أفكار وآراء

انتباه ..العالم يتغير

29 يناير 2020
29 يناير 2020

مصباح قطب -

[email protected] -

انتهت اجتماعات منتدى دايفوس الاقتصادي العالمي منذ أيام، وتابع الكثيرون ما دار فيها، غير أن اهم ما حدث في تقديري كان هو ذلك الذي لم تره الأبصار بشكل مباشر في المنتجع السويسري الشهير، أو في صخب اللقاءات، ولكن ما أدركته البصائر. لم تكن صدفة أن يعلن المنتدى العالمي على موقعه، إن لقاء 2020 يهدف إلى إعطاء معنى ملموس لـ «رأسمالية أصحاب المصلحة»، ومساعدة الحكومات والمؤسسات الدولية في تتبع التقدم المحرز بشأن اتفاق باريس وأهداف التنمية المستدامة....».، ولم تكن صدفة أيضا أن يقول « كلاوس شواب» المؤسس والرئيس التنفيذي: إن الناس ثائرون ضد النخبة الاقتصادية التي يعتقدون أنها خذلتهم، كما أنهم يرون أن جهودنا الرامية إلى إبقاء ظاهرة الاحتباس الحراري عند مستوى معقول فيها تقصير خطير. أخيرا أعلن ولي العهد البريطاني مؤخرا أن استمرار النظام الاقتصادي الراهن يشكل خطورة على الجميع .

انعقد المنتدى هذا العام وسط أعمق نقاش في الأوساط العلمية والعملية في العالم وفي الولايات المتحدة بصفة خاصة عن مستقبل الرأسمالية الحالية في ظل الاتجاهات الحمائية والانعزالية والتفاوت الصارخ في الثروات والدخول واحتمالات انفجار أزمة ركود عالمية جديدة، وتفاقم مشكلة الديون العالمية، وتراجع مستويات الرضا والرفاهية والقبول، وتفجر قضايا البيئة، والعنصرية، والبطالة الناتجة عن التطورات التكنولوجية، وتأزم ملفات الهجرة واللجوء وتفشي الإرهاب والجرائم وزيادة حالات الانتحار والاكتئاب الخ . أركان من النظام القائم ذاته يرون أن النظام مهدد بالخطر ولا يمكن أن يستمر، غير أن البديل ليس جاهزا سواء عندهم، أو عند معارضي النظام من الأصل الذين حذروا منذ وقت مبكر لكن لم ينصت اليهم أحد؛ لأنه بدا في وقت من الأوقات أنه يمكن تفادى عثرات النظام أو ما تم اعتباره مجرد عثرات، وأنه يمكن للرأسمالية الراهنة أن تمضي وتصحح نفسها. الآن حانت لحظة مواجهة الحقيقة فأصحاب المصلحة في استمرار النظام الحالي لم يعودوا قادرين على توسيع دائرة المستفيدين - أو من يقعون في دائرة تساقط الثمار - كما لم يعودوا قادرين على الدفاع عن النظام، والناس التي قال شواب إنها ثائرة لا تقوم بثورات بالمعنى المعروف ولكن تعبر عن غضبها بطرق مختلفة بعضها يزيد الأمر تعقيدا أو سوءا - مثل التصويت لليمين المتطرف - . اهتم دايفوس بذكاء مؤسسه بالاشتباك مع الواقع أو حتى حاول استباقه، فتحدث كثيرا عن الاستدامة والتكامل الاجتماعي والبيئة. استضاف ناشطا من حركة «احتلوا وول ستريت»، أي انه يريد أن يسمع الجميع صوت أحد الثائرين، واستضاف الفتاة السويدية التي هزت العالم بحديثها عن الأخطار البيئية مع أنه يعلم أن الرئيس ترامب لن يكون راضيا عن حضور ممثلي «نذر الشؤم» هؤلاء. دايفوس يحاول أن يدق الأجراس حتى لا تقع البناية على رأس الجميع بينما الملاك في غيبوبة فهل نجح؟ أمر ذلك متروك للمستقبل، وكلنا يعلم أن 2030 هو الوقت الذي يُفترض فيه أن يفي العالم بأهداف التنمية المستدامة التي تهدف إلى جعل العالم عالمًا أكثر عدالة ونظافة وأمانًا للجميع. هنا أتوقفعند واحدة من المنتجات الجديدة لدايفوس التي أظن أنها مرتبطة بما سبق الحديث عنه ألا وهو مؤشر الحراك الاجتماعي الذي اطلقه لأول مرة، فيوجد إدراك واع بأن انسداد افق الصعود الاجتماعي أكثر وأكثر خطرا محيقا، وقد أصبح الحراك الاجتماعي هو القضية الملحة للحياة الحديثة، كما يقول المنتدى نفسه.

الحراك الاجتماعي كما تم تعريفه هو الحركة في الظروف الشخصية إما «للأعلى» أو «للأسفل» بالنسبة للفرد. من الناحية المطلقة، هو قدرة الطفل على تجربة حياة أفضل من آبائهم. من ناحية أخرى، فإن الحراك الاجتماعي النسبي هو تقييم لتأثير الخلفية الاجتماعية الاقتصادية على نتائج الفرد في الحياة.

ظهر من المؤشر انه في حين تم إجراء تحسينات كبيرة في بعض المجالات، ولا سيما الفقر المدقع، ففي مناطق أخرى، فإن الوضع يتدهور. وكثيرا ما يتم إلقاء اللوم على العولمة والتكنولوجيا، ولكن كما يبرز التقرير، هناك عدد كبير من الأسباب ليس أقلها سوءا وضع السياسات.

يتناول المؤشر كل ما يمكن لبلد ما فعله بشكل كلي لتعزيز الحراك الاجتماعي النسبي لجميع المواطنين. ويركز على محركات الحراك الاجتماعي النسبي بدلا من تحليل النتائج. إنه ينظر إلى السياسات والممارسات والمؤسسات. هذا يسمح بمقارنات فعالة عبر المناطق والأجيال. ويستخدم 10 أركان، التي بدورها تنقسم إلى خمسة محددات للحراك الاجتماعي - الصحة والتعليم والوصول إلى التكنولوجيا وفرص العمل وظروف العمل والأجور العادلة وأخيرا، الحماية الاجتماعية والمؤسسات الشاملة.

واحدة من توصياته الرئيسية هي الحاجة إلى معيار جديد يمكن استخدامه لتحديد إجراءات السياسات ذات الأولوية وممارسات العمل التي من شأنها تحسين الحراك الاجتماعي. وكشأن كل قضية اقتصادية اجتماعية كبيرة يتم تناولها هذه الأيام تطرق دايفوس إلى الثورة الصناعية الرابعة والعولمة والتكنولوجيا التي زادت من حدة عدم المساواة. إن الثورة الصناعية الرابعة، ومعها الاضطراب المستمر والمستقبلي لأسواق العمل، من المرجح أن تزيد الاختلافات في الحراك الاجتماعي لتلك البلدان غير المستعدة للاستفادة من الفرص الجديدة. الكلام نفسه بالمناسبة سمعته وقراته بنفسى في مؤشر السعادة العالمي 2019 الذي صدر أخيرا . يبدوا واضحا انه لا يمكن النقاش حول قضايا العالم المعاصر دون التطرق إلى هذا الجانب الذي تخلل حياتنا طولا وعرضا.

على الصعيد العالمي، أدى انخفاض حصة الدخل من العمالة مقارنة بزيادة حصة الدخل من رأس المال إلى حد كبير إلى عدم المساواة الاقتصادية ودفع انخفاض المساواة في الفرص. ينعكس هذا في تباينات هائلة في الأجور، التي نمت بشكل كبير منذ السبعينيات. ويكشف التقرير أنه في الولايات المتحدة، حقق أعلى 1٪ من أصحاب الدخل في عام 2018 أرباحًا بنسبة 158٪ مقارنة بعام 1979، مقارنة بـ 24٪ فقط مقابل 90٪ في القاع.

ومما زاد الطين بلة دور ما يسمى بالشركات «الخارقة» التي تتمتع بأرباح عالية وحصة منخفضة من العمالة، وبصفتها نماذج للإنتاجية الكبيرة، وأصبحت تسيطر على الأسواق بشكل متزايد.

إن عكس اتجاه المستقبل كما يرى المؤشر أمر ممكن ولكنه يتطلب عملاً منسقًا وإرادة سياسية ووقتًا. ويشير المؤشر إلى أن الحكومات يجب أن تلعب دور التعادل، وتسوية الملعب لجميع المواطنين، بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية والاقتصادية. ويشير التقرير إلى إنشاء نموذج تمويل جديد للتنقل الاجتماعي: يمكن لتحسين السياسات المتعلقة بالتركيز على الضرائب، والسياسات التي تتناول تركيز الثروة وإعادة التوازن بشكل واسع بين مصادر الضرائب، دعم جدول أعمال التنقل الاجتماعي. والأهم من ذلك، يجب أن يتغير مزيج الإنفاق العام والحوافز السياسية لوضع مزيد من التركيز على عوامل الإنفاق الاجتماعي.

مزيد من الدعم للتعليم والتعلم مدى الحياة، بالإضافة إلى خطة جديدة لتعزيز تنمية المهارات طوال حياة الفرد العاملة. ويشمل ذلك نهجا جديدا للتمويل المشترك لهذه الجهود بين القطاعين العام والخاص.

تطوير عقد جديد للحماية الاجتماعية: سيوفر ذلك حماية شاملة لجميع العمال بغض النظر عن وضعهم الوظيفي، لا سيما في سياق التغير التكنولوجي والانتقالات الصناعية، التي تتطلب دعما أكبر لتحولات الوظائف في العقد القادم.

الطريف أن نخبة دايفوس نفسها كانت قد تصدت بشدة للمفكر الفرنسي توماس بيكيتي حين طالب بضريبة على الثروة وإصلاح نظم وبيانات الضرائب في العالم والحد من هيمنة وول ستريت . المهم انظر أيضا إلى ما جاء في المؤشر : تنمو قواعد المستهلكين، وتصبح بيئات التشغيل أكثر استقرارًا وهناك ثقة أكبر بين العملاء وأصحاب المصلحة. علاوة على ذلك، فإن دفع أجور عادلة والقضاء على فجوة الأجور بين الجنسين سيكون أمرًا ضروريًا أيضًا لتعزيز الحراك الاجتماعي.

ينتهى المؤشر إلى القول: إن العواقب الاجتماعية والاقتصادية لعدم المساواة عميقة وبعيدة المدى: شعور متزايد بالظلم والدقة والخسارة المتصورة للهوية والكرامة، وضعف النسيج الاجتماعي، تآكل الثقة في المؤسسات، وعدم الثقة في العمليات السياسية، وتآكل العقد الاجتماعي . لا تعليق.