المنوعات

الثقافـة العمانية ومدلـولاتها

04 يناير 2020
04 يناير 2020

كلمة الثقافة بالمعنى الذي يتداوله الناس اليوم غير موجودة في معاجم اللغة القديمة فهي هناك تشير إلى الصلابة والاستقامة ومنها تم اشتقاق لفظ المثقف وهو الرمح كما ورد في أشعار العرب الأقدمين ولم تعرف اللغة العربية مصطلح الثقافة دالا على الوعي والفكر والعلم إلا في العصور الجديدة فهل هو معنى مترجم من لغات أخرى؟ أم هو اصطلاح أحدثه الكتاب العصريون؟ تخيلا من دلالة المصطلح القديم؟ الذي هو القوة والاستواء بنظرتهم إلى الثقافة كونها متينة الاستقامة وشديدة يصعب كسرها أو ثنيها وقد شاعت اليوم كثيرا لفظة الثقافة بمعنى العلوم والفنون متجردة عن مدلول الصلابة والاستقامة الذي كان لها في المعاجم العربية القديمة ولعل أصل المعنى الحديث للكلمة جاء من تمثل الحالة المجازية المتصورة للثقافة بكونها استقامة لا اعوجاج فيها وقوة احتمال تستبعد الرخاوة واللين.

وعلى أية حال فإن الثقافة أصبحت اليوم تعبر في الغالب عن النشاط الفكري والذهني المرتبط بفعل الكتابة والقراءة وممارسة الفنون بشتى اتجاهاتها من مسرح وتشكيل وتصوير ونحو ذلك كما نرى في الروايات وأفلام السينما والرسم والنحت وما ينبعث من بواطن الوجدان إضافة للكتب التي يؤلفها أصحابها لمناقشة شؤون محددة بذاتها وهي من أركان الثقافة الأساسية ومعها البحوث والأطروحات المقدمة في المؤسسات الأكاديمية لنيل الدرجات العلمية.

ومصطلح كلمة الثقافة في هذا العصر وإن ظهر في وعي أكثر الناس باعتباره معبرا عن العلوم والفنون والبحوث غير انه في الواقع أكثر من ذلك فاللفظة أصبحت في معناها الأوسع تدل على جميع ما يخص سلوك البشر من الصناعة والزراعة والاختراع والجوانب العسكرية والسياسة والاقتصاد والاجتماع وأنماط العيش وأحوال البيئات بكل ما فيها وغدت هذه الكلمة عند مختلف أمم الأرض تسمى ثقافة وإذا أخذنا هذا المعنى كمعيار لحالة حياة عالم البشر في زمننا وذهبنا به في مفهومه المستقر في أدمغتنا إلى عصور انقضت منذ الألوف من السنين فسنجدها صورة لحركة الناس ومعيشتهم متشابهة في بعضها أو متباينة بين الساكنين بهذا القطر أو ذاك فأناس الصين لهم نشاط لا يماثل نشاط الإغريق أو الفرس وسنجد أمة الهند قد لا يتفق سعيها كثيرا أو قليلا مع حضارة الفراعنة أو حضارة ما بين النهرين ولكن هذه قد تستفيد مما يصلها من تلك حسب الظروف وإذا تجاوزنا تلك الأمم وتوقفنا مع أمتنا العربية فقط فسنرى أن الإقليم العربي من أقاصي الجزائر والمغرب وحتى نهايات اليمن وعمان تحكمه ملامح حضارة واحدة منذ مئات القرون وسبب ذلك أن الأقوام في هذه المساحة بين المحيط الهندي والمحيط الأطلسي كانوا متماثلين في وعيهم وفي سلوكهم ومنطلقاتهم ومن أبرز ارتباطهم ببعضهم انتقالهم الدائم والمستمر بين ديار هذه الرقعة ذاهبين وآيبين من هناك إلى هنا ومن هنا إلى هناك تذهب قبائل من أراضي الشام والعراق لتقيم في مصر أو يرحل بعضها من مصر فيجد نفسه في تونس أو ينتقل من أقاليم جزيرة العرب الخمسة إلى المناطق الأبعد في المغرب أو إلى مصر والعراق وجبال الشام وسهولها ومن أمثلة ذلك انتقال فئه من جبال ظفار لتستقر في جبال الأطلس بالمغرب وقبائل رحلت من بلدان المغرب إلى المشرق وكثير غير ذلك يؤكد قوة الوشائج الوثقى المتشابكة بينها وقبل ذلك وبعده فإن مما يجمع تلك الأقوام في الأساس اللغة التي هي الرابط الأقوى ومع اللغة الانتساب إلى جذر واحد إضافة إلى المشتركات الكثيرة التي ترعرعوا جميعهم في نشأتهم الأولى تحت مظلتها وثقافة العرب منطلقها الكلمة المنقوشة في الصخر ثم المنطوقة فيما بعد متمثلة في الأسواق الثمانية أو العشرة التي تسمى أسواق العرب ابتداء من اليمن ومرورا بعمان في أسواق ظفار وصحار ودبا وانتهاء بسوق عكاظ الشهير في الحجاز في موسم الحج وهذه الأسواق كانت للتجارة وتبادل المنافع وإقامة الأحلاف وتأكيد العلاقات وفيها تقام سباقات الخيول والإبل ومعها تكون الخطب وقصائد الشعر وقد بقي لدينا اليوم الشيء القليل من نواتج أقوال تلك الأسواق وخير مثال على ارتباط سكان هذا الإقليم ببعضهم انتشار اللغة العربية فيما بينهم انتشارا واسعا بعد ظهور الإسلام على الرغم من التباعد الجغرافي في الوقت الذي تعسر فيه رواجها بالمناطق الملاصقة لجزيرة العرب لأن مكونها مختلف كمثل فارس ومناطق وسط آسيا التي ظلت العربية هي لغتها لعدة قرون وظهر منها علماء اللغة والتفسير والفقه والفلسفة من أمثال سيبويه والفارابي وغيرهما ولكن العربية رغم نفوذها القوي في تلك الديار لقرون طويلة لعلها تجاوزت الأربعة تراجعت واختفت تماما وعادت الشعوب هناك إلى لغاتها القديمة مع محافظتها على الإسلام خلافا لبلدان المغرب ومصر والشام والعراق ونظائرها التي منذ القدم كانت جذور العربية متغلغلة فيها فتجددت وترسخت ولم ترحل لأنها حلت في تربتها ولم تكن طارئة تجيئ اليوم وتغادر غدا.

وقد شاعت في هذه البقعة الحرف والعادات نفسها بلا اختلاف ينكر وإن أخذت من جوارها أو أعطته فإن ذلك لم يطغ على موروثاتها ولم يؤثر أبدا على ما اصطبغت به بل ظلت على الدوام مستمسكة بما لديها مع ازدهار وقوة من حولها أحيانا.

وأبو تمام حبيب بن أوس الشاعر العربي الكبير يقول في تعبير عن تلك اللحمة الشديدة الأواصر التي تربط هذه الأقطار ببعضها:-

الشام داري وبغداد الهوى وأنا

بالرقمتين وبالفسطاط إخواني

وعُمان التي هي أحد منابت العرب ومكان جذورهم الأولى ثقافتها في الأساس هي هذه الثقافة العربية المتأصلة وقد خرج أهلها إلى أقطار الأرض البعيدة أو القريبة من فارس إلى الهند إلى الملايو والصين والشرق الأفريقي واحتكوا مع أمم تلك الأقطار وتبادلوا معها المصالح والمعارف أخذوا منها وأعطوها دون أن تستطيع تلك الأمم وإن تعاظمت في بعضها القوة والاقتدار على إخراجهم من حيز مواريثهم ومعارفهم كان ذلك قبل ظهور الإسلام بمئات السنين وكل مكان ذهبوا إليه أو التقوا بأهله أحبهم الناس هناك وصادقوهم ووثقوا صلاتهم بهم وذلك لسلوكهم الحسن وتقديرهم العالي لمن يحسن معاملتهم ينشرون السلام ويحتكمون للعدل في سعيهم للرزق وفي الأخذ والعطاء مع الأقوام الذين تذهب سفنهم إليهم يشترون منهم ويبيعون لهم ويمكثون ما يمكثون في موانئهم على احترام وأنصاف في التجارة وفي المعاملة ينقلون البضائع من بلادهم ومن البلدان المحيطة أو البعيدة إلى بلدان ومناطق أبعد ويأتون ببضائع ومنتجات تلك الأراضي إلى بلادهم وإلى بلاد أخرى قريبة أو نائية عنهم ويتركون أينما مروا السمعة الحسنة والذكر الطيب تلك هي علاقتهم بالأمم الأخرى نائية كانت أو دانية علاقات صداقة وتعاون أبعد ما تكون عن الصدامات والخصومات والغدر والكراهية ونكث المواثيق والتصرف الهمجي وإيذاء الناس وأخذ أموالهم بغير الحق ولم يذكر أحد قط أنهم مارسوا الاحتيال والخديعة في أي بلد وطأته أقدامهم ولئن كانوا حرموا الاعتداء مطلقا على كل الناس أو نهب أموالهم ما لم يعتدوا عليهم فإن حرمة دم الموحد المسلم أشد وأعظم لا سبيل لانتهاكها لديهم وكذلك أخذ أموال المسلمين واستحلالها فهي عندهم محصنة بجملة التوحيد المانعة من الاستيلاء عليها وإن قلت ولكنهم نعم يتصدون بقوة وصلابة لكل من جاء إلى قطرهم ليعتدي عليهم ويمد أياديه بالأذية لأهلهم وقومهم وكم من وقائع عظيمة خاضوها دفاعا عن حقهم ورفضا لمن ينتويهم بالمكيدة والضرر وقد نزلت بهم تلك الاعتداءات وتكررت من أكثر من أمة في عصور متفرقة منها البعيد الغاطس في عمق طبقات الزمن ومنها ما هو بعد ذلك وبعض تلك الاعتداءات جاءت من فارس ومن الهند ثم من البرتغاليين وأمم أوروبا الأخرى في القرون المتأخرة.

وبعض من العدوان جاء للأسف من الشقيق العربي.

«وظلم ذوي القربى أشد مضاضة» كما فعل ابن سرجون الأكادي الذي قام بعد وفاة أبيه بغزو عمان مبدلا سيرة الصداقة بالعداوة وكما صنع فيما بعد الحجاج بن يوسف والي الأمويين وقد أنهكت اعتداءاته البلد وأهلها مما أدى بعد وقائع عنيفة إلى خروج ملكي عمان سعيد وعباد أحفاد الجلندى إلى الشرق الإفريقي وبقايا آثارهم ما زالت موجودة هناك حتى الآن وكما حصل من جند هارون الرشيد وإسقاطهم أول دولة إسلامية مستقلة نشأت في عمان في أوائل القرن الهجري الثاني وفي هذه الهجمة العباسية تم استشهاد الإمام الجلندى بن مسعود زعيم تلك الدولة الذي أخذوا رأسه إلى بغداد لينظره الخليفة وقد وقعت تلك المعركة الحامية في مدينة جلفار الواقعة حاليا في رأس الخيمة وكان القائد العباسي يطالب بالخضوع لخليفة بغداد وأن يسلم له ميراث شيبان قائد الخوارج المقتول في عمان وإلى ذلك يشير العلامة نور الدين السالمي:-

فطلبوا خاتمه وسيــــــفه

والسمع والطاعة للخليفة

وقد حوت مشهدهم جلفار

عليهم الرحمة والأنـــوار

ورفضهم إعطاء ميراث شيبان لأنه في نظرهم عائد لورثته الذين هم الأحق به وهو في ذمتهم إلى أن يدفعوه لوارثيه أما خضوعهم لخليفة بغداد فهم يعتقدون أنهم دولة مستقلة ولا يسعهم فعل ذلك.

وفي القرن الثالث الهجري كرر العباسيون هجومهم مرة أخرى على أيام المعتضد استجابة لطلب بعض زعماء عمان المنشقين عن الصف الوطني وكان هذا الهجوم بقيادة والي المعتضد في البحرين واسمه محمد بن نور وقد حرف العمانيون اسمه إلى ابن بور بسبب أعماله البائرة والجرائم الوحشية التي ارتكبها.

وبعد ذلك في العصور الحديثة ظهر تسلط أهل نجد وغزواتهم في أيام السلطان سعيد بن سلطان بقيادة مطلق المطيري وفي تلك الغزوات صار القتل والاستيلاء على أموال الناس بشكل إجرامي همجي.

وعلى الرغم من كل الموبقات ضد عمان إلا أنها سرعان ما تنتعش وتعود لمسارها في بناء نفسها وانتهاج سياستها الثابتة المعتدلة المرتكزة على السلم والصداقة مع كل أمم الدنيا كما رأينا من مسلك السلطان سعيد بن سلطان وعلاقاته النموذجية مع مختلف الأقطار في زمنه ومنها تركيا العثمانية ومصر والعراق والحجاز وبريطانيا وفرنسا وكان من أوائل المعترفين بالولايات المتحدة غداة استقلالها عن بريطانيا، وعمان لا تستسلم للهزائم والإذلال وإنما تظل جمرة المقاومة تشتعل في الخفاء إلى أن تتمكن من الظهور ويكتب الله لها النصر على ظالميها طال الوقت أو قصر فتذيقهم شر الجزاء على سوء فعالهم وتطردهم شر طردة.

ومن صفات العمانيين الثابتة مناصرة الشقيق المتعرض للعدوان والظلم والوقوف معه منطلقين عبر البحار والقفار البعيدة لنجدته في أزمان قوتهم وازدهارهم بكل ما استطاعوا إلى أن يرفعوا عنه الإساءة التي نزلت به وخير مثال على نجدة الشقيق المستنصر نجدة الزعيم الكبير الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي لأهل البصرة في العراق لمواجهة غزو شاه إيران وهجومه ضدهم حيث ارسل الإمام أسطوله القوي المكين تتقدمه السفينة الكبيرة المسماة «الرحماني» وقد ضم الجيش الألوف من العمانيين بقيادة هلال النجل الأكبر للإمام أحمد وعاد الجيش مظفرا بعد إنهاء العدوان وطرد المقتحمين.

فعمان منذ ماضيها القديم كانت دوما قريبة من الشقيق العربي وقد دونت بعض ذلك ألواح الطين المسمارية العراقية القديمة عند إشارتها للعلاقة المتينة بين عمان والعراق في الأزمنة البعيدة أيام حكم الملك «سرجون الأكادي» والملكة «شمساء» ملكة عمان حيث تم التحالف بينهما لدفع الطامعين بالنحاس العماني محل الصراع بين الأمم وقتها ومن بين علاقات عمان مع الأشقاء علاقاتها مع مصر القديمة في عهد الملكة «حتشبسوت» التي أرسلت في طلب اللبان العماني المستخدم بمعابد مصر يومئذ وكذلك صلات عمان بمصر في العصر الحديث أيام السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي ومحمد علي باشا حاكم مصر.

وأنا هنا لا أريد الحديث عن الثقافة التي هي العلوم والفنون وإنما سأذهب إلى ما هو أشمل وأوسع وفي هذا الإطار يمكن لنا تصنيف البناء في عمان من هذه الثقافة فنحن اليوم نرى الحارات والقرى والمدن مبنية بالطين وبالحجر أو بكليهما بصورة دقيقة متقنة عليها أسوارها وتحصيناتها وبداخلها مياهها في هندسة بديعة فائقة ما زالت حتى اللحظة تحكي لنا خبرة من اتقنها قبل مئات السنين.

ومن ثقافة عمان المتجذرة الباقية «السبلة» التي نسميها الآن المجلس العام ولا توجد في عمان قرية مهما صغرت إلا و«السبلة» بوسطها وفي القرى الكبيرة لكل حارة سبلتها دعك من المدن التي بها العشرات منها وللسبلة تقاليدها وأعرافها وهي منزل الضيف وفيها تقام المناسبات للأفراح والأتراح وهي مقر اللقاء حين يدهم القوم أمر مهم وفيها الاجتماع اليومي في المساءات للقهوة وتبادل الحديث وقراءة الشعر والكتب المتنوعة. ومن ملامح الثقافة في عمان مؤسسة «الفلج» والفلج نموذج فريد وهو أساس الحياة كونه مصدر الماء للزراعة والشرب وقد اعتاد أهل عمان حفر الأفلاج لاستخراج المياه من تحت الأرض على مسافات بعيدة تمتد لعشرة كيلومترات أو أكثر من أجل تأسيس القرى والمدن في السهول أو على حواف الأودية أو في أعالي الجبال كما هو في الجبل الأخضر وغيره من الجبال وقد أخذ الفرس أثناء اعتداءاتهم على عمان في القديم طريقة إنشاء الأفلاج وطبقوا ذلك في بعض مناطق بلادهم. ومن ثقافة عمان المزروعات بشتى أنواعها وأبرز الأشجار المزروعة النخلة التي هي الملمح العماني الأبرز إضافة للسفرجل والليمون والرمان والموز والقمح والحبوب بأنواعها مع مزروعات أخرى عديدة يستهلك معظم إنتاجها في الداخل ويصدر الفائض منه إلى الخارج.

ومن ملامح عمان القديمة صناعة أدوات الحراثة بمختلف أنواعها وهي كثيرة متعددة لها استخداماتها المعلومة وتسمياتها المعروفة.

ومن ثقافة عمان ألوان الفنون الشعبية العديدة التي ما زالت تؤدى في المناسبات إلى الآن ولها طرائقها وخصائصها تتناقلها الأجيال من جيل إلى جيل.

ومن ثقافة عمان المطبخ العماني وأكلاته الشعبية المختلفة وهي كثيرة متنوعة من المطبوخات والمخبوزات والحلويات لعل من أبرزها «العرسية» وهي الوجبة الأساسية في صباح العيدين الفطر والأضحى ومنها كذلك اللحوم التي يتم إعداد أصنافها المختلفة في العيدين للأكل والإهداء والادخار ومن مستلزمات العيدين الخل الذي يطهى بالهيل والزبيب والبهارات ذات الرائحة النفاذة.

ومن بين أشهر المطبوخات الحلوى العمانية التي عمت الآفاق وهي صناعة عمانية لا توجد في غير عمان وكل من ذاقها استهوته وأعجب بها.

ومن ثقافة عمان تربية الخيول العربية الفائقة الجودة وتصديرها للخارج وكذلك النياق الأصيلة المنسوبة لعمان التي يكثر الطلب عليها لفرادتها وقد وردت الإشادة بها في شعر العرب القديم لتميزها وإضافة إلى بيع الخيول والإبل فهناك أيضا السباقات التي تقام لها في الحلبات وهي من النشاطات الأساسية في عمان وتعتبر من رموز ثقافتها الأساسية.

ومن ثقافة عمان التي عرفت بها في القديم وإلى سنوات قريبة صناعة السفن وبيعها والسفر عليها لنقل البضائع من عمان واستجلاب ما يحتاجه السوق المحلي من غير الموجود في عمان.

ومن ملامح عمان النسيج وكان ينتج من القطن المزروع محليا للاستهلاك أو للتصدير ومما ذكرته كتب السيرة أن رسولنا الكريم صلوات الله عليه كان يرتدي الملابس المنسوجة في مدينة صحار العمانية وكان يهدي من تلك الملابس لأصحابه وعند وفاته صلى الله عليه وسلم تم تكفينه في أقمشة صحارية.

ومن ملامح إنتاج عمان كذلك السمك المملح في القديم الذي يصدر الفائض منه وحتى الآن ما زال يصدر بكميات المملح منه والمبرد.

ومن ثقافة عمان لبس الخناجر العمانية التي هي مكون أساسي للشخصية العمانية لا مجال أبدا لتركها وارتباط الإنسان العماني بالخنجر لا فكاك منه منذ الآماد البعيدة المنطوية في عمق الزمن وتصنع الخناجر العمانية في معظم مدن عمان بأيدي صاغة مهرة يتوارثها الأبناء والأحفاد من آبائهم وأجدادهم وللخناجر العمانية صفاتها الخاصة التي لا مثيل لها والصاغة العمانيون يصنعون كذلك السيوف والتروس المستخدمة قديما في الحروب وحاليا في أداء الفنون الشعبية كما يتولون كذلك صياغة الحلي الذهبية والفضية الخاصة بعمان. ومن ثقافة عمان اللباس المستعمل للرجال والنساء وهو فريد لا يماثله سواه في بلدان أخرى من العمائم البيضاء لرجال الدين والمصرات بألوانها لعامة الناس وكذلك ألبسة النساء المطرزة بأشكالها وألوانها وأنواعها.

ومن منتوجات عمان الفاخرة اللبان ومصنوعاته المعطرة إضافة إلى طبخ بسور التبسيل من ثمار النخيل وتصديرها.

وكون عمان بلاد حضارة وعلم انتشر بها التعليم في القرى والمدن وظهر فيها العلماء الكبار المميزون ومنذ أول ظهور الإسلام توالى ظهور العلماء عشرات في كل قرن ابتداء من الإمام التابعي جابر بن زيد مؤسس المذهب الإباضي وهو من أهل بلدة «فرق» بمدينة نزوى وقد أخذ العلم الديني من زوجات رسول الله وكبار صحابته وتوفي قبيل نهايات القرن الأول الهجري ومن بعده توالى العشرات من العلماء قرنا بعد قرن مخلفين وراءهم الكتب المتعددة في علوم الدين واللغة والعقيدة والتاريخ والأدب ولا تزال مخطوطات الكتب العمانية موجودة حتى اليوم في عمان وفي جميع مكتبات العالم الكبرى في هولندا وأمريكا واليابان وروسيا وانجلترا والصين وفي سوريا ومصر وبلدان المغرب العربي وبعض كتب عمان تتألف من مجلدات كثيرة بلغت التسعين والسبعين والخمسين أكثرها في الفقه وبعضها في العلوم الأخرى كالتاريخ واللغة والطب.

وفي الشعر انجبت عمان على مدى تاريخها العديد من الشعراء ومن مشاهير شعرائها الكبار كعب بن معدان الأشقري والسلطان سليمان بن سليمان النبهاني والشيخ أبو مسلم البهلاني الرواحي والشيخ عبدالله بن علي الخليلي والشيخ هلال بن سالم السيابي وآخرون كثيرون. ومن مشاهير علماء عمان الإمام الخليل بن أحمد مخترع علم العروض وعلم النحو وهو من قرية «ودام» بولاية السويق والإمام المبرد صاحب كتاب «الكامل» وأصله من بلدة «قدفع» بمنطقة مسندم والإمام اللغوي الشاعر ابن دريد صاحب المصنفات العديدة وهو من مدينة «إزكي» والإمام المحدث الربيع بن حبيب وهو من بلدة «غضفان» من لوى وأبو حمزة الشاري المختار بن عوف وهو من مدينة «صحار» ومئات سواهم يستحيل الإلمام بهم كلهم.

وفي عمان تأسست المكتبات العامة والخاصة منذ قرون وظل العلماء والأئمة يعتنون بذلك وبلغ عدد عناوين مخطوطات بعض تلك المكتبات تسعة آلاف وأكثر كما ذكر الشيخ خلف بن سنان الغافري حيث قال يصف مكتبته وكتبها

لنا كتب في كل فن كأنهــــــا جنان بها من كل ما تشتهي النفس

ثلاث مئين ثم سبعون عددها

وتسعة الآف لها ثمن بخــــــــس

وذكرت كتب التاريخ مكتبات عديدة معينة بأسمائها وصفاتها منذ القرن الرابع الهجري وما تلاه من القرون.

والثقافة العمانية ثقافة الاعتدال والتسامح وفي عمان بالإضافة إلى المذهب الإباضي جميع المذاهب الإسلامية الأخرى وهي تعيش مع بعضها في وئام ومحبة وائتلاف منذ ألف من الأعوام أو أكثر ومن غير المسلمين هناك جاليات نزلت عمان وتوالى استقرارها بها على مدى العصور القديمة تعيش بأمن وسلام وسط المواطنين لا يشعرون بأي مضايقة أو تمييز ولعقائدهم كامل الاحترام.

وعمان كما يعلم الجميع فيها الصحراء الممتدة وفيها الجبال العالية وفيها البحر المتواصل والشواطئ الجميلة وفيها الكهوف العجيبة والمغارات الكبيرة العميقة وفيها تلال الرمال الناعمة اللينة وفيها حجارة الجبال الصلدة وفيها عيون المياه الشديدة الحرارة وفيها الأودية المتنوعة الأشكال وفيها من صنع الإنسان الحصون المنيعة والقلاع البارزة والقصور المنيفة الجميلة وفيها بعض الجزر المميزة أشهرها وأكبرها جزيرة «مصيرة» وفي عمان أنواع من الحيوانات والطيور والأشجار النادرة وكل هذه الأشياء تشكل أجزاء من ثقافتها على نحو أو آخر.

وعن عمان تحدث كثير من الجغرافيين والمؤرخين من غير أهلها من القدماء أمثال ياقوت الحموي وابن حوقل والإدريسي وابن الأثير والثعالبي والجاحظ وغيرهم ومن المتأخرين عشرات من الرحالة الذين قصدوها من شتى الأمم وأغلبهم أشاد بها وأثنى على أهلها أجمل الثناء ومن الذين زاروا عمان في العصور الحديثة وأغدقوا الثناء على العمانيين العلامة السيد محمد رشيد رضا وبرترام توماس ومايلز وتيسيجر وجميس مورس وإدوارد هند رسون وجون ولكنسون وعشرات غيرهم أدهشتهم عمان وبهرتهم طيبة أهلها واحتفائهم بزائر بلادهم أيا كان جنسه أو لونه أو عقيدته.

أما ثقافة عمان بمعناها العصري حسب المصطلح المتداول اليوم ففي مقدمتها الكتابة الإبداعية المتمثلة في الشعر وفي القصة وفي الرواية وفي المسرح وقد أصبح لدينا اليوم عشرات من المبدعين والكتاب المجيدين من النساء ومن الرجال تفاخر بهم عمان وقد فاز العديد منهم بجوائز مرموقة عربية وعالمية وصاروا أعلاما في الكتابة على اختلاف أنواعها وغدت مؤلفاتهم مثار الاستحسان في عواصم الثقافة العربية الكبرى كمثل بيروت والقاهرة والرباط وغيرها إضافة إلى الأكاديميين والباحثين المتحققين الذين تواترت كتبهم وأخذت أمكنتها بأرفف المكتبات ومنهم من تخصصوا في الترجمة من اللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية والألمانية وسواها من اللغات ومن ثقافة عمان المعاصرة في مجالات الفنون السينما والمسرح والموسيقى والغناء والرسم التشكيلي والتصوير.

ولكل هذه الإبداعات جمعياتها التي تتحرك من خلالها ومن أعضاء هذه الجمعيات من اشتهر وبرز حتى على المستوى العالمي ولا شك أن هذا الزخم الثقافي المحسوس في كل الأصعدة أساسه تشجيع الدولة واهتمامها ودعمها.

وفي عمان اليوم مؤسسات ثقافية لها حضورها وسعيها لإبراز الوجه الثقافي على أكثر من صعيد وفي مقدمة هذه المؤسسات المعنية بالثقافة وأحرزت الشهرة الأوسع مؤسسة «الأوبرا السلطانية» و«جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والأدب» فقد أعطت هاتان المؤسستان الكبيرتان لعمان سمعة ومكانة عالية رفيعة والفضل الأكبر في ذلك يعود للسلطان قابوس شخصيا ومتابعته المباشرة ومن مؤسسات الثقافة العُمانية وزارة التراث والثقافة وهيئة الوثائق والمنتدى الأدبي وكذلك النادي الثقافي ودور هذه المؤسسات مشهود مشهور وقد خدمت الثقافة أجل الخدمات.

ومعها الإذاعة والتلفزيون والصحافة وجامعة السلطان والجامعات الأخرى والكليات والأندية. والخلاصة أن ثقافة عمان التي أسسها أهلها منذ الأزمنة البعيدة قائمة على التسامح مع الآخر ومد يد الصداقة له ما لم يكن يحمل صفة الخبث والاعتداء سواء كان ممن جاء إلى عمان أو ممن التقاه العماني خارج وطنه وقد اصطبغ أجدادنا بهذه الثقافة الراقية التي مارسوها في أسفارهم الكثيرة عبر البحار وتعاملوا بها مع الآخر البعيد من بني الأمم المختلفة ثم جاءهم الإسلام بعد ذلك فعزز هذا السلوك لديهم ليصيروا مثالا حيا لكرم الأخلاق وحميد الصفات في كل زمن وكل قطر فما أجدرنا أن نقتفي خطاهم وأن نسير مسارهم. وعلى شبابنا أن يعتنقوا هذه الثقافة وأن يبسطوا أيديهم نحو الإنسانية جمعاء يأخذوا المفيد ويتجنبوا المضر ويبذلوا الخير ما استطاعوا لكل البشر دون النظر إلى العرق أو اللون أو الدين. وأن يفخروا ويعتزوا بادئ ذي بدء بعُمانيتهم الأصيلة الخالدة وبإرث عروبتهم الحضاري العريق مهتدين في الأول والأخير بقيم دينهم الإسلامي التي وسعت جميع بني آدم في كل بقعة من الأرض كإخوة في الإنسانية تربطنا بهم روابط المنافع المشتركة.