أفكار وآراء

إطعام الجماهير الغفيرة.. تحدي 2020 الأكبر

24 يناير 2020
24 يناير 2020

إميل أمين - كاتب مصري -

ما هو التحدي المقلق للكثيرين حول العالم ونحن على عتبات العام الميلادي الجديد؟

المؤكد أن الحروب والصراعات المفتوحة تشكل مخاوف جذرية، والصراع القطبي العائد من جديد يمثل إزعاجا للعالم ويعيد هواجس المواجهات النووية، وقد يقلق البعض في واقع الأمر من عودة الحديث عن عسكرة الفضاء مرة ثانية، بعد أن هدأت جولة الثمانينات التي تسابق فيها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، في طريق الصعود إلى الفضاء.

ومع أن كل هذه القلاقل والاضطرابات مخيفة، إلا أن الخوف الأكبر يتوارى خلف إشكالية التغير الدولي للمناخ، ومدى تأثير ذلك على إيجاد رغيف الخبز الذي يسعى إليه كل إنسان مع إشراقة نهار جديد.

والشاهد انه ما بين أزمة التغيرات الإيكولوجية، وبين الأفواه الجائعة يبقى هذا هو الخطر الكبير، لا سيما وان كافة التوقعات الديموغرافية تشير إلى أن عدد سكان الكرة الأرضية سوف يصل إلى قرابة التسعة مليارات نسمة بحلول العام 2050.

أول علامة استفهام في هذا الطرح: هل التغير المناخي بالفعل قادر على إصابة البشرية في خبزها اليومي؟

في مؤلفه الشيق «العالم عام 2050» يحدثنا البروفيسور الأمريكي (لورنس سي.سميث) نائب رئيس قسم العلوم الجغرافية في جامعة كاليفورنيا عن أن زمننا الحاضر تعاني فيه الكرة الأرضية بشدة، الأمر الذي ينذر بتقلبات سريعة تفوق كل التوقعات، ومن هنا ولد علم المناخ الذي يعرف اليوم بالتبدل المفاجئ للمناخ، فمنذ عشرين عاما، كان كل من يفترض وقوع حدث مفاجئ يتعرض للسخرية، كجفاف يمتد قرنا من الزمان، أو ارتفاع سريع في درجات الحرارة، أو زوال سريع للغابات.

والثابت أن مجموعة متزايدة من الأدلة المستمدة من لب الجليد، وحلقات الأشجار، والمواد المترسبة في المحيط، ومحفوظات طبيعية أخرى، تخبرنا بحدوث أمور مماثلة في الماضي.

على أن الكارثة التي تتبدى لعلماء المناخ في حاضر أيامنا موصولة بمعرفتنا كيف أن مناخ الأرض قد تعرض لتبدلات كبيرة من قبل، ولكننا افترضنا أنها حدثت ببطء في مدة زمنية جيولوجية كالدوران التاريخي لقرص الهاتف، والآن اصبحنا ندرك إدراكا عميقا أن هذه التبدلات يمكن أن تحدث بشكل مفاجئ أيضا، على غرار نقر مفتاح كهربائي...ما الذي يعنيه ذلك؟

يمكن للقارئ أن يرفع ناظريه بين موقعين وموضعين جرت فيهما الطبيعة بتغيرات جذرية لا تصدق في العام الماضي وأوائل العام الجاري.

الحدث الأول تمثل في الحرائق غير المتوقعة التي حدثت في منطقة الأمازون بأمريكا اللاتينية، وقد كانت وبالا على القارة اللاتينية وعلى العالم برمته، باعتبار أن تلك الغابات تمثل بصورة أو بأخرى جزءا من رئة الأرض التي تتنفس بها، ومع اشتعالها على النحو الذي رأيناه باتت درجة حرارة الأرض أعلى من معدلها الطبيعي، الأمر الذي سوف تترتب عليها تغيرات سنأتي عليها لاحقا في العام الجديد.

المشهد الثاني يكاد يكون مشابها للأول وان جرت به المقادير على الجانب الأخر من الكرة الأرضية، حيث قارة استراليا البعيدة والتي أصابتها الحرائق نفسها، ولا تزال آثارها الكارثية بادية، مما تسبب في إهلاك الملايين من الكائنات الحية الحيوانية والنباتية واضر بتربة الأراضي هناك، كما أسهمت الأدخنة في تعكير صفو الهواء وزيادة ثاني أوكسيد الكربون في المناخ العالمي.

المحصلة الأولية لحرائق استراليا والأمارون، هي العودة من جديد إلى أزمة الاحتباس الحراري، وهذه هي المهدد الأكثر خطورة من القنبلة النووية عينها، ذلك أن ارتداداتها تصيب التربة الكونية بالتصحر، ومن هنا تفقد مقدرتها على إنتاج المحاصيل، ما يعني أن الجماهير الغفيرة سوف تستيقظ ولا تجد ما تسد به جوعها، ومن ثم يصبح في حكم المؤكد التصارع الأهلي الداخلي على الموارد الغذائية الشحيحة وشبه النادرة، ومن ناحية ثانية سوف تنطلق الملايين في هجرات عشوائية غير منظمة، كفيلة بإحداث تغيرات سكانية رهيبة.

أسوأ مثال ومن أسف على ما نقول به هو الحال ما بين القارتين الأفريقية السمراء المأزومة في الحال، وهي التي تحت التغيرات البيئية يمكن أن يسوء حالها اكثر في الاستقبال والقارة الأوربية المشاطئة لأفريقيا، والتي استطاعت عبر مراكمة رأس المال خلال الخمسمائة عام الماضية أن تغير من شكل ومستوى المعيشة فيها.

هنا نقول أن الأفارقة الجوعى لن يجدوا بدا من ركوب البحار والتوجه إلى أوروبا بالملايين وليسوا بالآلاف، فالحياة سوف تضحى المكافئ الموضوعي للموت، وعبور المتوسط ربما يعني فرصة للنجاة ولإيجاد رغيف الخبز، أما البقاء فهو يعني الموت المؤكد والحتمي لهم.

جزئية أخرى في التحدي الخاص بالجوع في عالمنا المعاصر وعلى عتبات العام الجاري، وهي موصولة بحالة الشجع الرأسمالي غير المسبوقة التي تعيشها البشرية في حاضر أيامنا.

ليس سرا أن هناك من الشركات الكبرى في مجال الطاقة من بات ينظر إلى المحاصيل الزراعية التي تسد جوع البشر على أنها وسيلة رخيصة وجيدة للحصول على الطاقة وليذهب البشر إلى ما شاء لهم أن يذهبوا جوعى أو غرقى.

المثال غير الإنساني المتقدم نجده في الداخل الأمريكي بنوع خاص، إذ تقدم الشركات الكبرى على سبيل المثال على تحويل القمح أو الذرة إلى سوائل من الايثانول، تستخدم في خدمة أمريكا الممطرة، أي تلك التي تقوم على المحركات بدءا من الدراجات ووصولا إلى الطائرات. ولعل المؤلم في المشهد الأمريكي على نحو خاص، هو أن واشنطن انسحبت بالفعل من اتفاقيات المناخ، تلك التي تحاول محاصرة المهددات الحديثة، ويقف وراء هذا التوجه لوبي الفحم في الكونجرس الأمريكي، والذي يدعم حملات المرشحين في النواب والشيوخ بالأموال الطائلة والساخنة.

هذا التحول في المفاهيم الإنسانية، والتمحور حول الذات، حتما سوف يتسبب في المزيد من الانهيار المناخي، وهو ما تعيه واشنطن جيدا، وبداية الأزمة الغذائية سوف تحدث، وربما هي حادثة بالفعل في الخلفية الجغرافية للولايات المتحدة الأمريكية، أي في قارة أمريكا اللاتينية، ولعل الرئيس ترامب سعى مبكرا من اجل ملاقاة هذه الاحتمالات، وسارع إلى فكرة بناء الجدار العازل مع المكسيك، وفاته انه كما في حال المتوسط، فان ملايين الجوعي من أمريكا اللاتينية لن يهتموا لشأن الموت على سور أمريكا، فهم في كل الأحوال سوف يقضون بالجوع أن استمر الوضع المناخي المتردي على هذا النحو.

السؤال إذن كيف يمكن ضمان سلامة الغذاء وتوريده غدا للجميع؟ وأية زراعة تلك التي ستعمل على تلبية الاهتمامات البيئية والصحية والتحديات الديموغرافية والمطالب الجديدة في مجتمعاتنا المتغيرة؟

افضل من تصدى للجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة في واقع الأمر هو البروفيسور «ميشيل بارنييه» وزير الزراعة والصيد الفرنسي الأسبق، في مؤلفه الجميل: (من سيطعم العالم ؟)، وعنده أن مسألة الجوع تتعدى حدودها ملء البطون، إذ هي تتهدد السلام العالمي، ذلك أن الإنسان الجائع إنسان غاضب، والغضب هو اقصر الطرق واخطرها للحروب ولتهديد سلام العالم المضطرب في الأصل.

لماذا الحديث عن الجوع في هذه الأيام وهل هناك علاقة ما بين الإشكالية المتوقعة وبين ما جرى قبل عقد من الزمان؟

الشاهد أن أزمة الغذاء التي ضربت العالم في 2008 قد هزت جميع القارات، وكانت كاشفة بعنف عن هشاشة هيكلية التوازنات الكبرى في العالم، فهناك أزمة في العرض، ولكن هناك أيضا أزمة في الحصول على الطعام، وهي أزمة كانت قاسية على نحو خاص على السكان في المناطق الحضرية الأقل حظا، وعلى معظم الدول التي تعتمد على الواردات.

يكاد كبار الاقتصاديين حول العالم أن يقطعوا بان هناك مخاوف من حدوث أزمة اقتصادية جديدة في العام الحالي، أزمة كساد وتضخم، وربما يغالي البعض في تشبيه الوضع المرتقب بما جرت به المقادير في ثلاثينات القرن العشرين من أزمة كساد عالمي عرفت بزمن الكساد الكبير أو العظيم.

والمخيف انه حال إضافة أزمة المناخ وتبعاتها الكارثية إلى إشكالية الأوضاع الاقتصادية العالمية، فان الجماهير الغفيرة الساعية إلى رغيف الخبز في الكثير من بقاع وأصقاع العالم سوف تضحى في مواجهة ومجابهة أزمة قاتلة وطاحنة يخشى معها على سلام العالم في الحال والاستقبال.

ما الذي يتوجب على العالم فعله في هذه الآونة القلقة والمضطربة؟

الشاهد أننا الآن في عالم مختلف، اكثر ندرة، اكثر محدودية، وقد انتهت الفترة الساحرة للنفط المتاح والبيئة المستقرة، وليس بوسعنا هذه المرة التهرب من النداء الذي اطلق منذ خمسة وثلاثين عاما بالفعل، في تقرير نادي روما: إذا اعتبرنا الطبيعية مصدرا لا ينضب للتنمية، فإننا نجازف بأزمة لم يسبق لها مثيل تحت تأثير النقص المفاجئ في الموارد والتلوث المفرط.

اليوم نجد أن أعمال المجتمع العلمي لا تدع مجالا للشك فعصر الندرة البيئية قد بدأ بالفعل، وعجل به استغلالنا الطائش للعالم، وبشكل أساسي نجد أن التحدي البيئي هو التحدي الاقتصادي.

من هنا يمكن القطع باننا نواجه تحديا اقتصاديا جذريا يمكنه أن ينهي حياة البشر على الأرض إذا انفجرت الكرة الأرضية من الاستغلال البشري السيئ لها، وانفجار الجماهير الغفيرة إذا صحت من نومها ووجدت غياب ما تقتات به في حاضرها وما يؤمن لها مستقبلها.

ما الذي يتوجب على العالم القيام به في هذا السياق؟

بداية ينبغي الدعوة إلى بناء ممارسات من شأنها الاستعادة والحفاظ على الموارد المهددة للطبيعة، كما يجب إعادة التفكير في نمو الوعي في هذا العالم المحدود، وفي خدمة هذا الاقتصاد الجديد الذي يجب أن يجعل من البيئة رأس مال له.

لا ينبغي لدولة بعينها أو قارة بذاتها أن تعتقد في إمكانية نجاتها من الهول القادم، فالبشرية اليوم أضحت اقرب ما تكون إلى جماعة بشرية تستقل قاربا في المحيط، القارب عتيق، وإمكانية تسرب المياه إليه واردة بقوة، والمؤلم أن الركاب يجدف كل منهم في طريق، ولا يدرون أن الخطر محدق بهم دفعة واحدة.

انه وقت استيقاظ القيادات العالمية قبل أن تنفجر أزمة الجياع حول العالم.