أفكار وآراء

مواقف.. وقناعات.. وإيمان

05 يناير 2020
05 يناير 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

يستوقفني قول القائل: « وللناس فيما يعشقون مذاهب» هذا النص أقدره على أنه حكم مطلق، ولكن السؤال عن ماذا ينبئ هذا الحكم بهذه الصورة الجازمة، الجامعة؟

لا شك أنه ينبئ عن استخلاصات ذاتية؛ وممارسات عملية من مجموعة التمايزات الصادرة عن الأطر المعرفية الثلاث: (المواقف، والقناعات، والإيمان) وتذهب الرؤية أكثر إلى تأصيل الفعل المنجز الذي يوصل الفرد أو الجماعة منا إلى القدرة الذهنية في أن يكون له موقف، أو تكون له قناعة، أو يتأصل عنه إيمان بأي شيء حوله في هذه الحياة، حيث تنمو هذه المعززات المعنوية الـ (3) عند الفرد مع مرور الأيام، وزيادة خبرات الحياة، ومن مجموعة المصادمات، والاتفاقات التي تحدث بينه وبين المحيطين من حوله، وهي مسألة شديدة التعقيد، وليس يسيرا إطلاقا فهم هذه المناخات عند كل فرد، إلا من خلال الاقتراب منه، وسماع وجهة نظره، وإلا «مات بقناعاته» كما يقال في المثل.

يمثل مفهوم؛ الكفاية والرغبة؛ وهما على طرفي نقيض منطلقات مهمة في الوصول إلى أحد هذه الإطر المعرفية الثلاث: (المواقف، والقناعات، والإيمان) فالكفاية توقفنا عند حد معين، وعندها نتخذ موقفا ما تجاه ذلك، ولا يمكن؛ كما يفترض؛ أن نتجاوز الحد الذي نرتضيه، وإلا عد ذلك نقيصة أخلاقية معيبة في حقنا، وسوف ننعت بعد ذلك بأوصاف لا نرتضيها على أنفسنا، لأنه كما يقال أيضا: «الناس مواقف» ولعل الكفاية هي من أشد الحالات التي تنبني عليها المواقف، بخلاف الرغبة، التي إن تشبثت بصاحبها غربته عن واقعه الحقيقي؛ كفرد يدرك ما يجب عليه، فـ» الإنسان عند كلمته» كما يقال، فالرغبة تجره إلى كثير من الاختراقات الجانبية، وتصبح الحدود التي يحيط بها نفسه معرضة بصورة دائمة إلى التكسير، فيصبح على موقف، ويمسي على موقف آخر «والنفس راغبة إذا رغبتها» فخطورة الرغبة أنها لا يمكن أن تبني عليها مواقف وقناعات، ولا تصل بصاحبها إلى ضرورة الإيمان بمستوى معين مما يتعاطاه مع الآخرين من حوله، ولذلك تورد صا حبها موارد؛ تصل في بعضها، إلى حد الهلاك؛ تظل دائما واقعة في دائرة النقد الجارح للنفس، لأن الآخرين يوسمون مجموعة القيم الإنسانية التي عند الشخص، وهذه مسألة يتجنبها العقلاء، لذلك يحرص كثير من الناس على البقاء على «الرضا بما دون الكفاية» وبعبارة أخرى «الاستغناء بالموجود» ومن هنا يأتي النص المشهور: «القناعة كنز لا يفنى» وهذه مسألة مهمة قد لا ينتبه إليها كثير من الناس، فيدفعون ثمن الخلط بين الكفاية والرغبة.

هناك مسألة نسبية تتحكم في ذات الرؤية تجاه هذه الإطر المعرفية الثلاث: (المواقف، والقناعات، والإيمان) فكل وحدة منها تعتمد على عوامل كثيرة يأتي في مقدمتها: العمر، التجربة الإنسانية، مستوى الوعي الذي يصل إليه الفرد، فلا يمكن لشاب - على سبيل المثال - في العشرين ربيعا من عمره، أن تتضح له هذه الأطر، نعم قد يمارس شيئا منها، ولكنها تبقى ممارسة فطرية لا أكثر، دون أن يكون لها اتساعا معرفيا مستوعبا ليبني عليه حكما يعتمد عليه، ولذلك ففي مثل هذه الفئة العمرية وحتى الفئة العمرية الأكبر إلى ما دون الـ (40) عاما تظل مواقفها وقناعاتها متذبذبة إلى حد كبير، حيث لا تتيح لها تجربتها الإنسانية أن تكون رؤيتها واضحة كل الوضوح لتنحاز إلى أي من هذه الأطر الثلاثة، ولذلك في الغالب عندما يحزب مجموعة من الناس أمر ما، تراهم، وبلا تردد، يستعينون بكبار السن ليستوضحوا منهم المسارات الصحيحة للمعالجة، واتخاذ مواقف وقناعات تقترب أكثر إلى الصواب، ولا تورد الجميع موارد الهلاك كنتيجة لما سوف يتخذ حول المستجد من قرارات، وليتحقق الرضا النسبي؛ على الأقل؛ في شأن ما يتخذ، ولذلك ينظر إلى القرار الجماعي المتحقق في أفراد المجموعة خبرة الحياة؛ على أنه قرار عقلاني، يعكس رؤية موضوعية، وقد تنبهت التجارب السياسية الحديثة إلى هذا الأمر، فكونت مجالس تتكون من فئة كبار السن، كما هو الحال في السلطة التشريعية، والتي عادة ما تتكون من غرفتين: غرفة منتخبة مكونة من تمايزات واضحة في السن وتجربة الحياة، وغرفة معينة تتحقق فيها معززات اتخاذ القرار الصائب؛ وهي العمر التراكمي، وسنوات الخبرة الحياتية.

من الأمور المسلم بها؛ أن الناس يختلفون في مواقفهم وقناعاتهم، وإيمانهم بذات الأشياء التي من حولهم، كما ذكرنا سابقا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتفق مواقف الناس، وقناعاتهم لتكون «كلمة رجل واحد» حتى في إطار المجموعات فيما بين أفرادها، وهذه ظاهر صحية، وليس عليها خلاف، والخلاف الوحيد أن تكون هناك ضبابية في المواقف، وفي القناعات، وهي ما تعكسه مجموعة الترددات، ولعل في قول الشاعر: «إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة؛ فإن فساد الرأي أن تتردد»ما ينبئ عن ضبابية المواقف، ولذلك يخاف الناس كثيرا من أصحاب المواقف المترددة، ومن المتقلبين في قناعاتهم، حيث يستسلمون لرغباتهم المستمرة، وغير المستقرة، ومن هنا أيضا تأتي أهمية المكاتبات الرسمية، والإمضاء على العهود والمواثيق بين الناس، للحيلولة دون الوقوع في مطب الرغبات المتقلبة، وفي المواقف المتناقضة، ولعدم الإيمان الواضح بالقضية المثار حولها النقاش، أو هي موضع الحدث الفارض نفسه على الواقع في لحظة ما لحظات التاريخ.

ومع ذلك فهناك أريحية في هذه المسألة، وهي أنه ليست كل الأحداث تحتاج إلى ضرورة تأصيل هذه الإطر المعرفية الثلاث: (المواقف والقناعات، والإيمان) ، فبعض الأحداث مؤقتة، ويكفيها اتخاذ موقف ما في تلك اللحظة، وليس شرطا أن يمثل ذلك الموقف منهجا لأحداث مماثلة، حيث ليست هناك ثمة ضرورة لأن تكون هناك قناعة بضرورة هذا الموقف، حيث يزول الموقف مع زوال الحدث الآني، ولكن ذلك لا يلغي الإيمان بأهمية الخلفية التأريخية لذات الحدث ولو كان صغيرا، فلو مر أحدنا على حجرة، أو قطعة زجاج مرمية في الطريق، فالموقف هنا أن يزيلها عن الطريق للإيمان بأن ذلك سوف يؤذي المارة، وللقناعة الموجودة بأن في ذلك محافظة على النظافة العامة، وبأن ذلك من الإيمان أيضا، فالعلاقة بين المواقف، والقناعات، والإيمان علاقة تعاضدية تكاملية إلى حد بعيد، ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض، ويمكن الجزم أيضا أن القناعة تحجز لنفسها مساحة أكبر في إدراك المواقف، واتخاذها سلبا أو إيجابا، وليس من اليسير أن يتخذ أحدنا موقفا ما، دون أن تكون هناك قناعات بضرورة اتخاذ هذا الموقف أو ذاك.

يحتل الإيمان الصفة المطلقة، لأنه يتضمن القناعة، وبالتالي فهو يدخل ضمن الجبر، أو التسليم، ولا يخضع كثيرا لفهوم المنطق، خاصة إذا تعلق الأمر بضرورة التسليم في العلاقة مع الله سبحانه وتعالى؛ على سبيل المثال؛ لأنه الاطمئنان، حيث تطمئن النفس، وهذا الاطمئنان لن يصل إليه الإنسان إلا بعد تراكمات نوعية من القناعات، ومن خوض المواقف المختلفة، ولذلك يعتبر الإيمان خلاصة القناعات كلها، ولذلك نرى، وخاصة في اعتناق الدين، أن الفرد لن يغير دينه بوجود فهم متواضع عن الدين الآخر، حيث يحتاج إلى مجاهدة غير عادية حتى يسل نفسه من دين ما، إلى دين آخر بديل، وأتصور أن هذه الصورة يمكن أن نسقطها كذلك على اختيار الأوطان، حيث يستبدل فرد ما وطنه بوطن آخر بديل، لأنه وصل إلى إيمان مطلق أن هذا الوطن البديل، لا يوازي فقط الوطن الأم، ولكنه يتفوق عليه، ويتسامى عنه، بما يقدمه للفرد الباحث عن بدائل هي بمثابة القيم الإنسانية التي يبحث عنها كل فاقد لوطنه الأم، هذا المستوى من التحول لا تكفيه القناعات البسيطة، فلا بد أن ترتقي هذه القناعات لتصل إلى مستوى الإيمان، ولذلك فليس مستغربا؛ بعد ذلك؛ أن تجد هذا الفرد الذي استبدل وطنه أن يكون في الصفوف الأولى للدفاع عن منجزات وطنه البديل، حتى ولو كلفه ذلك التضحية بحياته، وبرؤية أكثر وضوحا يمكن الجزم أنه ليس يسيرا التنازل عن الإيمان، فهو الوحيد الذي يقاوم التغيير، إلى آخر لحظة من تجدد القناعات والمواقف، ولعله العامل الوحيد الذي يذهب بالإنسان إلى موارد النجاة، أو موارد الهلاك، والذين يتنازلون عن مواقفهم، وقناعاتهم، هم باقون على إيمانهم بلا شك.