1420394
1420394
الاقتصادية

الجولات السامية نهج عماني متفرد للديمقراطية

18 يناير 2020
18 يناير 2020

تطوير لموروث «السبلة» في مناقشة متطلبات المواطنين -

عمان: ميزت الجولات السنوية السامية للمغفور له ـ بإذن الله ـ السلطان قابوس بن سعيد في ربوع السلطنة مشروع الدولة العمانية الحديثة بطرحها لمفهوم الديمقراطية من خلال الحوار المباشر مع المواطنين والتعرف على متطلباتهم وتطلعاتهم الحياتية، فضلًا عن تجسيدها للعلاقة المتينة والثقة العميقة بين القائد والشعب.

وأخذت هذه الجولات أهميتها انطلاقًا من الواقع وعبر النقاش الإيجابي للوصول إلى أفضل الحلول تماشيًا مع المصلحة العليا للوطن. ولم يقتصر الأمر على النقاش فقد كان الجانب التنفيذي حاضرًا ممثلًا في الوزراء الذين رافقوا السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ في جولاته لتتحول التوجيهات الصادرة عن هذه الجولات إلى برامج عمل مباشرة واجبة التنفيذ.

لقد قطع السلطان الراحل آلاف الكيلومترات في تنقله الدائم بين ربوع السلطنة للقاء المواطنين والاستماع إليهم، وهو ما قابله المواطنون بمشاعر صادقة من الفرح والتقدير، فتحولت الجولات السامية فضلًا عن طابعها الديمقراطي إلى تظاهرات للحب والعرفان وإعلان الولاء والتأييد.

مراكز مفتوحة

ومثلت السيوح العمانية مراكز مفتوحة للقاءات السلطان مع الشيوخ والوجهاء والأعيان وجموع غفيرة من المواطنين الذين تجمعوا للمشاركة في هذه اللقاءات بعفوية ومصارحة يتبادل من خلالها الجميع الحوار لأجل الوطن وما يتطلعون إليه من مستقبل زاهر.

كما جسدت هذه اللقاءات المباشرة بين السلطان والمواطنين الكثير من المعاني الصادقة والمشاعر الجياشة التي تلمسها المواطن عبر قدرته على الحديث مباشرة مع القائد وعرض ما يراه دون عناء أو حواجز حيث يتم طرح الأفكار والخواطر التي تنطلق بصفاء لترسم صورة عمان الجديدة القائمة على الوفاق الوطني والحوار المستمر التلقائي، وبما يعبر عن نبض واهتمامات المواطنين في قضاياهم وتطلعاتهم.

ولقد كانت هذه الجولات السامية نسيجًا عمانيًا فريدًا لصورة لا نجدها على النحو الذي تمت به في بلد آخر. كما كانت تجسيدًا عظيمًا لتلمس المتطلبات وتحديد الأولويات الوطنية في كافة المجالات بما يعزز الرؤية والمشاركة والفاعلية في مسيرة التنمية الكبرى التي شهدتها البلاد.

وتعتبر الجولات والمخيمات السلطانية بمثابة حكومة متحركة لا تعمل فقط في مبانيها أو مكاتبها، ولكنها تغادرها بالتحرك في ربوع السلطنة للوصول إلى القضايا في أماكنها.

وبالإضافة إلى قيمتها السياسية والعملية في التعرف على متطلبات المواطنين مباشرة، كانت لهذه الجولات قيمة شخصية من جانب السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ إذ قال: «في هذا المجال أعترف بأني أتمتع كثيرا بهذه الرحلات الداخلية التي أقوم فيها بطول البلاد وعرضها. في هذه الرحلات ألتقي بالناس مواجهة وأستمع إلى مطالبهم وهم يسمعون وجهة نظري. إنني أشعر بالألفة هنا وهم كذلك».

كما أكد ـ طيب الله ثراه ـ أن هذه الجولات تشعره شخصيا بالمتعة النفسية لما يتحقق من ورائها، وقال: «إني مرتاح وأجد متعة نفسية بهذه الجولات السنوية اجتمع فيها بأهلي واختلط بأنفس كثيرة أسمع منها وتسمع مني ونعطي جميعا الثمار المطلوبة. إني أتمتع وأنا أرى أهلي يستمعون إلى توجيهات ولي الأمر ويعملون بها، من هنا تخلق ثقافة الضبط والربط براعيها. هذا التفاعل الذي يخلق بدوره الولاء المتبادل بين الطرفين».

وإذا كانت الجولات السنوية للسلطان ـ على النحو الذي جرت به ـ تمثل صورة عمانية فريدة فإنها تستمد جذورها التراثية من مفهوم «السبلة العمانية» التي تشير إلى المكان الذي يجتمع فيه أبناء القرية أو الحي لمناقشة أمورهم الحياتية على اختلافها وتنوعها. كما أنها تنتمي في الوقت نفسها إلى جذورها من التقاليد الإسلامية التي كانت رافدًا من روافد النهضة العمانية الحديثة وهي توازن بين الأصالة والمعاصرة. وقد عبر السلطان قابوس عن ذلك بقوله: «إن تفقد أحوال الرعية شأن موجود في تاريخ الإسلام ويعد من واجبات القائد، هناك مواطنون قد لا تسمح لهم ظروفهم بأن يطرقوا أبواب معينة فآتي أنا إليهم بشكل مباشر».

لقد كانت الجولات السامية جزءًا من مشروع التفقد الدائم والرعاية التي توليها القيادة لكافة مشروعات الدولة، حيث قام كذلك بجولات تمثلت في الزيارات الميدانية وتفقد المشروعات ومواقع العمل ولقاء العاملين فيها بالإضافة إلى أعداد من المواطنين والشباب دون إعداد مسبق. وانعكست هذه الجولات والمتابعات الميدانية على تحريك عجلة الإنتاج وتقديم الحافز حيث يشعر الجميع بأهمية ما يقومون به من أجل بناء الوطن.

أسلوب غير تقليدي

ومثل حرص السلطان قابوس بن سعيد ـ رحمه الله ـ على الحوار مع المواطنين بأسلوب غير تقليدي صورة من صور الانفتاح الذهني للقائد الذي يؤمن بالحوار ودوره في بناء الدولة الحديثة بما يتماشى مع التقاليد المتوارثة، وينسج تميزه وفرادته في التواصل مع الشعب وترسيخ الأرضية الخصبة للمحبة والثقة فيما تقوم به القيادة من جهود تنموية مباركة. وهو ما أشار إليه السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ بقوله: «إني هنا أعمل لعمان أرضا وشعبا، بل إن كل عملي لها ولشعبها. ولعل اختلاطي الدائم بهذا الشعب وفرّ له قناعته بأن عملي محبب إليه ومحل رضاهم».

وكما استمدت اللقاءات المباشرة بالمواطنين في الجولات السنوية السامية وغيرها جذورها من التقاليد العربية والإسلامية، فقد استندت إلى فكر السلطان قابوس ذاته الذي نظر إلى نفسه كصاحب رسالة لا كصاحب سلطة حيث حذر من الانكفاء على الذات، ورأى أن للحوار دورا في معرفة المشكلات والوصول لعلاقة جيدة مع العالم تمكن من بناء الأفضل دائما، كما أكد على أن تنمية الإنسان وتشكيل رؤيته تتطلب نبذ الانغلاق، وقال ـ رحمه الله ـ : «من ينغلق على نفسه مثل المكتئب الكئيب.. الذي ينغلق على نفسه يعزل نفسه عن المجتمع وعن العالم، ومن يعزل نفسه في هذا الزمن عن بقية العالم يبقى معزولاً وبالتالي يبقى متقهقراً ومتأخراً اقتصادياً ومعرفياً». وقد لفت الانتباه لهذا الأمر في إحدى الجولات السامية سنة 2007 تعبيرًا عن رغبته في أن ينفتح الشباب العماني على العالم والحياة الحديثة لمواكبة المتغير معرفيا وتقنيا.

فكرة جديدة

ومما حملته الجولات السامية من سمات مشرقة احتواؤها في كل سنة على فكرة جديدة أو مشروع معين يهم المجتمع العماني ككل؛ ففي عام 2009 مثلا جرى التوجيه بزراعة مليون شجرة نخيل نظرًا لأهميتها المستقبلية، وفي العام نفسه تم التحذير من حوادث المرور التي باتت تحصد أرواح الشباب، وكذلك الإشارة لدور المرأة وتمكينها في المجتمع وقد تبلورت هذه الأمور في مشروعات عملية على أرض الواقع سواء في شكل ندوات أو برامج عمل وتخطيط تحول لحقائق ملموسة. وفي عام 2013 لفت السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ الانتباه إلى دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والاقتصاد الجديد الذي يمكن أن يقوم على هذا الباب الكبير، وشجع ريادة الأعمال ليحفز على الانخراط في هذا المجال الذي يشكل بديلا للاقتصاد التقليدي وتشبع القطاع الحكومي عبر دعم مشروعات الشباب وأفكارهم وإبداعاتهم وابتكارهم.

إن هذا الثراء الذي اتسمت به الجولات السامية في ربوع الوطن لا يمكن فصله عن الأطر العامة التي شكلت دعائم النهج السياسي للسلطنة منذ انطلاق مسيرة النهضة، ذلك النهج الذي تأسس على أن بناء الوطن وتقدمه لا يتم إلا بسواعد أبناء الوطن، وما يتطلبه ذلك من لحمة وتآلف ومشاركة فاعلة. وهكذا شكَّل الحوار مع الشعب قاعدة صلبة لبناء الديمقراطية العمانية وفق مبدأ خصوصية الذات، وفلسفة النهضة القائمة على التواصل بين القيادة والشعب حيث يفتح الحوار المباشر آفاقا لرؤية أكثر دقة ووضوحًا في معالجاتها لقضايا الواقع.