الملف السياسي

منهجية «التنويع» سر نجاحات المشروع التنموي

27 يناير 2020
27 يناير 2020

العزب الطيب الطاهر -

ثمة ميزات نسبية فرضت حضورها بقوة، على الاقتصاد العماني خلال العقود الأخيرة، على نحو جعلته واحدا من الاقتصاديات الأكثر نموا وقابلية للتطور في المنطقة، على الرغم من افتقاره إلى الإنتاج الكثيف من الطاقة، مثل غيره من دولها، سواء في إقليم الخليج، الذي تنتمي إليه السلطنة مثل المملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة إلى حد ما، أم من خارج الإقليم مثل إيران.

وفى مقدمة هذه الميزات، التنوع الذي بات سمة بارزة لهذا الاقتصاد، والذي حتمته ضرورة تجنب الاعتماد على مصدر واحد، يتمثل في الطاقة بشقيها النفط والغاز، والتي تتسم بإمكانية النضوب على المدى الطويل، فضلا عن تعرضه خلال سنوات الاضطراب، بالذات منذ العام 2014 في العقود الأخيرة، لخلل كبير في بنيته السعرية صعودا وهبوطا، الأمر الذي أضحى يؤثر بصورة أو بأخرى على الموازنة العامة، بالذات على صعيد اتسامها بالعجز، وهو ما لم تخل منه دولة نفطية، ما دفع السلطنة، مثل شقيقاتها في منظومة مجلس التعاون الخليجي، إلى وضع وتطبيق سياسات اقتصادية جديدة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تقلبات أسعار النفط.

صحيح، إن عصر الطاقة النفطية لم ينتهِ بعد، غير أن الدولة العمانية كانت من أوائل الدول التي فكرت مبكرا في التخطيط لمرحلة ما بعد النفط، حتى قبل بروز إشكالية تراجع أسعاره العالمية، من خلال التفكير في حلول مبتكرة ومعالجات ذكية، لتحويل الاقتصاد من الاعتماد على الطاقة، كمورد رئيسي واحد إلى اقتصاد متنوع ومتوازن، سعيا لتحقيق الاستقرار في مؤشرات الاقتصاد الكلي، وعدم التعرض إلى تبعيات التقلبات الاقتصادية الناتجة، عن تذبذب أسعار النفط، لتحصين الاقتصاد، وتنويع مصادر الدخل وتحقيق التنمية المستدامة، وذلك ضمن منهجية مدروسة ورؤى بعيدة المدى، منها رؤية 2020 التي تنتهي بنهاية العام الجاري، أو رؤية 2040، واللتين يتم تنفيذهما عبر خطط خمسية متوالية، جعلت من السلطنة واحدة من الدول التي يقوم اقتصادها على آليات السوق، لكنه يعتمد من ناحية أخرى على مبدأ التخطيط، ما يؤشر إلى أن التخطيط في السلطنة يتمتع بأفق واسع يستوعب كل النظريات الاقتصادية، على النحو الذي يفيد المصلحة الوطنية ومصلحة الإنسان العماني بالدرجة الأولى، الذي ينظر إليه بحسبانه الوسيلة والغاية للمشروع الوطني للنهوض والذي بدأ منذ ما يقرب من خمسة عقود.

لم يكن قرار التوجه نحو تنويع مصادر وموارد الاقتصاد الوطني، مجرد ركوب امتطاء لصهوة موجة، وإنما جسد اقتناعا ذاتيا اعتمد على آليات فعالة وخطوات ملموسة، أثبتت جدواها في المشهد العماني عبر انتهاج سياسات مغايرة، قامت على ما يلي:

- فتح آفاق تنموية واقتصادية جديدة، من خلال اللجوء إلى إقامة سلسلة من المناطق الصناعية الكبرى، في أنحاء مختلفة من البلاد، في صدارتها الدقم وصلالة وصحار وغيرها، والتي رفدت الاقتصاد الوطني بموارد جديدة، تعتمد بالأساس على جذب الاستثمارات الخليجية والعربية والأجنبية، من خلال توفير بيئة تشريعية استثمارية حديثة، تضمنت الكثير من الحوافز والميزات التي تحقق مصلحة المستثمر ومصلحة البلاد.

- إحداث تغييرات واسعة وتكاد تكون شاملة في بنية الاقتصاد الوطني، عبر تكثيف الاهتمام بقطاعات السياحة والتعدين والبتروكيماويات وصيد الأسماك، في ظل ما تمتلكه السلطنة من مقومات كبيرة ومزايا نسبية، في هذه المجالات، وفي مقدمتها الموارد الطبيعية الهائلة والشواطئ الطويلة، والإمكانيات الفنية والموارد البشرية والبنية الأساسية الضخمة، التي أقامتها الدولة العمانية من مطارات وطرق ووسائل مواصلات، لتسهيل الترابط بين مناطق السلطنة وتسهيل عمليات التصدير عبر الموانئ.

- تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والتي باتت تحظى بإسناد قوي، عبر إتاحة منظومة تشريعية تعزز آفاقها، متكئة على ديناميات الاستثمار والإنتاج والتصدير والابتكار وتحفيز ريادة الأعمال، والعمل على تحقيق أعلى مستويات الشراكة، بين أنشطة القطاعين الحكومي والخاص والحكومة.

- إعادة توزيع الأدوار والمسؤوليات، بين الحكومة ومؤسسات الأعمال وأفراد المجتمع، لتحقيق التنمية الشاملة تماشيا مع تسارع وتجدد الأولويات وتعاظم التحديات، من خلال اعتماد استراتيجيات مناسبة لكل مرحلة من السياسات العامة المختلفة التي تؤثر بشكل مباشر على أدوار الأقطاب الثلاثة للتنمية.

- صياغة وتنفيذ سياسات عامة مناسبة على نحو يتيح التعامل مع التحديات واقتناص الفرص، وهي عملية مستمرة تستوجب المزيد، من الفهم العميق للمتغيرات المختلفة، وتكثيف جهود الجهات المعنية بالتنفيذ، المطالبة بالعمل على التغلب باستمرار،على عامل مهم هو سرعة تجدد الأولويات التي تتطلب ديناميكية وتفاعلا مع التطورات على مختلف الأصعدة.

- رفع كفاءة البنى الأساسية والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية المتاحة، مع الاستفادة من المكانة الرفيعة للسلطنة بين الأمم لجذب التكنولوجيا، والأسواق ورؤوس الأموال، وفي الآن ذاته دفع القطاع الخاص إلى إعادة ترتيب أوراقه، وإجراء تحول جوهري في نموذجه القائم على الإنفاق والمناقصات الحكومية، والاستيراد والقوى العاملة الوافدة إلى نموذج قائم على الاستثمار والإنتاج والتصدير والابتكار وريادة الأعمال، بما يمكنه من الدخول في شراكات استراتيجية، مع الاستثمار الأجنبي لتوفير عناصر إنتاج يحتاجها السوق محليا، كتلك المرتبطة بالتكنولوجيا والأسواق وغيرها، ولا شك أن نجاح القطاع الخاص يستوجب وجود قطاع حكومي كفء ومرن وفعال وأقل بيروقراطية، وأطر تمويلية بكلفة مناسبة، ما يستدعي العمل على تطوير القطاع المصرفي، وتشجيع الاندماج بين وحداته، وجذب القطاع المصرفي الأجنبي أيضا.

- إصدار جملة من القوانين والتشريعات التي تُعنى بالقطاع الاقتصادي وتنظيمه، منها قانون التخصيص والشراكة وقانون الاستثمار الأجنبي والإفلاس والقانون التجاري، على نحو يتواءم مع السعي الحثيث، نحو توفير بيئة جاذبة للأعمال ورفع القدرة التنافسية للاقتصاد العُماني، خصوصا في هذه الفترة الصعبة من عمر الاقتصاد العالمي والإقليمي.

ونتيجة لهذه السياسات وغيرها، فإن مساهمة قطاع الصناعات التحويلية بالسلطنة– وهذا على سبيل المثال وليس الحصر- حققت ارتفاعات متوالية في الناتج المحلي الإجمالي عاما بعد عام، ففي نهاية عام 2018، بلغت هذه المساهمة نسبة 8.4% لتصل إلى ما يزيد عن 2.9 مليار ريال عماني مُقارنة مع 2.7 مليار ريال عماني بنهاية العام 2017، وهو ما يعادل حوالي 10% من مجموع الناتج المحلي بالسلطنة، كما يساهم القطاع في تشغيل الأيدي العاملة الماهرة العمانية بما يرفع من مستوى المعيشة للفرد في وظائف جيدة لتحقيق حياة كريمة، فضلا عن مساهمته في معادلة الميزان التجاري للسلطنة مع العالم لضمان تدفق ضروري للعملات الأجنبية الضرورية لتوسيع آفاق التنمية.

في ضوء هذه المعطيات، تأتي الموازنة العامة للسلطنة للعام الجاري، والتي تشكل العام الأخير في الخطة الخمسية التاسعة، لتجسد بعمق منهجية التنويع بعد أن ترسخت قواعدها، خلال السنوات الأخيرة، وذلك من خلال السعي إلى اللجوء لكافة الوسائل لدعم الثقة في الاقتصاد الوطني، متجليا ذلك في أن الإيرادات غير النفطية المدرجة في هذه الموازنة، تقدر بمبلغ 3 مليارات ريال مقارنة بالإيراد المقدر في موازنة عام 2019 البالغ 2.65 مليار ريال، أي بزيادة قدرها 13 بالمائة، وذلك لارتفاع الإيرادات الضريبية بنسبة 9 بالمائة والإيرادات غير الضريبية بنسبة 18 بالمائة، مقارنة بما تم تحقيقه في العام المنصرم، وتنسجم هذه الأرقام– وفقا لرؤية جهات دولية تحليلية تتمتع بالمصداقية- مع جهود الحكومة، لتنويع مصادر الدخل وتعزيز الإيرادات غير الهيدروكربونية (النفط والغاز)، فضلا عن أن إنشاء جهاز الضرائب مؤخرًا سيسهم- دون شك- في تحسين كفاءة تحصيل الضرائب على نحو يجعلها تحقق عائدا جيدا للموازنة خلال السنوات المقبلة، بالإضافة أن خصخصة بعض الكيانات المملوكة للدولة من المتوقع أن يعطي إيرادات إضافية للحكومة مثلما حدث خلال العام العام الماضي، عندما باعت الحكومة العمانية نسبة 49 بالمائة من حصة «نماء» القابضة في الشركة العمانية لنقل الكهرباء للشبكة الوطنية للكهرباء الصينية.

ويمكن التأكيد بعد كل هذه الخلاصات عن جهود التنويع في مصادر الدخل العماني، أن مشروع النهوض الاقتصادي والتنموي، سيشهد في المدى المنظور فضاءات أكثر رحابة، لصالح المزيد من الاستقرار وارتفاع منسوب التنمية أفقيا ورأسيا، بيد أن ذلك مرهون بتحقيق المزيد من الحيوية والديناميكية والابتكار لدى الجهات المعنية بهذا الملف، مستفيدة من حالة الاستقرار الأمني الداخلي، التي وفرتها سياسات حكيمة للقيادة، وتفاعل مع تطلعات الشعب العماني، وفى الوقت ذاته توظف بشكل أمثل، سياسات النأي بالنفس التي تنتهجها السلطنة عن معضلات الإقليم، ونزوعها المتواصل لتحقيق التقارب بين أطراف هذه الأزمات، ما جعلها الأكثر مقبولية كوسيط نزيه.