mahmood2
mahmood2
أعمدة

جرة قلم: عن الإرث الباختيني

05 يناير 2020
05 يناير 2020

محمود الرحبي -

حضرت بقاعة محمد المومني بجامعة محمد الخامس بالرباط، محاضرة مطولة تجاوزت الثلاث ساعات للناقد المغربي الدكتور عبدالحميد عقار تمركزت حول الإرث الباختيني، حيث توزع الحديث فيها على ثلاث مراحل: باختين في ذاته، وباختين في مرآة النقد، وباختين في مرآة الزمن ( أي ماذا استمر من باختين؟)

فالإرث الباختيني - حسب رأي المحاضر- لا يتعلق بالماضي بل بالبحث عن الفعالية المستمرة وما تركه باختين من دور وأثر في تجديد وبناء وربط العلاقة بين المعرفة والسياق. فباختين باحث ومنظر أصيل ومن طراز نادر نظرا لمعرفته الأدبية الكبيرة وما تتميز نظريته من تماسك رغم طول الزمن، ولكنها رغم ذلك تعتبر مصدر افتتان بالنسبة لقرائه ودارسيه في الوقت الراهن. فنظرية الرواية لديه تشكل قطيعة ابستمولوجية مع ما سبق لا يمكن تجاوزها، فإنجازاته النظرية في الرواية وشعرية الرواية نهضت لزعزعة اليقين في تقاليد موروثة، بل وضع قطيعة مع البنيويين والشكلانيين الروس والألسنيين وذلك ليسمح بإعادة التفكير بالرواية وأجناس الخطاب داخل منظور نصي مزدوج وتوسيع نوافذ قراءة النص المنغلق حول ذاته كما يراها الشكلانيون الروس واللسانيات التقليدية. فالنص بالنسبة لباختين ليس عالما مغلقا، فهو مثله مثل اللغة والمعرفة، عملية كيميائية تفاعلية بين الداخل والخارج؛ فنص الرواية أو بالأحرى خطابها يتأسس في ملتقى نصوص أخرى تتأسس داخل الخطاب من زوايا متعددة الأصوات متفاعلة اللغات والأساليب (وحدة الشكل والمضمون) هي مفاتيح ومداخل ذات طابع منهجي ومعرفي. فتمثل العلاقة بين الأنا والآخر لا تتم إلا من خلال تفاعل لا ينقطع . فتعددية الناس من منظور باختين، ليست تعددية كمية، بل إن كل واحد هو الكل الضرورية للآخر، فهو وعي، ووعي الذات عند باختين لا يستقل عن الوعي بالآخرين، فتعدد الناس هي حقيقة كينونة الإنسان وهويته يعاد تكوينها عبر اللغة والحوار، وهو ما جعله ينجذب نحو دستويفسكي ورابليه. فباختين يستخلص بأن الرواية مثل الكرنفال تنبثق من السلوكيات الاجتماعية ( السلوك اليومي والعادات والتقاليد..الخ)

فالتفاعل الإنساني هو المكون لما هو إنساني وهو ينتج عن التفاعل بين الإنسان والإنسان. وهذه القناعة متخللة - مباشرا أو ضمنيا- في كل تفكير وكتابات باختين.

فكتابات باختين ومؤلفاته وفكره عموما، تمثل أصلا من أصول التيارات الفكرية والفلسفية المعاصرة، كالظاهراتية واللسانيات ونظريات التلفظ والنقد الثقافي، فهو في الجوهر من كل هذه النظريات الجمالية.

فالإرث الباختيني بالنسية إلى الأستاذ عبد الحميد عقار، يتمثل في الحضور المستمر لباختين (أي صورة باختين المتعددة) حيث يستفيد منه الفيلسوف وعالم النفس والناقد الأدبي واللساني. فاجتهاداته قد ألهمت فرويد، كما يجد فيه الناقد الأدبي المعاصر معينا كبيرا كما هو سائد الآن في العالم العربي، وهذا يدل على عدم القدرة على حصر باختين في تخصص ما.

فإرث باختين يتميز بهذه الفتنة بسبب الدلالة الكلية لمؤلفاته، وتكمن هذه الدلالة في مواجهة الوثوقية أي النظر إلى الظواهر نظرة نقدية ومقاومة الدوغمائية ورفض الجمود مثلما استخلص ذلك تودروف.

فراهنية باختين لا تعني التعالي والانغلاق بل هي ترحُل عبر الزمان واللغات. فباختين نحت مفاهيم لا يمكن تجاوزها، ولكن يمكن مساءلتها دون الوقوع في الوثوقية.

وإجابة على مجمل أسئلة الحضور تحدث الأستاذ عبد الحميد عقار عن مجموعة من الأمور التي تصب في الإرث الباختيني، فباختين وهو يمارس فعل الإصغاء كان محكوما بأسلوبين متضافرين: أفقية المراجعة والتجاوز والتأسيس ( ويمكن تلمس ذلك في الجزء الأول من كتابه شعرية دستويفسكي).

كما أن منتقدي باختين يوجهون إليه تهمة كونه إيديولوجيا أرثذوكسيا وذلك من خلال كتابه ( الماركسية وفلسفة اللغة) ولكن رغم الوعي الإيديولوجي فإن هذا الكتاب يتضمن مقولات من صلب فكر باختين وتصوره مثل مفهوم التفاعل اللفظي.

كما تطرق الأستاذ عقار - ردا على أحد السائلين- إلى جوانب من حياة باختين كرفض اللجنة لمناقشة رسالته لنيل درجة الدكتوراه ومرضه الذي اضطره لقطع قدميه ونفيه الطويل في المناطق الصقيعة. ولكن المحاضر لخص فكر باختين في تعدديته ودفاعه عن هذه التعددية، فالسماح للرواية بأن تتضمن هذه الأفكار المتعددة تعتبر مقاومة ثقافية في وجه المشروع السياسي الدكتاتوري - الكلياني- القائم في وقته.