أفكار وآراء

الانتقالات السلسة في تعاقب مراحل التطور والتطوير

28 يناير 2020
28 يناير 2020

ويسألونك عن عُمان -

د. هادي حسن حمودي - لندن -

سألني أكثر من إعلامي، عربي وغير عربي، وفي أوقات متباينة، عن الانتقال السلس للسلطة في عُمان، وسرعة تحقيق ذلك الانتقال باتفاق الأسرة المالكة على اسم المرشح الذي ذكره المغفور له بإذن الله، السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور آل سعيد، على الرغم من أن النظام الأساسي للدولة منح الأسرة الحاكمة ثلاثة أيام لاختيار السلطان، في حالة شغور المنصب، مما يتيح لها حرية اختيار من تنتقل إليه ولاية الحكم؟

أجبتهم بما يمكن أن ألخصه، هنا:

لقد نصت المادة السادسة من (النظام الأساسي للدولة) في الباب الأول: المعنون بالدولة ونظام الحكم، على أنه: (يقوم مجلس العائلة الحاكمة خلال ثلاثة أيام من شغور منصب السلطان بتحديد من تنتقل إليه ولاية الحكم. فإذا لم يتفق مجلس العائلة الحاكمة على اختيار سلطان للبلاد، قام مجلس الدفاع بتثبيت من أشار به السلطان في رسالته إلى مجلس العائلة).

مجلس العائلة الموقر لم يتردد في اختيار من اختاره المغفور له بإذن الله السلطان قابوس، وثبّت اسمه في تلك الرسالة. وهو السيد هيثم بن طارق، الذي تم اختياره سلطانا لعُمان.

حين شُرّع النظام الأساسي للدولة، في سنة 1417 هـ /‏ 1996م كتبت عن الباب الأول منه مقالا ذكرت فيه أن الأسرة الكريمة لن تحيد عمّن اختاره السلطان قابوس، وذلك نتيجة فهمي للنفسية العمانية، ومنزلة السلطان الراحل في نفوس العمانيين أينما كانوا في مراكز السلطة والمواقع الاقتصادية والاجتماعية.

ثم أوضحت في كتابي (سلطنة عمان من النطق السامي إلى النظام الأساسي – وزارة الإعلام في مسقط سنة 1998م) السبب الرئيس لذلك التوقع، وهو الطريق الذي اختارته عُمان لتشريع مواد هذا النظام. ذلك أن من المعروف أن سلطنة عُمان بدأت نهضتها في سنة 1970م أي قبل ستة وعشرين عاما من صدور النظام الأساسي رسميا. ولا شك في أن النشاط العام للدولة كان محكوما برؤية خاصة للتنمية والنهضة، ورسم خطوات المراحل المتعاقبة في النهوض العام، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، بالمعنى الكلي للسياسة الذي يتضمن البناء الداخلي للدولة، والعلاقات الخارجية مع دول العالم كافة.

ومن هنا كان النظام الأساسي قد جسد العُرف الاجتماعي والسياسي الذي قطعته مراحل النهضة العُمانية المعاصرة قبل صدوره.

ولقد تبينت، في ذلك الكتاب، طريقين في سن الدساتير وإعلانها رسميا، وهما:

الطريق الأول: وهو ما شهدته عموم دول ما كان يُعرف بالعالم الثالث يومذاك، ويتم بإعلان دستور جديد من قبل سلطة جديدة تستولي على الحكم عن طريق الانقلاب العسكري فيعلن النظام الجديد دستوره المؤقت الذي قلما يتحول إلى دستور دائم. فإذا ما جاءت سلطة أخرى ألغت ذلك الدستور وأعلنت دستورها هي. وهكذا تكر حبات المسبحة، ويعيش المواطنون في أجواء من الاضطراب والرؤى المتناقضة. وقد أفرزت هذه الحالة أوضاعا مأزومة كبيرة الخطر، لأن تجارب هذا النوع من أنظمة الحكم تمثل صدمة اجتماعية وسياسية واقتصادية لم تستطع أن تثبت أنها متوافقة مع الحاجات المحلية، وطموح القوى الحية في المجتمع، كما كان بعضها مجرد تجارب ترتدي ثيابَ الجدة وتأخذ بشعارات فوقية تمتاز بالرنين العالي الذي يُخالف متبنيات القوى الحية الواعية المخلصة للوطن واختيارات نهضته، مما يفرز نقيضه.

أما الطريق الثاني فيأتي من استخلاص الدستور من مهاد التطور الداخلي للبلاد، وهو التطور الذي عُرف في سلطنة عُمان بالنهضة. وقد أثبت هذا الطريق الثاني نجاعته ونجاحه بفعل أنه لا يعرّض المواطنين إلى تجربة خارجة عن قيمهم وغاياتهم التي تنمو وتتطور بتنامي مسيرتهم وتطور أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتصاعد وعيهم بحاجات العصر الحديث ومتطلبات تراثهم الحضاري. وبذلك يكون تطبيق أية مادة من مواد الدستور سلسا لأن البلاد قد بُنيت على أساسه منذ البدء، وصار جزءا من التقاليد الاجتماعية.

ومن هنا فإن الانتقال السلس للسلطة العليا في البلاد لم تكن فيه أية مفاجأة لمن يفهم النهضة العُمانية، والنفسية العمانية، وتوشج العلاقات داخل القوى الحية في المجتمع العُماني، بل حتى العقل الجمعي العُماني. وعلى رأس كل ذلك، ما سبق ذكره من المنزلة العميقة التي احتلها المغفور له السلطان قابوس في نفوس العمانيين عموما، مما نوضح الخطوط العامة لسببه في السطور اللاحقة.

(2)

في 23 يوليو 1970م، وجدت عُمان طريقها لتحقيق آمال شعبها وطموحه في استعادة منزلته بين دول العالم، والاستنارة بتألقات ماضيه ومنجزات عصره هذا.

في 23 يوليو 1970م، أتاحت الأقدار لعُمان قائدا منها، أخذها في طريقها الجديد، المفضي، بجهد أبنائها، إلى تلك الآمال وذاك الطموح.

فكان أن سارت البلاد نحو غدها الذي هيأته لها الأقدار. والتف الشعب حول راية قائده المحب له والمتطلع إلى أن يسيروا جميعا نحو الآمال والطموح وتحقيق الواقعيّ من الأحلام.

لم يكن بإمكان عُمان أن تسير بطريق البهرجة والصخب والزخارف والطلاء الخارجي، فلا الشعب العُماني يرضى ذلك، ولا قيادته ترتضي غير طريق التطور الجدير بصفته. فالبهرجة تزول، والصخب يخفت، والزخارف تزول، والطلاء الخارجي قد يعطي بريقا، ولكنه بريق مفتعل، سرعان ما ينطفئ.

فاختارت عُمان طريقها الصعب، طريق التنمية البشرية، طريقة التغلب على عوامل التخلف، من الأمية وتردي الأوضاع الصحية، وافتقاد اقتصاد قائم على العلم والمعرفة، وقلة الوعي بحقائق التاريخ التي كانت ضائعة في خضمّ الروايات والمرويات التي يفتقد الكثيرُ منها إلى الصدق والموضوعية، وأيضا قلة الوعي بمنجزات العصر الحديث الذي كان ينتقل من قمة إلى أخرى في اكتشافات ومخترعات وغيرها.

أدركت عُمان أن طريقها صعب، فالتنمية البشرية من أكثر مشكلات النمو تعقيدا، لأن الإنسان جسد وروح، عقل وعاطفة، حكمة وغريزة، فهو لا يوضع في صندوق مقفل بما يصحّ وما لا يصحّ، ولا ينضبط السلوك البشري في إطار محدد. والدليل على ذلك كثرة الأديان التي ظهرت على وجه الأرض، فما أقل المستفيدين منها، وما أكثر مزيفيها وموظفيها لغايات بعيدة عنها خضوعا منهم إما لروح بلا جسد، وإما لجسد بلا روح، إما إلى عقل بلا عاطفة، وإما إلى عاطفة بلا عقل، فافتقد الكثيرون الحكمةَ وتلبّستهم الغرائز، وبذلك شهد التنزيل العزيز في كثير من آياته الكريمة. وما زلنا إلى اليوم نلاحظ من يوظف الأديان والأفكار والمذاهب لغايات مصالحه الشخصية، أو لغفلته عما يراد له وبه، مهما كان الثمن، تخريبا وقتلا ومزيدا من التخلف والانهيار. أدركت عُمان كل ذلك وأكثر من ذلك، فآمنت بفكر وضعه لها قائدها، رسخ لها فيه نظرية معرفة، وفلسفة بناء دولة، فصار بإمكانها أن تسير بهدوء واتزان نحو غدها المشرق.

أقول هذا بكل موضوعية بعيدة عن أي هوىً شخصي، بالرغم من أن عُمان تستحق أقصى الحب، وأقصى الإعجاب، وأقصى الشغف. ولكن أقصى الحب وأقصى الإعجاب وأقصى الشغف شعور قد يكون عاطفيا فلا يقدم نفعا لدراسة موضوعية عن التطورات العمانية السلسة منذ 1970م وإلى الآن ومواصلة الطريق المتنامي ذاته الذي يزيل عوامل التخلف ويعمق منجزات ما تم إنجازه ليشيد عليها المستقبل المرتجى والمؤمل.

لذا أعود فأرتكز على واقع منجزات عُمان منذ 1970م تحديدا، وما قررته النصوص العمانية من أن أيّة نهضة لا بدّ أن تتأسّس مقولاتُها على دراسة منظومة متكاملة من القيم التي تحكم النّشاطات السّياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة، كموضوع الأخلاق والعادات والتّقاليد والمفاهيم الدّينية الفاعلة، ثم تحديد مدى استطاعة الدّولة التّعامل مع هذه المنظومة من القيم، ومدى صلاحية ذلك في تحقيق الأهداف المعلنة سواء في خطط التّنمية ام في القناعات الأساسية للمواطنين في مراحل التّغير والتّطور. ولذلك نقرأ في نصوصها، وتطبيقاتها العملية أنّ من لوازم صياغة النّهضة النّاظرة إلى الحاضر والمستقبل أن يتوفّر فيها أمران:

أ- تفهّم القيم الفاعلة في المجتمع السّياسي، المتشكّل، بداهة، من الحكومة وسائر المواطنين.

ب- فلسفة العملية السّياسية وبيان مدى استفادتها من الأسس الفكرية والأخلاقية للمجتمع السّياسي.

وبعبارة أخرى فإن النّهضة الحقيقيّة، من وجهة النظر العُمانية، هي التي تريد تشكيل أفضل نظام لمجتمعها المحلي، وفق القواعد العلمية في مفهوم الأفضلية التي تعني الاقتراب إلى أقصى حد ممكن من مفهوم العدالة والانسجام الخلاق مع القيم النبيلة السامية، والوعي التام بالقناعات الاجتماعيّة والتفهم لها ولتأثيراتها في مواصلة صياغة الحاضر والمستقبل.

إن القاموس العُماني يخلو من (الدراماتيكية) والشعارات المغرية، كما يخلو من حرق المراحل ومن القفز فوق الواقع الموضوعي للمجتمع، فتجلى تلازم كل مرحلة منها مع المرحلة اللاحقة لها، مع الأخذ بعين الاعتبار تطور الوعي الاجتماعي ذاته، وهو التطور الذي أنجزته النهضة وفكرها الشامل للسياستين الداخلية والخارجية.

لذلك نرى النهضة العُمانية سلسلة موصولة الحلقات، انتقالا من مرحلة إلى أخرى بتعاقب منسجم مع الواقع والطموح، ارتكازا على تفعيل عوامل التواصل وتحقيق الأهداف المرتجاة. فلا انقطاع بين قاطرات النهضة، ولا بين تعاقب مراحل تطورها وتطويرها، بأي شكل من الأشكال.