أفكار وآراء

بناء ركيزة الاستقرار والازدهار

20 يناير 2020
20 يناير 2020

د. عبدالحميد الموافي -

في الوقت الذي دشن فيه جلالة السلطان قابوس أكبر عملية تعليم في تاريخ السلطنة، سواء عبر إنشاء المدارس، أو عبر برامج التعليم الليلي، مع إتاحة الفرصة للفتاة والمرأة العمانية للتعليم، فإن جلالته عمل بشكل مدروس من أجل استعادة اكبر عدد ممكن من العمانيين الذين كانوا يعملون في الخارج في عام 1970 وكان عددهم نحو خمسين ألفًا، وعدد كبير منهم له خبرات وعلى درجة من التعليم والثقافة، وذلك للاستفادة من خبراتهم في إدارة دولاب العمل في الأجهزة والمؤسسات التي بدأت تتشكل في إطار مسيرة النهضة العمانية في مختلف المجالات.

عندما تولى الراحل السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- مقاليد الحكم في الثالث والعشرين من يوليو عام 1970، وبقرار انطوى ليس فقط على إدراك عميق للظروف شديدة الصعوبة التي كانت تمر بها عمان في ذلك الوقت، على كل المستويات، ولكن أيضا لحجم التحدي والجهد والتضحيات التي لا مناص من مواجهتها وتحمل مسؤولية ذلك أيضا، فان حب جلالته -طيب الله ثراه- لعمان الوطن والأرض والمواطنين، وتوقه العميق للنهوض بها، لتأخذ مكانتها اللائقة بين دول وشعوب المنطقة والعالم، وثقته العميقة في قدرة المواطن العماني وإمكانية الاعتماد عليه -برغم كل ظروف تلك المرحلة- كانت حوافز ودوافع قوية لجلالته للمضي قدمًا من أجل العمل على تحقيق ما تمناه جلالته، وما عبر عنه بوضوح في ذلك الوقت المبكر وهو بناء عمان دولة عصرية، قادرة على توفير حياة كريمة لأبنائها، وتحقيق نهضة وتقدم لا يقل عما تعيشه الدول المزدهرة الأخرى في المنطقة والعالم. وبرغم كبر هذا الأمل والهدف من جانب، ومحدودية الموارد، وتعدد المشكلات والتحديات، داخليًا وإقليميًا ودوليًا، وتقاطع صراع المصالح في منطقة الخليج وامتدادها إلى الساحة العمانية بشكل مباشر من جانب آخر، إلا أن الإرادة القوية والثقة العميقة في القدرة على تحقيق الهدف الطموح، بمشاركة أبناء الوطن جميعهم، كلما كان ذلك ممكنًا، كانت بمثابة ركائز أساسية لجهود التنمية الوطنية، في إطار مسيرة النهضة العمانية الحديثة. والمؤكد أن السمات القيادية التي تمتع بها السلطان قابوس -طيب الله ثراه- وإدراكه وإحاطته، بحكم دراسته العسكرية واستيعابه لخبرة التاريخ العماني ولطبيعة الظروف المحيطة بالوطن، جعلته يقدم على العمل بقوة وتخطيط ووعي في عدة محاور في الوقت ذاته؛ لأنه ببساطة كان يتحتم عليه مسابقة الزمن واحتواء المخاطر المحيطة بعمان ومستقبلها من ناحية، والسعي إلى القيام بخطوات ملموسة يشعر معها المواطن، وبشكل متزايد، بأن جلالته يعمل بقوة لتحقيق حياة أفضل للمواطن العماني وإرساء أسس الدولة العمانية الحديثة من ناحية ثانية، وذلك برغم كل تلك التحديات التي كانت تجري على الأرض، والتي كانت تشارك فيها أطراف عربية وإقليمية ودولية عديدة بدوافع إيديولوجية ومصلحية مباشرة وغير مباشرة.

وأمام هذا الوضع شديد التعقيد أيقن جلالته انه لا مناص من العمل في ثلاثة مسارات مختلفة في آن واحد، وهي البدء فورًا في إعداد الكوادر الوطنية العمانية، من خلال التعليم والتدريب ،مع الاستعانة بكل من يستطيع المشاركة من أبناء الوطن وتيسير ذلك بقدر الإمكان، والعمل على تحقيق الأمن والاستقرار على الأرض، وعلى نحو يشعر معه المواطن بحياة جديدة وبأمل أكبر في حياة افضل اليوم وغدا، وقبل ذلك وبعده العمل على تحقيق وتمتين الوحدة الوطنية لعمان أرضا وشعبا، وبما يحافظ على عمان وشعبها ويجعل منها دولة قوية متماسكة وقادرة على حماية مصالحها تحت كل الظروف. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: انه إذا كان التعليم والتدريب يحتاج إلى فترة من الوقت ليعطي ثماره، وذلك بحكم الطبيعة التراكمية للعملية التعليمية ولبرامج التدريب، حتى في حالة توفر برامجها وعناصرها الضرورية، وإذا كان الأمن، بمفهومه الشامل يحتاج بالضرورة إلى بيئة مناسبة بمقوماتها المختلفة، فإن العمل على تحقيق وتمتين الوحدة الوطنية العمانية، شكل ويشكل في الواقع، الركيزة الأساسية والضرورية والتي لا غنى عنها، من أجل تحقيق الاستقرار والتنمية والازدهار، فإذا كان لا تنمية بدون امن، كما قال جلالته -طيب الله ثراه- فإنه لا أمن بدون وحدة وطنية قوية وراسخة. وليس من المبالغة على أي نحو القول بأن بناء وتعميق وتمتين الوحدة الوطنية العمانية، هي من أكبر، إن لم تكن أعظم الإنجازات التي حققها السلطان قابوس -طيب الله ثراه- برؤية استراتيجية عميقة ومتكاملة وبخطوات تكتيكية متتابعة، وتلتقي في تحقيق الهدف الاستراتيجي الأسمى، وهو جعل عمان وطنًا متماسكًا وقويًا ومتضامنًا بأبنائه ومؤسساته وعلى قلب رجل واحد، ومع أن ذلك لم يكن سهلا، ولا يسيرًا، خاصة بعد قرن تقريبًا من الخلافات والمنازعات الداخلية، وبعد أكثر من عقد من مواجهات مسلحة، مغلفة بتوجهات إيديولوجية يسارية وفي أكثر من اتجاه، إلا أن جلالته كان مدركًا ومصرًا على بناء وتحقيق الوحدة الوطنية العمانية، ولذا لم يكن مصادفة أن يعلن السلطان قابوس في أول حديث له عبر الإذاعة العمانية في التاسع من أغسطس عام 1970، أي بعد نحو أسبوعين فقط من توليه الحكم، عن تسمية الدولة رسميا باسم «سلطنة عمان»، حيث قال في حديثه «فمن الآن وصاعدا ستعرف بلادنا العزيزة باسم (سلطنة عمان) إن اعتقادنا بأن هذا التغيير بداية لعهد جديد متنور ورمز لعزمنا أن يكون شعبنا موحدًا في مسيرتنا نحو التقدم فلا فرق بعد الآن بين الساحل والداخل وبينهما وبين المقاطعة الجنوبية فالكل شعب واحد مستقبلا ومصيرا». وتجدر الإشارة إلى أن ذلك حقق تطابقًا بين عمان كوحدة سياسية وبين عمان كحيز جغرافي، وهو أمر بالغ الأهمية، لأنه تم البناء عليه في مختلف خطوات بناء وتعميق الوحدة الوطنية، وكذلك على صعيد التعامل السياسي والقانوني مع الدول والمنظمات الدولية الأخرى. وبينما احتاج السلطان قابوس إلى جهود وعمل متواصل من أجل تحقيق الوحدة الوطنية والتماسك الوطني وفرض سيطرة الدولة على كل إقليمها من أقصى نقطة في مسندم حتى أبعد نقطة في ظفار، وهو ما تحقق بالانتصار في 11 ديسمبر 1975، فإن السلطان قابوس بوعيه الاستراتيجي عزز التماسك الجماهيري بين أبناء الشعب العماني، كما حرص على تحديد الحدود العمانية، وترسيمها وفق اتفاقيات دولية مع كل جيرانها، برا وبحرا، وعن طريق التفاوض والتوافق والاحترام المتبادل، ومن ثم إغلاق أية فرصة للخلاف حول الحدود مع أي طرف، خاصة بعد أن تحولت الحدود العمانية إلى معابر خير مع جيرانها. وكان هذا الإنجاز هو الأول تاريخيا الذي تحددت فيه الحدود العمانية مع كل جيرانها، وكانت السلطنة «مرنة وكريمة أيضا في هذا المجال»؛ لأنها كانت تخطط من أجل السلام والاستقرار ولإغلاق أية فرصة للخلافات حول الأرض على أي نحو. وبينما تناولنا بالتفصيل الوسائل التي لجأ اليها السلطان قابوس -طيب الله ثراه- لتحقيق الوحدة الوطنية وتمتينها، وذلك في كتابنا «عمان بناء الدولة الحديثة» الصادر بالقاهرة عام 2002، فإنه يمكن القول إن هذا الإنجاز الاستراتيجي، الذي تم البناء قوقه على مدى العقود الماضية، وفي كل المجالات، لا يزال يعطي ثماره، كركيزة وقاعدة ضرورية ولا غنى عنها لتحقيق الأمن والاستقرار والازدهار، بل إن الوحدة الوطنية العمانية القوية هي التي حمت ولا تزال تحمي السلطنة في مواجهة أية تطورات في المنطقة المشتعلة من حولها، ولذلك فإنه من المهم والضروري الحفاظ على الوحدة الوطنية بكل السبل الممكنة، وعلى مستوى الأرض والشعب، وهو ما تضمنته كلمة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم -حفظه الله ورعاه- بشكل أو بآخر، في أول كلمة له عقب توليه مقاليد الحكم، وتأكيد جلالته السير على نهج المغفور له السلطان قابوس -طيب الله ثراه-

ثانيا: إنه في الوقت الذي دشن فيه جلالة السلطان قابوس أكبر عملية تعليم في تاريخ السلطنة، سواء عبر إنشاء المدارس، أو عبر برامج التعليم الليلي، مع إتاحة الفرصة للفتاة والمرأة العمانية للتعليم، فإن جلالته عمل بشكل مدروس من اجل استعادة اكبر عدد ممكن من العمانيين الذين كانوا يعملون في الخارج في عام 1970 وكان عددهم نحو خمسين ألفا، وعدد كبير منهم له خبرات وعلى درجة من التعليم والثقافة، وذلك للاستفادة من خبراتهم في إدارة دولاب العمل في الأجهزة والمؤسسات التي بدأت تتشكل في إطار مسيرة النهضة العمانية في مختلف المجالات، ومما له دلالة عميقة أن السلطان قابوس -طيب الله ثراه- دعا العمانيين في الخارج إلى العودة للوطن واعلن مقولته الشهيرة «عفا الله عما سلف « وذلك في خطابه في التاسع من أغسطس 1970، كما أكد جلالته أيضا على المساواة بين المواطنين العمانيين، وعلى أن عمان «أم تحب كل أبنائها» وأنه لا تفاضل بين المواطنين إلا بقدر عطائهم لعمان، وقد تأكدت مبادئ المساواة بين العمانيين أيضا من خلال النظام الأساسي للدولة، الذي اكد على مبدأ المواطنة وحكم القانون، في إطار دولة المؤسسات، وعلى واجب حماية الوحدة الوطنية أيضا.

وبينما انطلقت عمليات التعليم، على مدى العقود الماضية، وهو ما اسفر الآن عن أجيال متتابعة من الكوادر العمانية المؤهلة والمدربة على أرفع المستويات وفي مختلف المجالات التي تحتاجها مسيرة التنمية العمانية، وهي تستعد للدخول في مرحلة الرؤية المستقبلة (عمان 2040) فإنه يمكن القول إن الراحل السلطان قابوس حرص على توفير البيئة المناسبة لتحقيق الأمن بمفهومه الشامل، أي بجوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمالية وغيرها، وتوفير مناخ حقيقي وملموس من الأمن والأمان على امتداد ربوع الوطن، وهو ما ينعم به المواطن العماني والمقيم برغم كل ما يجري في المنطقة من اضطرابات. والمؤكد أن ذلك لم يتحقق بسهولة أو فجأة، ولكنه تحقق عبر السياسات التي وضعها و اتبعها جلالته في مختلف المجالات، داخليًا عبر دعم قوات السلطان المسلحة وأجهزة الأمن المختلفة، وعبر تعميق مشاركة المواطنين في صياغة وتوجيه وتنفيذ برامج التنمية الوطنية والمشاركة في صنع القرار، وإتاحة الفرصة للمواطن العماني، رجلا وامرأة، ليشق طريقه إلى أعلى المراتب والمناصب حسب قدراته ومهاراته وخبراته، وخارجيًا عبر إرساء العلاقات مع الدول الأخرى على أسس ومبادئ محددة معلنة وواضحة ومتفقة مع مبادئ القانون والعلاقات الدولية، والإيمان بالسلام والعمل من اجل تحقيقه، والحرص على حل الخلافات بالطرق السلمية بين الأشقاء والأصدقاء، وهو ما أفسح المجال أمام تحقيق مزيد من التنمية والتقدم والازدهار على مدى العقود الماضية. ومع تولي جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم -حفظه الله ورعاه- فإن ما تضمنته كلمته السامية من جوانب وخطوط بالغة الأهمية، فيما يتصل بآفاق المرحلة القادمة، خاصة بالحفاظ على المنجزات التي تحققت عبر مسيرة النهضة العمانية الحديثة، والبناء عليها، يتطلب بالتأكيد المزيد من الجهد، على صعيد التعاون وحشد الطاقات من جانب كل فئات المجتمع لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، والحفاظ على عمان دولة قوية قادرة على حماية مصالحها الوطنية والقيام بدورها الإيجابي خليجيًا وعربيًا ودوليًا باعتبارها دولة سلام.