن بأنه بيت (الأخلاق الدولية) في إشارة إلى أهمية وضرورة مبدأ أخلاقي عام لا بد أن يمسك العالم من الانهيار، وكان هو قادراً على ذلك حين أقنع الأمريكيين بالانخراط في الحرب العالمية الثانية التي لولا تدخل الولايات المتحدة فيها لكان مصير أوروبا مختلفاً.

ولعل قضية الأخلاق وضرورتها في سياق الهياج اليميني لعالم اليوم من أهم الأسباب التي جعلت المفكر السياسي الأمريكي والأستاذ المرموق في جامعة هارفرد ومبتكر مصطلح « القوة الناعمة» جوزيف ناي، يطرح كتاباً جديداً بعنوان « هل تساوي الأخلاق شيئاً ... الرؤساء والسياسة الخارجية من روزفلت إلى ترامب».

غير أنه لا يمكن لأحد أن يتنبأ، أو يتوقع ما يمكن أن يكون عليه المستقبل الغامض لعالم اليوم، ليس لأن ذلك غير ممكن، ولكن لأن المفاجآت والوتيرة المتسارعة للمتغيرات لا توفر تلك المعايير كان يسير العالم السياسي بانتظام من قبل.

وفي ظل فقدان عام لشهية البحث عما هو متوقع ومثير، بدا عالم اليوم لكثيرين أقل إثارة وأصبح الناس فيه أكثر زهداً في معرفة معايير تجعل منه عالماً أفضل!