أفكار وآراء

ميراث التقشُّف المدمِّر

25 يناير 2020
25 يناير 2020

بول كروجمان- نيويورك تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

قبل عشرة أعوام كان العالم يعيش في أعقاب أسوأ أزمة اقتصادية منذ ثلاثينات القرن الماضي. نعم استقرت أسواق المال الآن، لكن الاقتصاد الحقيقي (اقتصاد السلع والخدمات- المترجم) لايزال في وضع بائس، فهنالك حوالي 40 مليون عامل أوروبي وأمريكي شمالي بلا عمل.

لحسن الحظ تعلم الاقتصاديون الكثير من تجربة الكساد العظيم (1929). فهم يعرفون على نحو أخص أن التقشف المالي، والذي يعني تقليص الإنفاق الحكومي في محاولة لضبط الموازنة، فكرة سيئة حقا في اقتصاد راكد.

لكن لسوء الحظ، أنفق واضعو السياسات على جانبي المحيط الأطلنطي النصف الأول من العشرية الثانية من هذا القرن وهم يفعلون بالضبط ما علمتهم النظرية وأيضا التاريخ ألا يفعلوه، هذا التحول الخاطئ في السياسات تنشأ عنه نتائج سيئة اقتصاديا وسياسيا.

فقد ساهم الهوس بالعجز في سنوات 2010-2015 خصوصا في تهيئة المسرح لأزمة الديمقراطية الحالية.

السؤال: لماذا التقشف في اقتصاد راكد فكرة سيئة؟

الجواب: الاقتصاد ليس مثل الأسرة التي لايوجد رابط بين دخلها وإنفاقها، هذان الجانبان شيئان منفصلان بالنسبة لها. أما في الاقتصاد ككل فإن إنفاقي هو دخلك وإنفاقك هو دخلي.

ما الذي يحدث إذا حاول كل أحد خفض إنفاقه في نفس الوقت مثلما كانت هي الحال في أعقاب الأزمة المالية؟

ما يحدث أن دخل كل أحد سينخفض. لذلك يلزمك كي تتجنب الركود أن يكون لديك أحد ما، وتحديدا الحكومة، للمحافظة على حجم الإنفاق أو زيادته (وهذا أفضل) عندما يقلص كل أحد آخر إنفاقه.

في عام 2009 مارست الحكومات في معظمها شيئا قليلا على الأقل من التحفيز المالي للإقتصاد (بالتوسع في الإنفاق- المترجم).

لكن في عام 2010 استولى على خطاب السياسات أناس كانوا يصرون من جانب على أننا بحاجة إلى خفض العجوزات المالية الحكومية فورا أو سنتحول كلنا بدلا عن ذلك إلى «يونان أخرى». كما يرون، من جانب آخر، أن تخفيضات الإنفاق لن تؤذي الاقتصاد لأنها ستعزز الثقة.

الأساس الفكري لهذه المزاعم كان دائما واهيا. فقد انهارت حفنة الأوراق الأكاديمية التي تدعي الدفاع عن سياسة التقشف بسرعة عند تمحيصها. كما سرعان ما أكدت الأحداث مبادئ الاقتصاد الكلي، لم تتحول أمريكا إلى «يونان». والبلدان التي فرضت على نفسها تقشفا قاسيا عانت من أوضاع انكماش اقتصادي شديد الوطأة.

إذن لماذا اعتاد واضعو السياسات وصانعو الرأي العام على الانحياز لسياسة التقشف في حين أنهم كان ينبغي عليهم محاربة البطالة؟

إحدى الإجابات التي لا ينبغي طرحها جانبا هي أن التنديد بشرور عجوزات الموازنة الحكومية لا يجعل المرء يبدو مسؤولا، على الأقل بالنسبة للناس الذين لم يدرسوا الموضوع أو غير محيطين بما يستجد في مجال البحث الاقتصادي.

ذلك هو السبب في أنني كنت دائم السخرية من الوسطيين والشخصيات الإعلامية التي تقدم المواعظ حول وجوب التقشف «بوصفهم» أناسا جادين جدا. فحتى اليوم يتخيل البليونيرات أصحاب الطموحات السياسية أن إطلاق التحذيرات المخيفة من الدَّين (الحكومي) تدلل على جديتهم.

وراء المناداة بالتقشف تكمن، إلى حد كبير، دوافع خفية. لقد كان يتم توظيف المخاوف من الدَّين كمبرر لخفض الإنفاق على البرامج الاجتماعية وأيضا لعرقلة طموحات حكومات يسار الوسط.

وهنا في الولايات المتحدة ظل الجمهوريون طوال عهد أوباما بكامله يَدَّعُون القلقَ العميق بشأن عجوزات الموازنة وفرضوا على البلد سنوات من خفض الإنفاق الذي قاد إلى تباطؤ التعافي الاقتصادي. لكن في اللحظة التي دخل فيها دونالد ترامب البيت الأبيض اختفت كل تلك المخاوف المفترضة الأمر الذي أكد موقفنا نحن الذين قلنا منذ البداية أن الجمهوريين المتظاهرين بالتشدد تجاه العجز المالي كاذبون.

بالمناسبة، ربما أن هذه «الكينزية» المتخذة كسلاح سياسي هي العامل الرئيسي الذي يفسر لنا المستوى الجيد (ولكن ليس العظيم) للنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة خلال العامين الماضيين رغم الفشل التام لخفض الضرائب عام 2017 في تحقيق الزيادة الموعودة في حجم الاستثمار الخاص. ( الكينزية هي النظرية المنسوبة إلى كينز وفحواها ان زيادة الطلب تعزز النمو، لذلك دعا كينز الحكومة إلى التوسع في الانفاق إبان الركود العظيم في ثلاثينات القرن الماضي- المترجم). فإنفاق الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة كان ينمو بمعدل لم يحدث منذ السنوات الأولى من العقد الماضي.

لكن ما أهمية هذا التاريخ؟ فمعدلات البطالة الآن في الولايات المتحدة وأوروبا إما أنها قريبة أو أدنى من مستوياتها في فترة ما قبل الأزمة. ربما واجهنا قدرا كبيرا من المعاناة غير الضرورية في الطريق، لكن أَلَسْنَا على ما يرام الآن؟

لا لسنا كذلك، فسنوات التقشف خلفت العديد من الندوب الباقية خصوصا في مجال السياسة.

هنالك عدة أسباب وراء الغضب الشعبوي الذي وضع الديمقراطية في سكة الخطر حول العالم الغربي. لكن الآثار الجانبية للتقشف في أعلى قائمة هذه الأسباب.

جاءت الأحزاب القومية البيضاء إلى السلطة في أوروبا الشرقية بعد أن نفَّرَت حكوماتُ يسار الوسط الطبقةَ العاملة بخضوعها للضغوط الداعية الى تبني سياسات التقشف. وفي بريطانيا يحظى متطرفو الجناح اليمين بأقوى تأييد في المناطق الأكثر تضررا من سياسات التقشف الحكومية. أما هنا في الولايات المتحدة، هل كنا سنحصل على دونالد ترامب إذا لم تؤخر سنوات التقشف الخاطئ التعافي الاقتصادي إبان رئاسة باراك اوباما؟

أعتقد أن الهوس بسياسة التقشف قضى على صدقية النخبة، فإذا لم تعد العائلات العاملة تصدق أن النخب التقليدية تعلم ما تفعله أو تهتم بالناس من أمثالهم فإن ما حدث في أثناء سنوات التقشف يشير إلى أنها مُحِقّة.

صحيح من الوهم تخيل أن أناسا من شاكلة ترامب سيخدمون مصالح هؤلاء الناس على نحو أفضل، لكن من الصعب جدا إدانة نصَّاب حين تنفق أنت نفسك سنوات في الترويج لسياسات مدمرة لأنها ببساطة تبدو جادة.

باختصار نحن غارقون في الفوضي التي نحن فيها الآن إلى حد كبير بسبب السياسة الخاطئة التي تحوَّلنا إليها قبل عشرة أعوام.