أفكار وآراء

قطوف من مسيرة النهضة.. في وداع قائد عظيم

20 يناير 2020
20 يناير 2020

فتحي مصطفى -

ما بين يومي 23 يوليو 1970 و10 يناير 2020، رحلة كفاح طويلة سطرها التاريخ لقائد عربي هو صاحب أطول فترة حكم بين الحكام العرب، رفع فيها شعاراً عمل من أجله على مدى 50 عاما، وهو: «تنمية البشر قبل الحجر».

عرف المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد معنى الإنسان باعتباره ثروة بشرية وطاقة كبيرة يجب الاستفادة منها وتوجيهها إلى كل ما يفيد سلطنة عمان والأمة العربية، اتصف بالحياد والوفاء والحكمة ومحبته لشعبه، قاد سفينة التنمية والتنوير باقتدار ينم عن خبرة وفهم ودراسة واعية، ولم لا؟ فقد تلقى تدريبات في المملكة المتحدة على أسلوب الإدارة في الحكومات المحلية هناك، وأنهى دورات تخصصية في شؤون الإدارة وتنظيم الدولة، أثناء مراحله الدراسية وقبل توليه مقاليد الحكم.

ففي عام 1960 التحق بأكاديمية «ساندهيرست العسكرية الملكية»، التي أمضى فيها عامين هي فترة التدريب المقررة، درس فيها العلوم العسكرية وتخرج برتبة ملازم ثان، ثم انضم إلى الكتائب العاملة في ألمانيا الاتحادية آنذاك ولمدة ستة أشهر مارس فيها العمل العسكري.

درس الدين الإسلامي بتعمق، ولم يترك أي شيء يتعلق بتاريخ وحضارة السلطنة على مر العصور دولة وشعبا، إلا ودرسه، وهو ما كان له أثر كبير على مداركه ووعيه بمسؤولياته، وكان قارئا جيدا للكثير من الأفكار الفلسفية والسياسية للعديد من المفكرين الذين أثروا العالم بفكرهم.

تولى مقاليد الحكم يوم 23 يوليو 1970، وأخذ على نفسه عهداً حرص على تنفيذه طوال هذه السنوات الخمسين، بأن يضع السلطنة في مصاف الدول التي تحترم شعبه وتقدره وتسعى دائماً إلى رفعته، فاهتم بتنفيذ مشروعات تنموية كثيرة، سعى من خلالها إلى تحسين المستوى المعيشي للمواطن العماني، فركز على بناء المستشفيات وإنشاء المدارس وغيرها من المرافق الضرورية لتنفيذ مهمته العظيمة وغايته السامية.

اهتم بدفع السلطنة إلى حالة متميزة من المعاصرة، مع الحرص الشديد على بقاء الأصالة العمانية حتى لا تفقد عمان هويتها، عبر نقلة نوعية من أسلوب الحكم التقليدي القبلي، إلى الحكم الديمقراطي النظامي، بأن أنشأ المجلس الاستشاري للدولة، ثم استبدله بعد عدة سنوات بمجلس الشورى الذي يمثل أعضاؤه جميع الأقاليم، وهو مجلس استشاري تحت إشراف هيئة تنفيذية عليا هي «مجلس عمان».

حرص بسياسته الحكيمة على ترسيخ مبدأ حسن الجوار في علاقاته السياسية مع أشقائه وجيرانه، مع عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، وكان يهدف من وراء ذلك إلى تدعيم علاقاتهم مع السلطنة، عبر إقامة علاقات ودية، ليس فقط على مستوى دول الجوار، ولكن على مستوى العالم، فضلا عن وقوفه موقف الحياد الإيجابي مع قضايا الدول العربية والإسلامية، ومناصرتها في جميع المجالات.

لعب السلطان قابوس أدواراً كثيرة وجهوداً حثيثة وبناءة لإنهاء حروب ومواجهات عديدة قامت في عدد من دول المنطقة يأتي في مقدمتها دولة اليمن، وسعى إلى التوصل إلى حلول سلمية تفتح المجال أمام توافقات أكبر بين الشعوب لبناء الحاضر والمستقبل الذي تنشده.

وقد دعت السلطنة في إطار سياسية القائد الراحل، جميع الدول خلال كلمة السلطنة أمام الدورة الرابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، للتعاون البناء واحترام خطوط الفصل الملاحية وفقا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، محاولة منها لتخفيف التوتر في منطقة الخليج العربي، وتأمين حرية الملاحة البحرية عبر الممرات المائية، وبصورة خاصة مضيق هرمز الاستراتيجي، الذي تقع ممراته في نطاق المياه الإقليمية لسلطنة عمان.

حصل جلالته رحمه الله، على جوائز وتكريمات كثيرة من بينها 34 وساماً وقلادة وميدالية، مثل جائزة السلام من قبل 33 جامعة ومركز أبحاث ومنظمات أمريكية.

بادر المغفور له «بإذن الله» بتنفيذ مشروع موسوعة «السلطان قابوس للأسماء العربية» نظراً لحرصه على إثراء الحياة الثقافية بإضافة مهمة في المكتبة العربية، حيث بدأت السلطنة في تنفيذ هذا المشروع في أكتوبر عام 1985، وتعد هذه الموسوعة نتاج العديد من الأبحاث المكثفة التي قام بها عدد كبير وصل إلى 150 باحثا من بلدان عربية مختلفة، وفي مجالات علمية عديدة من بينها باحثون في التحليلات اللغوية والتاريخية والاجتماعية والأدبية والسياسية، انصبت على ما يقرب من 7 ملايين اسم عربي عبر استخدام وسائل علمية وإحصائية حديثة، كما تم جمع المادة العلمية من اثنتى عشرة دولة عربية للموسوعة، التي توجد نسخة منها في المكتبة العامة للمنظمة العالمية «اليونسكو» تم إهداؤها خلال احتفال أقيم في باريس عام 1995.

كما بادر السلطان قابوس «غفر الله له» وسط موافقة وترحيب من منظمة اليونسكو بإعطاء جائزة «سميت باسمه» في مجال حماية البيئة عام 1989، تمنح لصون البيئة كل عامين من خلال برنامج «الإنسان والمحيط الحيوي» في اليونسكو، وتعطى اعترافاً وتقديراً لمساهمات الأفراد المتميزين، وكذلك المؤسسات والمنظمات والمجموعات في مجال حماية البيئة، وفقا لسياسة اليونسكو وبرامجها في هذا المجال. وتم اختيار السلطنة من بين الدول العشر الأكثر عناية واهتماماً بالبيئة على الصعيد الدولي نظرا لجهوده المتميزة والبارزة.

اعتبر المرأة شريكاً أساسيا في نهضته المباركة التي عمل عليها على مدى ما يقارب الـ50 عاما، حيث وجه بضرورة وجودها في جميع نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والتنموية والحضارية والاجتماعية، ودعاها إلى الاستفادة من جُل الفرص التي تجدها أمامها لتحقق طموحاتها وتترجمها إلى نجاحات تفيدها وتفيد مجتمعها. أصبحت السلطنة في عهد السلطان قابوس «غفر الله له» من أوائل الدول الخليجية التي تعطي المرأة الحق في ترشيح نفسها في الانتخابات، وظهر ذلك في انتخابات مجلس الشورى في منتصف التسعينيات، وكذلك في انتخابات أكتوبر الماضي. فضلا عن إعطائها فرصا أكبر لتولي مناصب أكبر وأرفع.

أنشئ المركز الوطني للتشغيل وتم إصدار نظامه بموجب مرسوم سلطاني سام تحت رقم 2019 صدر في فبراير العام الماضي، ويعد نقلة مهمة ونوعية على صعيد العمل، من أجل استيعاب الشباب الباحثين عن عمل، خصوصاً أنه يقع تحت تبعية مجلس الوزراء، وله شخصية اعتبارية ونظام مالي وإداري مستقل.

قدم الدعم للعديد من مشروعات تحفيظ القرآن الكريم في السلطنة وفي عدد من الدول العربية، وأنشأ مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم.

وستبقى إنجازات المغفور له «بإذن الله» السلطان قابوس بن سعيد، أجلى وأوضح من أي كلمات تحاول وصفها، لأنها أعمال تمت على أرض الواقع، فهي زروع طيبة آتت ثمارا كثيرة فاز بها شعب متحضر ساند قائده طوال فترة حكمه، فجعله قائده ملء الأسماع والأبصار أينما كان، بفضل التقدير والاحترام الكبيرين اللذين حظي بهما عبر حدود الدول والقارات في حياته، وحتى بعد وفاته.. فالجسد يفنى وتبقى الأعمال والسير حتى قيام الساعة..

رحم الله فقيد الأمة العربية وأسكنه فسيح جناته... وأعان جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم على استكمال مسيرة النجاح والنهضة العمانية.