1421872-(1)
1421872-(1)
عمان اليوم

القيم الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية تعزز مشروع الدولة الحديثة

21 يناير 2020
21 يناير 2020

الكفاءة والإخلاص والالتزام أعمدة ثابتة للنهضة المباركة -

أخذت القيم الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية مكانة بارزة في الرؤية العمانية لبناء الدولة الحديثة، وهي المكانة التي أكد عليها السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ دائمًا بالإشارة إلى أن الأمم قبل أن تمثلها المظاهر المادية هي في المقام الأول بعد روحاني وأساس أخلاقي. فالأمة التي تفتقد عمق التقاليد والقيم والأخلاق لن تكون قادرة على النهوض والرقي. ومن هذا المنطلق فإن ما تحقق على أرض عمان طوال عقود من الزمان من منجزات مرئية ما هي إلا انعكاس للقيم التي توارثتها الأجيال وتعززت بالمسار التحديثي للدولة.

لقد كانت قيم الهمم والكفاءة والإخلاص والالتزام وغيرها مسارًا متوارثًا إلى جانب كونها إلهامًا عصريًا دافعًا للإيمان بروح العمل الإنساني الجديد بما يستلزمه من قيم يجب احترامها وتأكيدها في المؤسسية والإدارة العصرية بطابعها النظامي واحترامها للذات والمسؤولية.

ونهضت السلطنة إلى الحاضر المشرق بإعادة إنتاج تقاليدها العريقة وأمجادها التاريخية وإرثها الحضاري بصورة عصرية، وذلك عبر خطط وبرامج في التنمية ابتداء من نشر التعليم وتعزيز الخدمات الصحية إلى تشييد البنيات الأساسية، ومن ثم ترسيخ المشاركة الشعبية، إلى بناء دولة المؤسسات، وتمت هذه الإنجازات بالإرادة والعمل الجاد وإيمان المواطن بدوره والقيام به بكل محبة، بعد أن وثق في قيادته وترجم توجيهاتها السديدة إلى عمل ماثل للعيان. وقد عبر هذا العهد الوطني عن أرقى مفاهيم الهمة العالية والرقي بالإخلاص والشعور بالمسؤولية الوطنية، فكان أن نسج تلك الصورة المشرقة للحاضر والمستقبل.

ولم يكن الطريق سهلا ميسورا، فقد كانت هناك عقبات، إلا أن وضوح الهدف والإيمان به مكّن السلطنة قيادةً وشعبًا من تجاوز العقبات بل وتحويلها إلى إيجابيات في صالح دفع المشروع التحديثي إلى الأمام، حيث تمت الاستفادة من تراكم الخبرات والتجارب وتحويلها إلى إرث يعزز المبادئ التي سارت عليها النهضة منذ التأسيسات المبكرة. أي أن النهضة عملت على الاستفادة من الموروث وقيمة الإيمان ومُثل الدين الإسلامي في صياغة الفجر العصري الجديد وفي الوقت نفسه كان ذلك يشكل تراثا متعاظما عبر سنوات العمل الجاد، بحيث يمكن القول إن لدينا قيما لا حصر لها في الميراث العصري لنهضة عمان الحديثة، من حيث المعاني والقيم والأخلاقيات المتعلقة بالعمل والأداء والوظيفة وغيرها.

الوئام مع العالم

وبناء على وضوح الرؤية في السياسة الداخلية وما يغذيها من القيم، نسجت السلطنة وئاما مع العالم عكسته سياستها الخارجية، حيث تنظر عُمان إلى علاقاتها مع العالم وفق منظور يقوم على التعايش استنادا إلى البعد التنموي والإيمان بأن العالم في طريقه إلى التكامل عبر التعاون الاقتصادي، وفي الوقت نفسه ظلت السياسة العمانية تؤكد على مبدأ عدم التدخل في شؤون الآخرين، وعدم السماح للآخرين بالتدخل في الشأن العماني. وكان العمق المتخفي وراء ذلك هو التقاليد التي وقفت وراء الالتزام والوفاء بالعهد تجاه الذات في المقام الأول، فالسياسة الواضحة والجلية هي تجل مباشر لصفاء الخلق وهمة الذات الكبيرة التي لا تعرف التذبذب ومن ذلك تقوم المظاهر التي نراها في شكل هذه السياسة ومسارها وحفاظها على طريق مستدام يشار إليه بالبنان.

إن أي مراقب لتجربة الدولة الحديثة في عُمان لن يشعر بحجم الفرق، فحسب، على مستوى البنيات الأساسية والاقتصاد والنقلة الكبيرة في مجالات التنمية البشرية والمستدامة، بل سيوقن تماما بأن هناك تغييرا نوعيا كبيرا حدث في مجمل مشهد الحياة في عمان استنادا إلى ما كان عليه الوضع قبل الثالث والعشرين من يوليو 1970، كذلك يستطيع المراقب أن يحدد بصفاء أن المشروع العماني قام على أسس واضحة منذ البداية، لم تتغير أهدافها ولا أبعادها، وكانت قادرة على التقاطع مع كافة الظروف والمستجدات التي يفرضها الحراك الإنساني والكوني على مستوى العالم، لاسيما في عصر يتسم بالتسارع.

وتعاملت سياسة السلطنة مع التسارع الكوني وفق قاعدة مركزية وهي أن التحديث والعصرنة لا تعني الانجراف إلى ما يفرضه العصر، إنما هي توليفة «ذكية» بين الأصيل والمعاصر، بحيث يأخذ الإنسان من القيم والتقاليد المتوارثة ما هو مفيد ويترك غير المفيد، وفي الوقت نفسه يأخذ من مقتضيات العصر ما يدفع التنمية والنماء والتطور. كذلك أكسبت السياسة العمانية «التسارع» صفة التدرج في الأخذ به وفقا لشروط الذات وعدم الاستعجال في اتخاذ القرار، إذ حضرت دائمًا الدراسة المحيطة أولا بكافة جوانب الموضوع ومن ثم الانطلاق إلى التنفيذ.

وبهذا المنهج لم تتغير القيم العمانية الأصيلة ولم تقع عمان في أسر التحديث الصرف الذي يجعل الكائن منبتا عن جذوره وميراثه الحضاري. ما أسس لـ «فقه عماني» خاص في التعامل مع ماهية السياسة وأدوارها، وانعكس ذلك على سبل وتصاريف الحياة المختلفة ومجالات الإنتاج والمؤسسية في العمل وغيرها من الأمور. وهو فقه يقوم على تلك الكلمات نفسها المستعادة من الأمس بشكل عصري؛ همة عالية وإيمان راسخ ومسؤولية وإنسانية.

وتشير مراجعة ما تحقق خلال عقود النهضة المباركة وعلى امتداد السلطنة، إلى القدرة الجلية على حشد الطاقات الخلاقة للمواطن العماني بالإضافة إلى تجاوب وتفاعل المواطن من طرف ثان مع دعوة قيادته لتعزيز ثقافة العمل بوصفها الطريق إلى بناء الحياة الكريمة.

وفي هذا الإطار جاء تأكيد السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ على الثقة في أبناء وبنات عمان حين قال: «المستقبل المشرق المحقق للتقدم والنماء والسعادة والرخاء لا يبنى الا بالهمم العالية، والعزائم الماضية والصبر والاخلاص والمثابرة، ونحن واثقون بأن أبناء وبنات عمان يتمتعون بقسط كبير من تلك الصفات السامية، يشهد بهذا ماضيهم، وحاضرهم، ونحن لا ريب لدينا ثقة بأنهم قادرون على بناء مستقبل سعيد بإذن الله».

تعزيز قدرات الذات

وتربط هذه الإشارة الواضحة بين صفات وهمة الإنسان العماني وبين قدرته على أن يكون فاعلا في المستوى العملي، غير أن الثقة السامية بالإنسان مرتبطة أيضًا بتطوير القدرات والمهارات والمسؤولية المتعاظمة التي يشعر بها الفرد، من حيث الواجب والحق، والإيمان السليم بأن بناء هذا الوطن عمل جمعي، وأن مفهوم المشاركة يعني الكل. وأن كل مواطن يمكن أن يساهم في عملية التنمية والتطوير بغض النظر عن موقعه ومركزه استنادا على القدرات المتاحة له. وهو المفهوم الذي تم ترسيخه عمليًا عبر سنوات ممتدة من مشروع الدولة الحديثة، إذ تكرر التذكير بضرورة تعلم المهارات العصرية وتعزيز قدرات الذات على الأداء والكفاءة في الإنتاج والمساهمة في البناء، حيث تقوم سياسة السلطنة في إطار تعزيز مفاهيم العمل على تشجيع المبادرات الفردية، والابتكار في تطوير المشروعات، بما يمنح الفرد القدرة على التعبير عن ذاته وإبراز قدراته.

إن أهم سمة استطاعت بها النهضة العمانية أن تسلك طريقا تصاعديا ونوعيا مع مرور الزمن، هي أنها قامت على رؤية واضحة ومحددة، وبالتالي فإن النظام والانتظام هو طابعها والثبات هو جوهرها، وتلك الأخلاق الثابتة منحت التجربة خصوصيتها العالية في كافة المستويات، وبدرجة واضحة.

وفي العقد الخامس من النهضة المباركة وعندما يكون الحديث عن المستقبل، فإن القيم هي الضمان الحقيقي لتواصل النمو والتقدم. وفي هذا الخصوص يسعى كثير من الآليات التربوية العمانية الأهلية والرسمية لأن يحافظ العماني على شيمه وتاريخه ونضارة ماضيه وحاضره، وتعظيم طاقة العطاء والإيمان بأن ما يتحقق من مكتسبات اليوم هو ملك لكل الأجيال في الغد.