Untitled-2
Untitled-2
المنوعات

مرفأ قراءة .. «مدرسة القاهرة» مشروعات فكرية رائدة في نقد التراث

25 يناير 2020
25 يناير 2020

إيهاب الملاح -

«مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية» واحد من أهم الكتب التي قرأتها في السنوات الأخيرة، وأهميته تعود إلى وجوه عدة، منها: موضوعه الذي يقع في منطقة معرفية تتقاطع فيها حقول وعلوم إنسانية متباينة ومتداخلة، تاريخ المؤسسات الثقافية، وتاريخ الأفكار، وعلم اجتماع الثقافة.. إلخ، ومنها الأسماء الكبيرة التي عالج أفكارها، بل مجمل مشروعها الفكري في مؤسسة كبيرة وعريقة مثل جامعة القاهرة، وأخيرًا إلى مؤلفه الذي قدّم هذا العمل الرصين الجريء.

مؤلف الكتاب، جمال عمر مثقف مصري مغترب، يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ سنوات بعيدة، لكنه يعيش بعقله وجوارحه همومَ ثقافته التي ينتمي إليها لغةً وفكرًا، ويمارس في سبيل ذلك جهدًا قرائيا وبحثيًا متميزًا منذ أن تعرف على كتب نصر أبو زيد وأفكاره منتصف تسعينيات القرن الماضي، وصار من أقرب تلاميذه إليه واتصالًا به، وأكثرهم دأبًا ومتابعةً لكل ما يكتب نصر، ثم تعرف على أعمال المفكر الراحل وأستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي المرحوم الدكتور علي مبروك.

ومن خلالهما (نصر أبو زيد وعلي مبروك)، ومن خلال قراءة أعمالهما، بتأن وفهم واستيعاب، انفتح جمال عمر على كامل المشروعات الفكرية العربية، المشرقية والمغربية على السواء (محمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وجورج طرابيشي، ومحمد أركون، وطيب تيزيني، وهشام جعيط، وغيرهم) والتي قاربت إشكال قراءة التراث (ونقده)، وتصدت لسؤال النهضة والتخلف، منذ المحاولات الأولى المبكرة لرفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وصولا إلى الأفغاني ومحمد عبده.

وكانت حصيلة هذا المجهود الاستقصائي الدؤوب المثابر كتابه الممتع المثير للشغف «مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية» (صدر عن دار الثقافة الجديدة بالقاهرة 2019) الذي قدّم فيه جهدًا وصفيًا وتحليليًا رائعًا يستحق التقدير والتحية، لم يكن الغرض تأريخًا خالصًا لحركة الفكر العربي الحديث، ولم يكن بحثه أيضًا تحليلًا خالصًا لمجمل الأفكار التي أنتجها مثقفون درسوا وتخرجوا في الجامعة المصرية (جامعة القاهرة) في إطار نسقٍ من الأفكار والقضايا والهموم التي انشغل بها الآباء المؤسسون (طه حسين، وأمين الخولي، مثالًا) وتلاميذهم (محمد أحمد خلف الله) ومن بعدهم تلاميذ تلاميذهم (جابر عصفور، وحسن حنفي، ونصر أبو زيد، وعلي مبروك)...

بل كان عمله مزيجًا من كل هذه الدوائر، وإن كان هذا المزج يحمل ضمنيًا إدانة واتهاما بالتقصير لمؤسساتنا ومراكزنا البحثية، ولفكرة «فريق العمل» وضرورة تضافر الجهود في العلوم الإنسانية، فقد تصدى جمال عمر بمفرده لملء فراغات في التأريخ (الذي لم يكتمل حتى اللحظة، ولم يظهر تاريخ معتبر ومستوف لمؤسساتنا الفكرية ولحركة الفكر العربي والمصري، بصورة كلية شاملة ومستوعبة)، وملء فراغات في التنظير (الانطلاق من أطر منهجية ومفاهيم تصورية ومعرفية تحدد مسار القراءة والبحث ومنها مفهوم العلائقية الذي يعتمده جمال عمر مفهوما رئيسيا في البحث)، وأخيرًا ملء فراغات في الربط والتحليل، فيما يخص القضية الرئيسية التي يعالجها، وهي تتبع جهود قراءة التراث و«نقده» داخل مؤسسة الجامعة المصرية بجناحيها، اللغوي (قسم اللغة العربية)، ويمثله جابر عصفور ونصر أبو زيد، وقبلهما طه حسين، وأمين الخولي، ومحمد أحمد خلف الله، وشكري عياد. والجناح الفلسفي (قسم الفلسفة) ويمثله حسن حنفي، وعلي مبروك، وما يتقاطع مع هذه الجهود من خارج الجامعة، بل من خارج مصر في المغرب العربي ومشرقه على السواء.

في رأيي، فإن ميزة الكتاب الأولى أنه يقدم خارطة كلية وشاملة لأبرز وأهم المشروعات الفكرية التي قدمت في إطار نقد التراث وإعادة قراءته، من مناظير ومناهج ومداخل معرفية وفلسفية وإنسانية متعددة ومختلفة، انطلاقا مما تم إنجازه داخل المؤسسة الجامعية الأكاديمية الأقدم والأعرق في الثقافة المصرية والعربية، جامعة القاهرة، كما أنه يقدم محاولة تصنيفية دقيقة وشاملة بغية التيسير والتسهيل على من يتعرفون على هذه المشروعات وأصحابها للمرة الأولى.

يقول جمال عمر في تقديمه للكتاب، في تأصيل مفهومه للعلائقية:

«إنها محاولة مني للربط بين الظواهر وتعالقها فيما بينها، ليس فقط في علاقات خارجية برانية صورية، بل «علائقية» تقوم فيها العلاقات بين الظواهر أو بين الأشخاص أو بين لحظات الزمن على التراكب، ليس فقط أن تكون ظاهرة علة لظاهرة أخرى في الوجود والحركة، بل إن وجود ظاهرة أو جهد مفكر ما هو مشروط بشروط ظاهرة أخرى ومفكر آخر، فلا وجود لأحدهما دون وجود الآخر، في سياق من الزمان والمكان».

واستنادا إلى هذا المفهوم بتصوره السابق يسعى جمال عمر بالنص إلى أن يلقي ضوءا كاشفا على مجموع خطابات فكرية ونقدية تم إنتاجها في إطار مؤسسة الجامعة، ليس من خلال التنظير المباشر للموضوع، بل عبر فعل ممارسة لدراسة علائقية «مشتبكة وملتبسة» بين خطابات محددة في اتصالها وتشابكها وتقاطعها مع بعضها بعضا، بدراسة «مدرسة القاهرة لنقد التراث ونقد الخطاب الأشعري»، في سياق مؤسسة الجامعة الحديثة، وفي سياق المؤسسة في فكرنا العربي الحديث، والفكر العربي في سياق عملية التحديث، وكل ذلك في سياق علاقتنا بالتراث القديم، وعلاقتنا بالآخر وبالواقع، داخل وعينا.

يقول جمال عمر: إن ظاهرة «الأطلقة» وظاهرة «اللا تاريخية» في وعينا الحديث رصدهما الكثيرون من دارسي الخطاب العربي، ورصدوا الأسباب والعوامل المشكِّلة لهما، قديما وحديثًا، فبعضها يعود إلى عمليات تحديث الترقيع التي نعيشها خلال القرنين الماضيين، والبعض الآخر يعود للتصورات التي سادت في ثقافتنا التراثية والحديثة عن التاريخ، وكيف يعمل التاريخ، ويتحرك، في وعينا من خلال التصورات الأشعرية عن العلاقة بين الله والإنسان والعالم؛ كتصوراتٍ بشرية سادت واستمرت وأصبحت «عقائد»، و«دينًا»، وأصبحت تصوراتها «معلوما من الدين بالضرورة».

يطمح جمال عمر لأن يكون هذا الكتاب مقدمة تطبيقية يحاول فيها، عبر تفكيك وتحليل العلائقية بين الخطابات المنتجة في الجامعة «الحديثة» التي تشكلت في وعينا «الحديث» خلال القرن الماضي، أن تدرس مفاهيم «الأطلقة»، أو التعامل مع الظواهر والمتغيرات باعتبارها مطلقات غير خاضعة للدرس والتحليل! كما تدرس أيضًا مفهوم «اللا تاريخية» التي تتعالى وتهدر تاريخية الوقائع والشخوص والفكر، وتدرس ترقيع عملية التحديث والبحث عن إجابات لأسئلة النهضة والتخلف والتقدم والتراث والمعاصرة، من خلال نموذج واحد والتدقيق فيه، هو نموذج مدرسة جامعة القاهرة، من خلال أربعة خطابات لافتة نشأت فيها، ومن خلال مدرستها البكر في كلية الآداب، ومن خلال قسم اللغة العربية، وقسم الفلسفة، حيث تركز الدراسة على هذين القسمين من خلال خطابين في كل منهما، خطاب حسن حنفي في علائقيته بالأجيال التي سبقته داخل قسم الفلسفة، وخطاب علي مبروك.

وفي قسم اللغة العربية يتناول الكتاب خطابي جابر عصفور ونصر حامد أبو زيد، سعيًا لتناول كل هذه الخطابات وهي حية تنبض في تفاعلها مع بعضها البعض وفي تفاعلها مع الأجيال التي سبقتها خلال عملية التحديث والسعي إلى النهوض، من خلال دراسة النصوص التي كتبها كل منهما عن الآخرين مباشرة، فالخطاب «حي حين يناقش وينقد ويساجل، كمساهمة في استيعاب واقعنا حيا بأبنيته ليكون نقطة بداية للتعامل معه تغييرا وتجاوزا»، كما يقول مؤلف الكتاب.