1424867
1424867
المنوعات

السفير الأمريكي الأسبق في السلطنة يكتب: السلطان قابوس ..رجــل النور والحــداثة في عمان

26 يناير 2020
26 يناير 2020

جاري جرابو[/caption]

برغم معرفتي بمرضه، أذهلتني وأحزنتني وفاة السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان في العاشر من يناير. كنت قد عرفت السلطان قابوس ـ الذي حكم عمان لتسعة وأربعين عاما ـ بوصفي دبلوماسيا أمريكيا. وقد خدمت مرتين في عمان، كنائب لرئيس البعثة فيما بين 1998 و2001، وسفير فيما بين 2006 و2009. وعلى مدار تلك الفترة التي ربت على ست سنوات، التقيت بالسلطان الراحل لما لا يقل عن خمس وعشرين مرة كنت في بعضها مصاحبا لمسؤولين رفيعي المستوى من وزارتي الخارجية والدفاع في أثناء زياراتهم، ومرة بمصاحبة نائب الرئيس، ومرات كثيرة في لقاءات ثنائية.

في تلك الجلسات الثنائية، لم يكن يوجد في الغرفة إلا نحن الاثنان. وفي حين كنا ننخرط دائما في نقاش قضايا الساعة، كان المجال يتسع أيضا لأوقات يفضي فيها بشيء عن تجارب حياته وما تركته من آثار عليه، وكذلك لرؤاه في قضايا أخرى، كدور النساء في المجتمع والحكم. كان السلطان قابوس شديد التقدمية ـ عيَّن أول سفيرة لدولة عربية في الولايات المتحدة، وضم إلى مجلسه الوزاري العديد من النساء، ووازن بين الرجال والنساء فيمن يعيِّنهم بالغرفة العليا من البرلمان المعروفة بمجلس الدولة.

كنا نتكلم عن البيئة والصحة والدين بل وعن أطعمتنا المفضلة. ولمّا كان يعرف بحبي للمشي فقد كان يقترح عليّ أماكن يعرفها. كما كان يحذرني من ثعابين عمان القاتلة، وينبهني إلى التحلي بالحذر لأنها لا تهاجم دائما في المواجهة. وحكى لي أيضا عن بعض هذه التجارب.

لم يكن قابوس معروفا لدى أغلب الأمريكيين. ولعلهم كانوا يرون فيه مجرد حاكم آخر لدولة خليجية ثرية. غير أنه في واقع الأمر كان أبعد الحكام عن النمطية، فهو نموذج للعاهل الخيِّر المحبوب حبا عميقا من شعب أرضه العريقة. وكان أيضا صديقا جيدا ـ وهادئا في الوقت نفسه ـ للولايات المتحدة. مارس الحكم في عُمان كما يليق بعاهل مستنير شبيه بالحكم في عصر الإسلام الذهبي فيما بين القرنين التاسع والعاشر، ولتسامحه ولينه حاز لدى شعب عمان ـ بل ولدى غيرهم ومنهم أنا ـ محبة باقية إلى الأبد.

عاهل في مهمة

جاء قابوس إلى الحكم في يوليو 1970 حيث كانت عمان في ذلك الوقت حبيسة القرن السابع عشر، بلا كهرباء، ولا هواتف، ولا طرق، برغم ثروة البلد المعطلة من النفط. لم يكن في مسقط كلها غير مستشفى تبشيري ومدرسة، ثم حفن من النخب والأجانب المقيمين. حتى النظارات كانت ممنوعة الاستعمال، وبوابات مدينة مسقط القديمة كانت تغلق كل ليلة.

سعى قابوس إلى «الإتيان بالنور إلى عتمة» بلده باستعمال النفط الذي كان معلوما بوجوده وإن يكن معطل الاستعمال. لكنه في البداية كان بحاجة إلى القضاء على تمرد كان يضطرم بلا حل في محافظة ظفار بجنوب البلد منذ عام 1962، ليرى العمانيون أسلوب الحكم الذي سيسم عهد سلطانهم الجديد. عفا عن الثوار وقياداتهم، ووعد المنطقة المهملة المعزولة بنصيب من المكتسبات الاقتصادية التي سرعان ما سوف تتحقق.

ووفى بذلك الوعد، بمطار دولي، وواحد من أكبر موانئ العالم لشحن الحاويات الكبرى، ومدارس، وجامعة، وطرق تربط المنطقة بشمال البلد وبمسقط. وعلى مدار حياته بقيت ظفار لقابوس ـ وهي موطن ميلاده ـ قريبة إليه، يكثر من التردد عليها.

بمعاونة من ضباط في الجيش البريطاني وقوات من إيران ـ وكانت لم تزل تحت حكم الشاه ـ والأردن، استطاع السلطان قابوس أن ينهي الثورة في عام 1976 وشرع على الفور في عزيمة يبني أمته. أولى اهتماما كبيرا للصحة والتعليم والنقل والاتصالات. وعمان بصفة عامة تنفق على الصحة والتعليم أكثر مما تنفق على الأمن الوطني، وذلك منجز لم يتباه به قط لكنه أكثر ما كان يفخر به.

وكان النقل والاتصالات أساسيين في خطته الكبرى الرامية إلى إقامة دولة عمانية موحدة أشد التوحد. أراد أن يوحد الأمة كلها، وقد تألفت من قبائل متفرقة في الصحراء، متناحرة في الغالب، وقرى نائية تعيش على صيد السمك، وحفنة من البلدات التجارية الصغيرة. وكان هدفه الأكبر واضحا: ففي ظل وعيه بنبل تاريخ بلده وعزته، سعى إلى صياغة وإنماء هوية عمانية واحدة.

حكم قابوس بتواضع وبساطة. وامتنع عن التقلد بلقب السلطان إلى أن يتلقى البيعة، أو قسم الولاء من شيوخ كبرى القبائل العمانية. على مدار عام، وفيما كان لم يزل يقود المعركة ضد الثورة، زار كلا منهم لوضع ملامح خططه للحكم وتطوير البلد. ولم يتقلد منصب السلطان إلا بعد أن ظفر بدعمهم.

درس في الإقناع

حكى لي مرة قصة تجسد أسلوبه ومنهجه في الحكم. في أولى سنوات حكمه، أراد أن يقيم طرقا عبر أشد مناطق البلد انعزالا. اعترض شيوخ ثلاث قبائل كبيرة على ما رأوه فخاخا حداثية لا لزوم لها. أوصى مستشاروه وقادته العسكريون بإرسال قوات لإرغام الشيوخ على القبول بفرق العمل وحمايتهم وهم يعملون في مد الطرق.

وبدلا من ذلك، دعا قابوس الرافضين الثلاثة إلى قصره وأقام لهم حفلا مهيبا وعاملهم معاملة ضيوف الشرف. وخلال العشاء لم يتم التطرق إلى موضوع الطرق قط. وبعد الوليمة، رافقهم إلى الخارج وأهدى لكل منهم سيارة أوروبية فارهة جديدة، لكنها ليست من سيارات الدفع الرباعي. وفي لهفة منهم على التباهي أمام أبناء قبائلهم بالسيارات الجديدة المهداة من السلطان، صاروا يتلهفون على إقامة الطريق.

والعمانيون اليوم من أفضل شعوب الشرق الأوسط تعليما وحظوة بالرعاية. فالدراسة أصبحت إلزامية للبنات وللأولاد، وكذلك تدريس اللغة الإنجليزية. أما التلاميذ المقيمون في المناطق الجبلية، فمروحيات القوات الجوية السلطانية العمانية هي «حافلاتهم» المدرسية في بداية كل أسبوع ونهايته. مع وجود عنابر لإقامتهم وهم في المدرسة.

والوصول إلى المستشفيات والعيادات يسيرٌ على كل عماني. وحتى في بعض أنأى القرى الجبلية التي زرتها سفيرا للولايات المتحدة، نادرا ما عجزت عن رؤية عيادة إما في القرية أو على مقربة شديدة منها. ولكي يضمن للمستشفيات والعيادات فرق العمل المناسبة حرص قابوس على أن يتلقى مقدمو الرعاية الصحية تدريبا نوعيا في المملكة المتحدة والولايات المتحدة في الغالب. وكان يشك في دول أخرى تزعم الرعاية الصحية من المهد إلى اللحد لكنها لا تلتفت كثيرا إلى جودة تلك الرعاية. واليوم بوسع العمانيين أن يدربوا أغلب أطبائهم وممرضاتهم وفنييهم الطبيين داخل البلد.

في وقت متأخر من حياته اشتهر قابوس بالبعد. وكان قليل التفاعل للغاية مع الإعلام، ولا يستثنى من ذلك الإعلام العماني. ولكنه لفترة غير قليلة من حكمه، كان يمضي كل عام إلى مناطق مختلفة من السلطنة لما بين أربعة أسابيع وستة يقضيها في جولاته الشهيرة لمقابلة الشعب. وفي مخيم يقام، وبصحبة عدد من وزرائه المرافقين، كان يقيم مجلسا كل يوم يحضره كل من يشاء الحضور من العمانيين للحديث معه.

وكان في بعض الأحيان يشير إلى وزير ليدوّن ملاحظة ثم يتابعه من بعد ليرى إن كان الأمر المعني قد عولج. وكان الجميع موضع ترحيب، سواء في ذلك البدو والشيوخ. وفي الأمسيات كان يستضيف سكان المناطق المجاورة في عشاءات عمانية تقليدية كريمة. وفي سنوات تالية، تراخى إيقاع عقد تلك الجولات إلى أن تسبب المرض في استحالة مغادرته القصر.

رجل النهضة في الشرق الأوسط

كان قابوس إنسانا مميزا، مثالا للرجل ذي الثقافة الموسوعية. كانت اهتماماته ومعارفه عريضة عميقة. فقد بعث وهو تلميذ صغير للدراسة في المملكة المتحدة، وهناك أحب الموسيقى الكلاسيكية الغربية كلها. أنشأ الأوركسترا السيمفونية بعازفين عمانيين بالكامل درسوا الموسيقى بأموال دفعها من حسابه الخاص. تعزف الأوركسترا كلا من الموسيقى الكلاسيكية الغربية والموسيقى العربية التراثية التي كان له ولع بها هي الأخرى. ومن بعد أقام دارا مهيبة للأوبرا، بنيت على الطراز المعماري الإسلامي والعماني، التراثي والأنيق، لتحتضن العروض الأوبرالية والأوركسترالية.

وتمتلئ أرفف مكتبات قصوره من الأرض إلى السقف بكتب في شتى المجالات، لا سيما كتب الموسيقى. ولكل من القوات المسلحة والشرطة السلطانية فرقتها الموسيقية العسكرية. وفي حفل وداع أقامه لي أنا وزوجتي قبل مغادرتنا، عزفت فرقة الموسيقى العسكرية العمانية العديد من أغنيات برودواي الذائعة التي استمتع بها. ولم أعرف قط كيف تسنى له أن يعرف أن تلك الأغنيات هي أيضا أغنياتي المفضلة، فلقد ابتسم ابتسامة مازحة حينما سألته.

كان من يزورون كبرى مدن الخليج ثم يزورون مسقط يذهلون من فتنة عمان الخاصة. فما من ناطحات سحاب مبهرجة في أفق مسقط الطبيعي المذهل، إذ لا بد أن تلتزم المباني بشروط صارمة للحفاظ على أسلوب المدينة التراثي. وكذلك كان قابوس أيضا. إذ كانت الثقافة والتراث يعززان الهوية التي ناضل لترسيخها في الشعب العماني.

شملت اهتماماته الفن والعمارة والفلك والبيئة والتاريخ والدين والشؤون السياسية. وإثر عودته من الدراسة ـ التي تضمنت أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية في بريطانية وخدمة في وحدة من الجيش البريطاني تابعة للناتو في أوروبا، أمر الأب ابنه قابوس بالرجوع إلى عمان، وأمره أن يدرس القرآن الكريم ففعل ذلك في حماس.

استعان بخدمات العديد من شيوخ الإسلام المتعلمين، وقرأ بنهم لا في القرآن وحده بل وفي الحديث وغيره من النصوص الدينية، حتى بات هو نفسه أقرب ما يكون إلى عالم في الإسلام. كان يستطيع أن يستشهد بإسهاب من القرآن ويناقش في التفسير. ومعرفته بالإسلام قادت منهجه إلى الحكم والتسامح والفضول. كان يمقت التطرف ويراه نقيضا للإسلام الحق ويرتاب في الورع المفتعل.

إحساس بالتاريخ والهوية

كان قابوس شديد الوعي بالتاريخ المجيد الذي كان لعمان في يوم من أيام القرن التاسع عشر حين كان أحد أجداده القدامى قبل أجيال عديدة يحكم إمبراطورية على المحيط الهندي تضم ممتلكات في أفريقيا والهند وما يعرف اليوم بباكستان.

وفي مطلع القرن التاسع عشر، حينما كانت عمان قوة بحرية كبرى، أوفد سعيد بن سلطان سفارة إلى أمريكا بعد توقيع معاهدة صداقة وتجارة مع الولايات المتحدة سنة 1833. أبحرت هذه البعثة في سفينة صغيرة تدعى «سلطانة» طوال شهور حتى بلغت ميناء نيويورك. وكان للبحارة العمانيين عهد قديم بالترحال في البحار منذ القرن الرابع، حيث وصلوا إلى الصين. قضى السفير أحمد بن نعمان تسعة أشهر في الولايات المتحدة واضعا أساس العلاقات الأمريكية العمانية المستقبلية.

فهم قابوس أن بلده لا يستطيع البقاء بدون أصدقاء أقوياء. فسارع بإقامة روابط مع البريطانيين وأقام علاقات قوية مع كل من العائلة المالكة والقوات المسلحة في المملكة المتحدة. وفي عام 1980، في غمار ثورة إيران، وصل إلى مثل ما وصل إليه أسلافه في القرن التاسع عشر من الولايات المتحدة.

وبرغم أن العلاقات لم تبلغ قط مثل قوة العلاقات مع بريطانيا، أصبح قابوس حليفا مقربا، وإن يكن هادئا، للأمريكيين. فمهمة إنقاذ الرهائن الأمريكيين في إيران انطلقت من عمان.

ولم يطلب شيئا قط في المقابل. بعيد افتتاح سفارة في مسقط سنة 1972، بدأت الولايات المتحدة مهمة معونات أمريكية ركزت في الغالب على الرعاية الصحية والتعليم. وبحلول منتصف الثمانينيات، رأت الولايات المتحدة وعمان أن الأخيرة لديها من الثروة قدرا كافيا وأنه لا حاجة إلى المعونات فأنهيت.

في جيرة صعبة تعلّم التعايش

برغم الروابط مع الغرب، رسم قابوس مسارا مستقلا للشؤون الخارجية، مصادقا جاريه السعودية وإيران. شرح لي ذات مرة قائلا إن علينا أن نبقى في هذه المنطقة والتعايش مع ما لدينا من جيران.

كانت علاقة عمان مع إيران نقطة ملتهبة في روابطها مع الولايات المتحدة. لكنه بقي ثابتا على إبعاد بلده عن التوتر المستمر في العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران. ومع ذلك استثمر علاقته مع إيران في مبادلة الرسائل بين واشنطن وطهران واستضافة المحادثات التي أدت إلى اتفاقية إيران النووية. واستعمل أيضا علاقاته في استرداد الأمريكيين المحتجزين في إيران واليمن.

أدار قابوس بفعالية تحديا مستحيلا، فحافظ لبلده على السلام في أخطر منطقة في العالم. فليس لعمان أعداء. والقرارات التي اتخذها عكست مصالح بلده الصغير لكنها نادرا ما أثارت خصومة الآخرين. وفي السنين الأخيرة من حكمه، كان غالبا ما يزوره قادة العالم طالبين منه النصيحة والمشورة. لم يزره من رؤساء الولايات المتحدة في عمان إلا بل كلينتون، وإن زاره جورج إتش دبليو بوش زيارة قصيرة بعد تركه الحكم. أما قابوس الذي لا يحلو له كثيرا السفر الطويل فلم يزر واشنطن إلا مرة واحدة كسلطان سنة 1983 لمقابلة الرئيس ريجان. مع أنه تلقى دعوة الزيارة من جميع الرؤساء. والمحزن أنني حاولت إقناعه مرارا بلا جدوى.

إن مصطلح «التحول» لا يكاد يصلح وصفا لقابوس وعهده. فلقد بنى عمان، وترك بصمته على كل جانب تقريبا من جوانب بلده: الثقافة والشؤون الخارجية والدفاع والعمارة والتعليم والنقل والبيئة والصحة.

ولنا أن نرى حكمته في خليفته جلالة السلطان هيثم بن طارق. فمجالات خبرة السلطان هيثم الحكومية السابقة كانت في وزارة الشؤون الخارجية وفي وزارة التراث والثقافة التي عمل وزيرا لها. ولقد انتقد كثير من مراقبي السلطنة السلطان قابوس لعدم إعداده خليفة له إعدادا كفئا. لكن الحقيقة أن قابوس فيما يبدو قد أعدّ هيثم لدوره بغمسه في المجالين اللذين كان قابوس يعتقد أنهما الأهم للسلطان العماني الناجح، أي هوية البلد الفريدة عبر الثقافة والتاريخ، والسياسة الخارجية الجماعية وشديدة الاستقلال في الآن نفسه.

لعل قابوس فاقنا جميعا في حكمته، وربما يثبت أن حكمته أبقى. لقد كان سلطان عمان حاكما ورجل دولة لا أحسب أن ترى المنطقة مثيلا له لوقت طويل قادم.

ترجمة: أحمد شافعي

نشر المقال في فير أوبزرفر