أفكار وآراء

«جوعُ العالَـم» لناصر إبراهيمي

10 يناير 2020
10 يناير 2020

الطيّب ولد العروسي ــ كاتب جزائري مُقيم في فرنسا -

ليست التغيّرات المناخيّة العالَميّة الناتجة عن التلاعُب بالعوامل الطبيعيّة وحدها المسؤولة عن خراب الزراعات التقليديّة وتزايد الفقر وانتشار الجوع، فثمّة أسباب أخرى يتناولها الخبير الدوليّ ناصر، كما يتناول الحلول المُناسبة للكوارث التي تتهدَّد كوكبنا وهي حلولٌ متنوّعة ومُمكنة التحقيق. أسباب انتشار الجوع في العالَم والحلول المُمكنة لهذه الآفة الاجتماعيّة هي موضوع كِتاب جديد للباحث الجزائري، ناصر، صدر مؤخّراً في فرنسا بعنوان: «الجوع في العالَم» (أو على نحو أكثر دقّةً «جوع العالَم» لأنّ المؤلِّف أراد أن يكون للعنوان الإيقاع اللّفظيّ نفسه لـ«نهاية العالَم؛ فالجوع والنهاية مُتطابقان لفظاً بالفرنسيّة، على الرّغم من اختلافهما كتابةً).

لئن كان اسم المؤلِّف «ناصر» يُثير بعض الاستغراب والتساؤل عن اسمه الكامل فليس في الاسم أيّ غموض، ذلك أنّ المؤلِّف معروف بكُتبه الأخرى، وجميعها بالفرنسيّة، نذكر منها «سرّ السيّدة بيبّينا»، «الذين يمشون على رؤوسهم لا يفكّرون بأقدامهم»، «ذاكرة سمكة»، «حكايات أبناء المُهاجِرين». والمؤلِّف معروف أيضاً بأنشطته في منظّمات دوليّة وإنسانيّة، فهو مستشارٌ لدى «المنظّمة الأمميّة للأغذية والزراعة»، ومنظّمة «برنامج الأُمم المتّحدة للتنمية»، ومنظّمة «الصندوق الدولي للتنمية الزراعيّة»، ولدى «البنك الدولي» وهو لا يعمل كموظَّف رفيع المستوى فقط، بل هو عامل ميدانيّ يتنقّل بين البلدان التي تُصيبها كوارث المجاعات والتصحُّر والفيضانات، ويعيش مع المُزارعين المُحتاجين وفي أحياء الفقراء. ولكُتبه تأثيرٌ فاعلٌ سواء في جمهور قرّائه أم في الأوساط الدوليّة المَعنيّة.

يعيش ناصر إبراهيمي (الاسم الكامل للمؤلِّف) المولود في باريس لأبويين جزائريّين، يعيش منذ أكثر من 25 سنة في روما التي يقول عنها، في حوار معه أجرته الصحفيّة الإيطاليّة سارا فريديغ حول مَشاعره العميقة تجاه هذه المدينة: «هذه المدينة لا تحتاج منكَ أن تستكشفها، فهي تَهِبكَ نفسَها، تستهويكَ، تغويكَ وتأسركَ، واثقةً من أنّها تملّكتكَ. غير أنّ أهل روما لا يستطيعون أن يدركوا أنّه يُمكن للآخرين أن يعيشوا فيها إذا لم يكونوا رومانا مثلهم، فهذه المدينة لا تستوعب أحداً ولا تدمجه فيها. رموز التواصل في روما معقّدة، وهي ليست مدينة لغير أهل روما، فالناس هنا معتادون على النّظر إلى الآخرين بوصفهم سياحاً فقط».

وناصر إبراهيمي ذو حسٍّ أدبيّ مُرهَف وصاحب حسّ فكاهي مُرهَف؛ ولعلّ ما شحذ هذا الحسّ على الرّغم من تكوينه العِلمي وتخصّصه في علوم الاقتصاد والإحصاء، هو عمله الميداني في البلدان ذات الاقتصاد المنهوب والمُصنَّفة دولاً فقيرة أو متخلّفة؛ فمِن مُعايَشة فقراء هذه البلدان سطَّر كُتبه بعفويّة وبنفَسٍ ساخرٍ ساحر، ويروي بحسٍّ مُرهَف أحاسيس الناس وأمنياتهم، أولئك الناس الذين لا تتحدّث عنهم الصحافة.

ولا يَسلم من نقده الساخر المثقّفون العرب المُقيمون في أوروبا، ولا حتّى بعض الكتّاب الأوروبيّين أمثال نيبال وهولبيك. و«روائيّة» ناصر لا تنتقص شيئاً من «علميّته»؛ فالنَّفَس الروائي لكِتاب «جوع العالَم» لا ينال شيئاً من موضوعيّته، بل يجعل عِلميّته أقلّ جفافاً، والأرقامَ أكثر تعبيراً إذ يُكسِبها لغةً إنسانيّة. ولئن كان ناصر روائيّاً فلأنّه أكثر تعبيراً عن جوع الشعوب الفقيرة ومُعاناتهم من مجرّد سرد هذه المعاناة بجداول وأرقام وتحليلٍ جاف.

ليس الجوع موضوعَ الكِتاب، هو الجوع نفسه الذي يتحدّث به السياسيّون وتتناقله وسائل الإعلام والتقارير الدوليّة، وإنّما هو الجوع الحقيقي والواقعي الذي يعيشه مليارات البشر.

كما أنّ الجوع في العالَم ليس واحداً على نحو ما تُصوّره وتُفبرك أخبارَه وسائلُ الإعلام وتتناقلها، ويردّدها السياسيّون في خطاباتهم الانتخابيّة؛ فالجوع درجات ومستويات تتراوح بين الجوع السافر حيث يقف الجياع على حافة الموت، والجوع المُرافق للمُصنَّفين «في الحدّ الأدنى» أو «على عتبة الفقر»، والجوع المُقنَّع أو غير المُعلَن الذي تعاني منه فئات واسعة من سكّان الأرض، وفي دول العالَم كافّة، الغنيّة منها والفقيرة على السواء. ففي الولايات المتّحدة وكندا وأوروبا شرائح اجتماعيّة بأكملها تعاني من الجوع في فترات معيّنة عبَّر عنها أصحاب السترات الصفراء في فرنسا بقولهم: « أجورنا لا تكفي لسدّ حاجات عَيشنا فنحن نعيش الثلث الأخير من الشهر في حالة من العوز والحرمان».

هذا الجوع لا يدخل في حساب الإحصاءات الرسميّة التي تعلنها الجهات والمنظّمات العالَميّة التي تُعنى بقضايا الجوع في العالَم. ويُلاحظ المؤلِّف أنّ كلّ المُعطيات تؤكِّد على «أنّ 1 على 9 فقط من سكّان المعمورة، يستطيع أن يأكل حينما يجوع، وإنْ أكلَ فهو لا يأكل ما يساعده على العيش الصحّي، فالجوع والأكل السيّئ ظاهرتان خطيرتان في العالَم. إذ إنّ « الأكل السيّئ يحتلّ مَرتبة أعلى من تلك التي يحتلّها «مرض الأيدز، والسلّ، والأمراض المُعدية الأخرى». ويذكر المؤلِّف، على سبيل المثال، أنّ أكثر من 3 مليارات بشري يعيشون بدولارَين في اليوم فقط، ما يعني أنّ هذا العيش يهتك كرامتهم ويهدر إنسانيّتهم، ويمنع عليهم كلّ حياة شريفة، وأنّ « 99 في المائة من سكّان الدانمارك لديهم حسابات في البنك، بينما 95 في المائة من سكّان الكونغو ليس لديهم أيّ حساب بنكي».

يضمّ الكتابُ شهاداتٍ ميدانيّة حيّة جَمعها المؤلِّف من أوساط الفئات الشعبيّة المُختلفة في البلدان المُختلفة التي نفّذ فيها مهمّات ميدانيّة خلال بعثاته وتنقّلاته؛ بحيث إنّ قارئ الكِتاب يخرج بخلاصة مَفادها أنّ الجوع ليس قدراً مقدّراً على البشريّة لا خلاص لها منه، بل على العكس من ذلك، ثمّة حلول كثيرة لمُكافحته والحدّ منه، بل لإلغائه تماماً. من هذه الحلول الكثيرة الاهتمام بالبيئة وإعادة الاعتبار للزراعة. بَيْدَ أنّ رأس هذه الحلول سياسيٌّ، إذ يرى المؤلِّف أنّ بعض الجمعيّات والمؤسّسات غير الحكوميّة تقوم بإغاثة الفقراء والمَساكين، ولكن على الرّغم من الأهداف المرسومة في بَرامجهم، تبقى بعض الجمعيّات خاضعةً لمُعطيات سياسيّة واقتصاديّة. ومهما كانت نواياها صالحة، فإنّ عملها يبقى من ضمن أُطر تشلّ حركتها، أو توجِّهها في مسارات سياسيّة وأيديولوجيّة غامضة.

يُعدِّد الكاتِب الأسباب الموضوعيّة «لصناعة» المَجاعة في العالَم، وبالأخصّ في إفريقيا، هذه القارّة الثريّة بخيراتها، لكنّها تخضع « لاختيارات سياسيّة فاشلة». فكما أثَّرت السيّارات المُستعمَلة والمجلوبة من الغرب على حياة الإنسان الإفريقي، أثَّرت المياهُ غير الصالحة للشرب في حالته الصحيّة، وكذلك الوجبات السريعة («فاست فود») الملوَّثة والمُنتشِرة على الطرقات، واجتثاث الغابات لتمويل صناعات الأخشاب، وخلخلة توازن الطبيعة وانعكاساتها على الحيوانات الكبيرة الأحجام مثل الفيلة، أو الصغيرة مثل العصافير، واندثار النحل والحشرات التي بفقدانها يفقد الإنسان جزءاً مهمّاً من حياته. كما أنّ شحّ الأمطار وانتشار الحرائق وازدياد الكوارث الطبيعيّة والحروب يؤدّي إلى تدمير البنية التحتيّة للكثير من الدول، وإلى بلْبَلة في توزيع مياه الشفة، ويدفع الناس إلى هجرة أراضيهم وأوطانهم «مكرَهين». « فالمَجاعة هي صنيع رجال السياسة ووسائل الإعلام، وبخاصّة أولئك الذين ينظّرون لهذه الكوارث من مَكاتبهم، بعيداً عن الواقع الأليم».

يُشدِّد المؤلِّف على أنّ الخيارات السياسيّة، على الصعيد العالَمي، تُسهِم كلّها في انتشار المَجاعة، ويَصف القيّمين على هذه السياسات بـ« أعتى المُجرِمين، لأنّهم يتحكّمون في مصير العالَم بسياساتهم الخاطئة، وبالتفكير وبشكل أساسي في مَصالحهم الآنيّة، مثل الشركات المتعدّدة الجنسيّات التي بتصرّفاتها أهلكت الزراعة ودمَّرت قرىً بأكملها، وتسبَّبت في هجرة الملايين من الفلّاحين لأراضيهم الخصبة التي كانت وسيلة عيشهم وعيش أجدادهم». ويرى المؤلِّف أنّه «على الرّغم من تطوّر العالَم تقنيّاً وعِلميّاً، فإنّ المؤسّسات المُختلفة «الساهرة» على القضاء على الجوع، تقوم بطريقة أو أخرى في «صناعته» وانتشاره». كما يرى أنّ «الجوع ليس مصيراً، بل هو نتيجة واقع مُرتبِك، لا يُمكن أن تبقى فيه الزراعة تحت رحمة قوانين السوق (...) لأنّ النضال ضدّ الجوع هو عملٌ سياسي، وأمرٌ يهمّ كلّ الأُمم وشعوبها وفلّاحيها»؛ فالحلول الناجعة تقوم على وضْع خطط اقتصاديّة تُعنى بالعدالة الضريبيّة وتسهر على حُسن توزيع الثروات القوميّة وتُكافِح التبذير. فإتلاف المأكولات على يد المُتخَمين والأثرياء وعادات الفئات الميسورة في تبذير المال والطّاقة تقدّر قيمة ما يُتلف من المأكولات والموادّ الغذائيّة سنويّاً في أوساط الأغنياء بمليارات الدولارات. وإذاً فالجوع ليس قدراً مقدّراً يصيب الجوعى، فكثيرة هي الوسائل والسياسات التي يُمكن مُحارَبة الجوع بها في العالَم؛ ولكن أكثر منها أيضاً- يا للأسف- السياسات الديماغوجيّة الكلاميّة التي لا تهدف إلّا إلى استدرار عطف الناخبين وذرّ الرماد في عيونهم.

يتضمّن الكِتاب جردةً بالمنظّمات الدوليّة التي يُفترَض أنّها تؤطِّر عمليّة توزيع الغذاء واللّباس والدواء على المُحتاجين، بَيْدَ أنّ أغلب القائمين على ذلك، هُم موظّفون يُمارسون أعمالهم من أبراجهم العاجيّة، ولا تربطهم أيّ دراية بالواقع المَلموس، وحتّى إن كانت لديهم «إرادة» في تأدية أعمالهم على أحسن وجه، إلّا أنّهم يعيشون تحت رحمة البيروقراطيّة، ويتعايشون مع أنظمة شموليّة، وكأنّ «المَجاعة حتميّة»، عوض أن يقوموا بنَوعٍ من المُحاسَبة والمُراقَبة الفعليّة.

■ ينشر بالاتفاق مع مؤسسة الفكر العربي