المنوعات

مرفأ قراءة.. نصر أبو زيد يَتَسَمَّع صخبَ ابن عربي!

04 يناير 2020
04 يناير 2020

إيهاب الملاح -

-1-

عشر سنوات تمرَّ هذا العام على غياب الباحث والمفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد (1943-2010)، ويبدو أن دار التنوير العريقة قررت أن يكون احتفالها بنصر مبكرًا، ومن خلال إصدار طبعة جديدة ومدققة من بعض أعماله المختارة واستهلتها بكتاب «هكذا تكلم ابن عربي»، الذي صدرت طبعته الأولى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 2002.

وليست هذه المرة الأولى التي تصدر فيها دار التنوير مؤلفًا لنصر أبو زيد، فكتاباه الأوليان (وهما العمدة له في الدراسات القرآنية والتأويل) صدرا عن دار التنوير أيضا في طبعتيهما الأولى، مطالع الثمانينات من القرن الماضي؛ وهما «الاتجاه العقلي في التفسير ـ دراسة في مفهوم المجاز عند المعتزلة» وهي في الأصل رسالته للماجستير التي ناقشها عام 1976، والثاني «فلسفة التأويل ـ دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي»، وصدرت طبعته الأولى عام 1982.

-2-

ورغم أن هذا الكتاب ليس الأول، ولن يكون الأخير، بطبيعة الحال عن ابن عربي، فإنه يبقى فريدًا في بابه، وفي دوافع مؤلفه للتأليف والكتابة، متميزًا بمنهجه وأدواته في قراءة وتحليل نصوص الشيخ الأكبر، فقد صحب أبو زيد كتابات وفكر ابن عربي سنواتٍ طوالًا أثناء إعداده لأطروحة الدكتوراه عن «تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي». يقول نصر «حين بدأت دراسة القرآن كما تم تأويله صوفيًا، وجدتُ نفسي مشدودًا لخطاب ابن عربي الصوفي الأندلسي المولود بإسبانيا، والمعروف بكتابه «الفتوحات المكية» (توفي في دمشق ودفن بها عام 638هـ) وقررتُ التركيز عليه في بحث الدكتوراه، واستطعت تقديم دراسة تأويل النص القرآني من منظور صوفي، نشرتها تحت عنوان «فلسفة التأويل»».

ولقد حكى نصر في أكثر من مناسبة طرفًا من معاناته وخبرته التي راكمها في قراءة نص «الفتوحات»، وأشار في ثنايا ذلك إلى الدعم المعنوي الذي تلقاه من بعض أصدقائه في الجامعة؛ مثل سليمان العطار، وأحمد مرسي، لمساعدته في قراءة المتن المكي الكبير، وفك رموزه وشفراته.

-3-

بعد عشرين عامًا من صدور كتابه المرجعي عن تأويل القرآن عند صاحب الفتوحات، سيصدر «هكذا تكلم ابن عربي» (يقع في 252 من القطع الكبير). كان السؤال: لماذا ابن عربي؟ ولماذا الآن؟ (وقت صدور الكتاب 2002).

يجيب نصر بأن الاختيار لم يأتِ محض مصادفة، ولا خبط عشواء لشخصية من التراث الإسلامي، كان لها مكانتها ومنجزها الفكري والحضاري الذي مثَّل قيمة إنسانية وحضارية ما زالت باقية، فابن عربي يمثل ذروةَ ما وصل إليه الفكر الإسلامي من نضج وعمق وبلورة رؤيةٍ للعالم، من خلال إسهاماته العديدة في جميع مجالات التراث الإسلامي، من فقه، وعلم كلام، وتصوف، وفلسفة، فضلًا على العلوم النقلية التقليدية؛ تفسير القرآن، وعلم الحديث، وعلوم اللغة، والبلاغة.

أيضًا من دوافع وأسباب هذا الاستدعاء والاستحضار في السياق العام، يقول نصر، إن فكر ابن عربي، الذي يعكس بانوراما الفكر الإسلامي كله في عصره، كان هو همزة الوصل بين التراث العالمي والتراث الإسلامي، بل إنه ساهم في إعادة تشكيل التراث الإنساني مؤثرًا فيه، بدليل دراسات المستعرب الياباني «تشيكو أوزوتسو»، والمستعرب الإسباني «آسين بلاسيوس»، ولعلنا نجد في استدعاء ابن عربي مع غيره من أعلام الروحانية، في كل الثقافات، وفي تجربته وتجاربهم، ما يمكن أن يُمثل مصدر إلهام في عالمنا.

أما استحضار ابن عربي في السياق الإسلامي راهنا، واستعادته من أفق التهميش إلى فضاء المتن مرة أخرى، فمهمّ للغاية، وذلك بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والأفكار والرؤى السلفية على مجمل الخطاب الإسلامي في السنوات الأخيرة. كما أن فكر ابن عربي يقدّم للقارئ غير المسلم صورة أخرى لروحانية الإسلام، وإسهاماته في التراث الإنساني، ويوضح مفهوم «الجهاد» الذي أصابه من التشوه الكثير».

سيقوم أبو زيد في بمحاولة طموح لاستكشاف ما قاله ابن عربي عن الحضارات والثقافات والأديان، بكونه -وهنا مكمن الأهمية- بعضًا من الردِّ على العولمة التي تطرح نفسها اليوم (2002)، سياسيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا، بوصفها «الدين الجديد للعالم».

-4-

سيعتمد نصر اعتمادًا أساسيًا على ما قاله ابن عربي على لسانه، من خلال نصوصه، فنتعرف عليه من خلال ما أخبرنا هو عن نفسه، الصورة التي رسمها الشيخ بنفسه لنفسه، وسيطرح نصر سؤالين جوهريين: لماذا اتخذت حياة ابن عربي هذا المسار الخاص (تجربته الروحية) رغم انتمائه لأسرة كانت كل ظروفها ترشحه للعمل في الديوان أو الانخراط في سلك الحياة العسكرية؟. والسؤال الثاني: هو إلى أي حد يعد هذا التحول في حياة الشيخ انقلابًا؟ وهل كان انقلابًا بالفعل أم كان تطورًا طبيعيا في بناء الشخصية؟

من خلال النصوص التي تتضمن وقائع يحكيها الشيخ عن حياته، وترتيبها زمنيا وتحليل محتواها، سيتتبع نصر أبو زيد سيرة ابن عربي. في الفصل الأول سيتتبع تحول الفتى ابن عربي، مما أسماه «الجاهلية» إلى طريق «الولاية» والذي بدأ في فترة مبكرة من حياته، بلا شيخ ولا معلم، وعلاقته بالشيوخ الذين يذكرهم بإجلال كبير، كانت علاقة ندية وتكافؤ.

في الفصل الثاني سيحاول نصر أن يجيب عن سؤال: لماذا رحل الشيخ عن الأندلس والمغرب إلى المشرق بلا عودة؟ وسيناقش رأي هنري كوربان عن عدم انتماء خطاب ابن عربي إلى عصره وإلى عقيدته؛ إذ سينظر نصر إلى الشيخ من جانب التاريخ بما يرتبط به من قيود الزمان والمكان، ويقرأ تجربة ابن عربي من خلال جدلية العلاقة بين الروحي الكوني، والتاريخي الثقافي.

وسيكشف نصر، من خلال تحليله الوافي الدقيق العميق، أن خطاب ابن عربي موزعٌ بين صفاء فكره وتعالي تجربته الروحية، وبين تجربة زمانه وانتمائه الثقافي والحضاري والديني. ويكشف عن تطور رؤية ابن عربي للواقع الذي رحل من مغربه إلى مشرقة، بحثًا عن خلاص فلما وجد الأمر في المشرق لا يقل سوءًا عنه في المغرب، فأدرك أن لا خلاص إلا باليقظة الكبرى.

-5-

من أمتع فصول الكتاب، الفصل الثالث المعنون بـ «اللقاء بابن رشد»، وهو الذي قدّم فيه أبو زيد تحليلًا بالغ الروعة والجمال والعمق لتلك المحاورة الشهيرة في التراث الإسلامي بين القطبين الفكريين الكبيرين، ابن عربي المتصوف، وابن رشد الفيلسوف، ذلك اللقاء الذي سجله ابن عربي في «فتوحاته» وروى فيه ما دار بينه، وهو في مستهل حياته الصوفية وبدء انخراطه في تجربته الروحية، وبين إمام العقلانية النقدية، ورافع لواء البرهان ابن رشد الفيلسوف.

ستكون مواجهة حاسمة وفريدة بين منهجين في النظر، ورؤيتين للعالم، منهج الصوفي في التعرف على الحقائق والتواصل مع الحق موجد الخلائق، وبين منهج «النظر» و«البرهان» الفلسفي في التعرف على أسرار الوجود، أو اكتشافها بطرائق المعرفة النقدية والتحليل العقلي. ومن خلال هذه السردية البديعة الفاتنة نجد أنفسنا في مواجهة فروقات واختلافات بينة وواضحة بين الفلسفة العقلية الأرسطية كما جسدها ابن رشد، وبين الرؤية الإشراقية والتصوف كما تمثلا في ابن عربي.

لقد كان آخر ما شاهده ابن عربي في الأندلس قبل تركها نهائيا هو جنازة ابن رشد الفيلسوف والقاضي، صديق والده. فهل كان ابن رشد آخر خيط يربط الشيخ بالأندلس وبالمغرب فلما انقطع الخيط، بوفاة ابن رشد قرر الرحيل بلا عودة؟.. كتابٌ يثير من الأسئلة أكثر مما يطرح من إجابات وهذه سمة الكتب الأصيلة والجادة.