1424681
1424681
عمان اليوم

المرأة في فكر السلطان قابوس .. جـنـاح الـطـائـر الجـميـل الـذي يـصنـع الفارق

26 يناير 2020
26 يناير 2020

تحتاج قراءة مكانة المرأة في فكر فقيد الوطن السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- إلى قراءة تاريخية لتلك المكانة أولا في سياق المجتمع العماني خلال قرون طويلة. وهي قراءة غنية بالتفاصيل والشواهد التي يمكن أن تغير نظرة العالم أجمع لمكانة المرأة في العالم العربي بما فيها من استثناءات؛ لأن تلك الاستثناءات عندما نجدها في مجتمع يعد من أكثر المجتمعات العربية محافظة على العادات والتقاليد والأعراف الراسخة يكون وقعها أكبر وتدل على وعي مجتمعي وسياسي يستحق التقدير.

وحضور المرأة في السياق التاريخي ذاك يفسر اهتمام السلطان الراحل بها في بناء الدولة المدنية الحديثة، باعتبار مكانتها امتدادا تاريخيا، وليست مكانة فرضتها ظروف آنية واتفاقات أممية. لكن لا شك أن المرحلة التاريخية التي سبقت انطلاق الدولة الحديثة في عُمان عكست ظلالها على واقع المجتمع بجناحيه، وكان جناح المرأة الأكثر تضررًا، وكان لا بد من استعادة دور الجناحين ليستطيع المجتمع التحليق بالدولة عاليًا بشكل متوازن، فالتاريخ العماني يكشف عن مكانة للمرأة تعادل مكان الرجل، فأقدم ملك تحفظه كتب التاريخ لعمان كان امرأة هي الملكة شمساء التي ذكرها عبدالله الطائي في كتابه تاريخ عمان السياسي، وكانت المرأة في سياق التاريخ العماني فقيهة وعالمة ومفتية ومرجعًا لحل الخلافات السياسية إبان التوترات التي تجتاح البلاد، بل إنها كانت وصية على الحكم كما كان الحال مع السيدة موزة ابنة الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي.

كان فكر جلالة السلطان قابوس -طيب الله ثراه- واعيًا لكل تلك التفاصيل التاريخية التي راكمها المجتمع العماني ولذلك أكد عليها منذ خطاباته الأولى واهتمامه العملي الذي لم يفرق بين الرجل والمرأة.

ولأن أهم ما يتميز به فكر السلطان قابوس السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي يكمن في فهمه العميق للتاريخ وقراءته الدقيقة له في سياق تحولات الإنسان وتطوره فقد كان تعامله مع المرأة منذ الأيام الأولى للنهضة الحديثة تعامل جناح في جسد طائر، فنقرأ له يقول: «الوطن في مسيرته المباركة، يحتاج إلى كل من الرجل والمرأة فهو بلا ريب، كالطائر الذي يعتمد على جناحيه في التحليق إلى آفاق السماوات، فكيف تكون حاله إذا كان أحد هذين الجناحين مهيضا منكسرا؟ هل يقوى على هذا التحليق»، وفي هذا التشبيه بلاغة كبيرة تعكس فهم مكانة المرأة، فليست هي النصف الثاني، هي جناح، وعند الحديث عن الأجنحة لا يمكن أن تعطي أحد الجناحين أهمية أقل من الجناح الآخر.

بهذا المعنى حضرت المرأة في المشهد العماني منذ اليوم الأول. فعندما فتحت المدارس تحت ظلال الأشجار كانت للجميع دون استثناء، بل إن التركيز كان على المرأة أكثر من غيرها إيمانا بأنها صانعة ماهرة للمجتمع، وأن تغيير وعي الأجيال مرهون بما تزرعه هي فيهم من وعي مختلف.

وفي السياق العماني بكل تفرعاته الحياتية لا يتم الحديث، ومنذ فترة مبكرة جدا، عن تمييز بين الرجل والمرأة في كل التفاصيل الحياتية، فالنساء شقائق الرجال. وبذلك حضرت المرأة في كل الميادين وساهمت، وفق طاقاتها وإمكانياتها، في بناء المجتمع العماني، ولأن الأمر كان ضمن ثقافة المجتمع العماني لم يشكل هذا صدمة مجتمعية تستحق الوقوف عندها رغم تحفظات بسيطة سرعان ما تلاشت واندمجت في عمق فكر أغلبية المجتمع وقناعاته.

وكان إيمان السلطان الراحل -طيب الله ثراه- واضحًا بأهمية أن تأخذ المرأة دورها في المجتمع، وأن يتم الدفع بذلك من قبل الحكومة للبعد عن جانب الشعارات التي تحلق بعيدًا عن الحقيقية. لذلك عندما ننظر اليوم لمشهد النهضة التي قادها السلطان الراحل نستطيع أن نقف على منجزات كبيرة حققتها المرأة، وعلى جميع المستويات، بدءا من الجانب السياسي وليس انتهاء بأبسط التفاصيل في حياته اليومية، خاصة أن الحياة الحديثة تجعل المرأة تنخرط في مجالات لم يعهدها المجتمع.

لم يكن الأمر عاديا ومتقبلا أن تظهر المرأة على شاشة التلفزيون مطلع سبعينات القرن الماضي، أو تظهر وهي تقدم أدوارا درامية أو في أي موقع من مواقع الإعلام، ولا أن تظهر في الثمانينات وهي ضمن فرقة الأوركسترا السمفونية السلطانية العمانية إلا أن ظهورها في ذلك التوقيت حمل رسالة مفادها أن النهضة الحديثة لا تفرق بين الرجل والمرأة في القيام بأدوار البناء والتعمير، وإن مثل هذه المشاركات تعطي عُمان بعدًا تقدميًا ينظر إليه العالم بعين الإعجاب والتقدير.

تلك المرحلة التأسيسية وذلك الفكر الذي وفِّرت له حماية بالقوانين هو الذي أوصلنا اليوم إلى أن تكون المرأة العمانية وزيرة لأهم الوزارات في الحكومة، نتحدث عن وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي، ووزيرة شؤون الفنون ووزيرة التقنية، وقبل ذلك وزارة التنمية الاجتماعية، وهي سفيرة في عدد من سفارات العالم، وهي عضوة منتخبة في مجلس الشورى، وعضوة معينة في مجلس الدولة، وتدير مؤسسات حكومية أخرى ومؤسسات مجتمع مدني، وهي ضابطة تقود طوابير عسكرية وأكاديمية تعتلي المنابر وتدير دفة القيادة وتصنع وعيا جمعيا في الجامعات. وليس هذا فحسب، بل دعم فكر السلطان -طيب الله ثراه- المرأة العاملة في الحقل، والعاملة في الصناعات الحرفية والمرأة ربت البيت التي تدير مصانع الرجال وترعى القيم والأخلاق.. باختصار فإن المرأة كانت وما تزال حاضرة في كل تفاصيل مشهد الحياة العمانية، وهذا إفراز مجتمعي قبل أن يكون تطبيقًا لقوانين وتشريعات الدولة التي لم تفرق بين الرجل والمرأة إلا بمقدار ما تفرضه الطبيعة الجسمانية لكل منهما.

ولم تنل المرأة هذه المكانة انتزاعا بل أخذتها وفق معطيات المجتمع العماني ووفق فكر السلطان قابوس التقدمي. ولذلك كتبت الكثير من النساء في عمان إن الحقوق التي نالتها المرأة جاءت متقدمة وسابقة على بدء التفكير في نيلها وفق سياق التطور المجتمعي في منطقة الخليج أو حتى المنطقة العربية.

وإذا رأى السلطان، رحمه الله، أن الوقت قد حان للعمانية؛ لأن تتبوأ مساحة أكثر طموحا فإنه يدعوها دعوة لتلك المساحات فنجده يقول مخاطبا جميع النساء العمانيات: «نود أن نوجه كلمة إلى المرأة العمانية ندعوها من خلالها إلى الاستفادة من كافة الفرص التي منحت لها لإثبات جدارتها، وإظهار قدرتها في التغلب على ما يعترض طريقها من عقبات».

حينما بدأ عقد التسعينات كانت المرأة فيه نصف المجتمع في كل شيء وهذا ما كشفه أول تعداد للسكان والمساكن والمنشآت في عُمان، شكلت المرأة أكثر من 49% من مجمل عدد السكان.

وكان العام التالي للتعداد، عام 1994 عامًا مفصليًا للمرأة العمانية في مسيرة شراكتها في بناء الدولة الحديثة، حيث قادها فكر السلطان -طيب الله ثراه- للمشاركة البرلمانية وأعطيت حق الترشح في مجلس الشورى بعد دورته الأولى وإن كان ذلك الحق ظل جزئيا في تلك الدورة من دورات المجلس على محافظة مسقط لكن السلطان أكد حينها للجميع أن الأمر لن يبقى حكرًا على مسقط، مضيفًا في سياق كلمته أمام المجلس «رأينا أن من حقها بعد هذه الحقبة من عمر النهضة العمانية الحديثة أن تشارك بفكرها وتسهم برأيها في شؤون وطنها، وإنها لمسؤولية وطنية كبيرة على المرأة أن تثبت من خلال جهدها الدائب وعملها المتواصل قدرتها على القيام بها على الوجه الأكمل.. إن حق المرأة في الترشيح والاختيار لعضوية مجلس الشورى لن يقتصر في المستقبل على محافظة مسقط؛ بل سيمتد بالتدريج وحسب الظروف والمقتضيات إلى سائر المحافظات والولايات» وفي ذلك الخطاب أوضح السلطان قابوس -طيب الله ثراه- أن مرجعية الجميع: الرجل والمرأة في الترشح هي الثقة، ثقة المجتمع «سيكون مرجع الأمر في ترشيحها مثلها مثل الرجل هو ثقة المواطنين فيها واختيارهم لها لتمثيلهم في هذا المجلس وفي ذلك تكريم لها بل تكريم للمجتمع كله وتصحيح لبعض المفاهيم الخاطئة التي تغض من شأن المرأة وتضع من مكانتها التي كفلها لها الدين الإسلامي الحنيف. فالنساء شقائق الرجال وقد أوصى بهن الرسول عليه الصلاة والسـلام في الحياة الإسلامية خاصة في العصور الأولى معروف مشهور» واستطاعت هذه الكلمات أن تضع أرضية هيأت المجتمع لتقبل الخطوة القادمة التي حدثت في عام 1997 حينما فتح مجال الترشيح والترشح أمام الجميع رجالا ونساء.

لم يمضِ عامان على هذا التقدم حتى أصدر السلطان قابوس مرسوما بتعيين أول عمانية في منصب سفير، حيث عينت خديجة بنت حسن اللواتية سفيرة السلطنة لدى هولندا. كانت المرأة في ذلك الوقت تشغل ثلاثة مقاعد في مجلس الدولة ومقعدين في مجلس الشورى إضافة إلى ثلاث نساء يشغلن منصب وكيلات وزارات. وفي عام 2004 كان العالم يحتفل باليوم العالمي للمرأة عندما أصدر السلطان مرسوما بتعيين أول امرأة لحمل حقيبة وزارية ليس في تاريخ عمان بل في تاريخ منطقة الخليج العربي، حيث عينت معالي الدكتورة راوية البوسعيدية وزيرة للتعليم العالي، لكن قبل ذلك بعام كان تعيين معالي الشيخة عائشة بنت خلفان السيابية رئيسة للهيئة العامة للصناعات الحرفية بدرجة وزير.

واستمرت مسيرة الإنجازات واكتملت المعادلة التي رعت جناحي التنمية المحلقة عاليا، وأصرت ألّا تبقى المرأة حبيسة أدوارها التقليدية كما هو الحال في الكثير من المجتمعات العربية.

وفي الحقيقة أثبتت المرأة نجاحها وأثبت السلطان قابوس -طيب الله ثراه- رجاحة رأيه حين أصر على أن تأخذ كافة حقوقها، وبقي يتابع إنجازاتها عن قرب، سواء من كان منهن في الإدارات العليا في الدولة أو المرأة التي تمارس أعمالها في مختلف مناحي الحياة.

وفي أكتوبر من عام 2009 عقدت ندوة موسعة ضمن الجولة التي يقوم بها السلطان في ولايات السلطنة هدفت إلى مراجعة ما تحقق للمرأة من إنجازات خلال مسيرة النهضة العمانية. كانت مداولات الندوة تكشف عن مكانة كبيرة حققتها المرأة العمانية خلال سنوات الدولة الحديثة لكنها أوصت «بتعزيز مشاركتها في العمل والمشاريع الاقتصادية، والتمويل وتشجيع المبادرات المجتمعية لمبدأ الشراكة والمسؤولية الاجتماعية بين القطاعات المختلفة، وتعزيز ثقافة العمل التطوعي، إلى جانب مجال التدريب والتأهيل في قضايا المرأة والأسرة والمجتمع».

لكن تلك الندوة أيضا خرجت بقرارات كان أهمها «إصدار مذكرات توضيحية لتفسير وتطبيق أحكام المواد القانونية الواردة في القوانين المحلية ذات الصلة بالمرأة والأسرة وخاصة قانون الأحوال الشخصية، وإصدار قانون صندوق النفقة لتنظيم الحياة المعيشية للمطلقة والأبناء في حال وقوع الطلاق، وتخصيص دوائر في المحاكم لقضايا الأسرة، والعمل على وصول المرأة لمرتبة القضاء، إضافة إلى إصدار قانون لتنظيم العمل التطوعي» إضافة إلى العديد من التوصيات التي تحولت فورًا إلى قرارات بعد أن اعتمدها السلطان وأكد عليها. وخلال الندوة تم اعتماد يوم الثامن من أكتوبر من كل عام يومًا للمرأة العمانية تحتفل فيه أو يحتفل بها المجتمع، ولكن أيضا تراجع ما حققته وتطرح سنويا على طاولة النقاش التحديات التي تواجهها.

وبذلك استطاع فكر السلطان أن يحول المجتمع العماني إلى داعم للمرأة العمانية بل دافع لها لاستمرار التحليق فهي الجناح الأول لطيران التنمية عاليًا.

وإذا تتبعنا القوانين الصادرة في عُمان سنجد أن النظام الأساسي للدولة ينص على المساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء، ومن النظام الأساسي انطلقت القوانين الأخرى لتعطي المرأة حقوقها بمساواة مع الرجل في كل شيء، ولا تخاطب القوانين الصادرة في السلطنة المرأة بشكل منفرد بل تخاطبها باعتبارها مواطنة كاملة الحقوق مثلها مثل الرجل.

وإذا ما عدنا إلى قانون العمل على سبيل المثال سنجد القانون الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 35/‏‏2003 تنص أحكامه على تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في مجال العمل، بل إن القانون خاطب الجميع باسم «العامل» دون تمييز بين الرجل والمرأة، رغم أن القانون راعى طبيعة المرأة ولم يسمح بتشغيلها في الوظائف والأعمال الشاقة الضارة جسديًا وأخلاقيًا.