أفكار وآراء

الضبابية الاقتصادية ومراكز التفكير الكبرى

01 يناير 2020
01 يناير 2020

مصباح قطب -

[email protected] -

لا تحصل مراكز التفكير - ثنك تانكس - العربية على ما تستحق من تقدير ، على أهمية الدور الذي باتت تنخرط فيه والتطور الذي حدث في بنيتها وقدراتها ومنتجاتها البحثية. قد يحدث وقد حدث أن تتداخل أجندات خاصة للممولين - وهم عادة دول أو ظلال لدول - مع توجهات ومنهجية العمل في أي مركز تفكير عربى - أو غير عربي - ما يضر بمكانه بكل تأكيد ، لكن الحاصل انه أصبح لدينا في المنطقة العربية عدة مراكز تفكير معتبرة وتؤكد جدارتها ومكانتها يوما بعد آخر حتى على صعيد التصنيفات الدولية المعنية بهذا الشأن.

تقليديا لا تعكس الصحافة أو الميديا عموما ما تقدمه تلك المراكز بالشكل الكافي لأسباب منها أن ميديا اليوم أصبحت تميل إلى ما خف وزنه بغض النظر عن بقية الوصف - أي وغلا ثمنه - وأن الصحفيين باتوا تحت ضغط العمل المكثف لملاحقة الأحداث وتلبية متطلبات الماكينة الإلكترونية الضخمة في مواقع صحفهم الإخبارية والتي عنوانها الأبرز «عاجل!» ، وحيث البحث عن التفوق في «الترافيك» يحكم الجميع تقريبا ، وأخيرا وليس آخرا فمراكز التفكير ذات العيار الثقيل لا تعنى كثيرا بالميديا فأساس عملها أن تقدم للمسؤولين والمعنيين خلاصات دقيقة ومتعمقة مشفوعة بتوصيات عن الموضوعات التي بحثتها أو طلب إليها أن تبحثها وهي غالبا ذات أبعاد استراتيجية وبعيدة المدى .

كان هناك وقت لم يكن فيه من مركز تفكير يعتد به في العالم العربي كله سوى «مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية» لكن منذ منتصف التسعينات بدأت الصورة تتغير ونشأت مراكز أخرى في مصر ذاتها وفي بلاد عربية عديدة وان كان لا يمكننا القول إنها كلها تقف على خط واحد من حيث المستوى أو المصداقية أو التأثير، ولكن باليقين يوجد منها ما لا يمكن لأي باحث أو صحفي أو سياسي جاد أن يغفل متابعتها.

والظاهرة المحيرة إنه حصل على مدار السنوات الماضية إن قامت مراكز تفكير قوية ومتزنة ثم استمرت لعدة سنوات ثم تلاشت فجأة لأن التمويل قل أو توقف ، وفي حالات أخرى حدث السقوط أو الاختفاء في حال التحيز الصارخ وقلة المهنية والمصداقية. وحتى لا يتوقف مركز له مكانة يجب إلا يعتمد منذ قيامه على مصدر وحيد في التمويل وأن يتمتع بالمرونة بحيث يتكيف مع المتغيرات دون أن يفقد سمعته تحت أي ضغوط سواء من الممولين أنفسهم أو من أطراف أخرى. ومن المهم أن تركز الدول على مساندة المراكز الدائمة ولا ضير في أن يكون بعض رجال الدولة - من أصحاب المناصب السابقة أو الحالية - ممثلين في مجلس الأمناء. توقف عمل مركز تفكير قوى خسارة كبيرة ولأنه بضدها تعرف الأشياء فإن إنشاء مركز يحظى بطلب على منتجاته وصدقية وقبول عام ويكون له تأثير في دوائر صنع القرار عمل ليس بالهين أبدا. وهناك طوال الوقت مقاييس معروفة لقوة أي مركز تفكير مثل كم مرة أخذت الإدارة أو البرلمان برأيه أو تم النقل عنه أو أجيب للنهج الذي اقترحه لعلاج مشكلة أو زراه وشارك في أعماله مشاهير في الفكر والخبرة السياسية والاقتصادية أو الاجتماعية. لقد عايشت أيضا تأسيس مركز تفكير بارز وهو المجلس المصري للشؤون الخارجية والذي تأسس في 23 ديسمبر 1999 وقد احتفل- منذ أيام - بمرور عشرين عاما على تأسيسه ولا زال قادرا على أن يؤكد أهميته بل وسيعقد قريبا جلسة خاصة لجمعيته العمومية لبحث أساليب تطوير العمل والعضوية والمخرجات. وقد حضرت مع عدد قليل من الزميلات والزملاء الصحفيين المؤتمر السنوي للمجلس والذي أقيم على مدى يومَي 23 و24 ديسمبر 2019، تحت شعار «أمن الشرق الأوسط.. الفرص والتحديات»، والذي شارك في أعماله نخبة من السفراء والأكاديميين والباحثين والمهتمين بقضايا مصر والمنطقة والعالم، وافتتح أعماله وزير الخارجية سامح شكري. ركَّز المؤتمر على المحددات الداخلية لأمن الشرق الأوسط، والجوانب الاقتصادية والسياسية والقانونية لملف غاز شرق المتوسط الذي يزداد تعقيدا يوما آخر، والرؤى الإقليمية لأمن الشرق الأوسط، الرؤى الدولية- الأمريكية والروسية والصينية بخاصة - لأمن المنطقة.

كان أكثر ما لفتني هو أخذ البعد العربي ، والإقليمي، في الاعتبار طوال الوقت وفى كل القضايا والتفاصيل وبدون طنطنة أي بدون صوت عال يؤكد على العروبة وأهميتها ، فالوطن العربي كوجود كلي وآمن وتكامل وفهم وعمل مشترك... حاضر بالسليقة في العقول التي تدير المجلس والخبراء الذين انتقاهم ليكونوا أعضاء أو متحدثين. أقول ذلك وأنا أرى انحسارا في جهات كثيرة في مصر وفي الدول العربية للتفكير من خلال المنظور العربي . ظهر أيضا أن التعامل مع الأمن بالمعنى الشامل يحتاج عناية ليس فقط بالقوات العسكرية أو الأمنية أو اتفاقيات ومعاهدات الدفاع - الغائبة أو المرجو حضورها عربيا - ولكن كذلك النظر المعمق إلى العوامل التي تؤثر بقوة على مركز الدولة - أي دولة - في المدى البعيد بالذات ومن ذلك مثلا التطور الديموجرافي ولم تكن صدفة أن يستعين المجلس بواحد من بين أبرز خبراء الديموجرافية العرب وهو الدكتور ماجد عثمان - وزير سابق - والذي قدم تفاصيل مقارنة مثيرة للغاية عن تطور السكان وخصائصهم في المنطقة وأظهر أن تركيا وإيران يحققان انضباطا سكانيا افضل من مصر ومن دول عربية كثيرة.

وقد قال المجلس نفسه في عرضه لنتائج المؤتمر: « أنه في الوقت الذي يتجه فيه معدل النمو السكاني إلى الانخفاض عالمياً وإقليمياً، يتجه المعدل إلى الزيادة في مصر في الفترة من 1990 - 2050 ، وكذا تركيا وإيران وإن كانتا بنسب أقل، وهي زيادة لم تقترن بارتفاع مماثل في مؤشرات التنافسية وجودة التعليم أو انخفاض في معدلات اللامساواة والبطالة، وبالتالي فقد تم التنويه إلى ضرورة الحذر من عدم تدارك تلك الأخطار مستقبلاً مع الزيادة السكانية والتي لا مفر منها، وانه إذا ما أرادت مصر تحقيق ريادة إقليمية، فهذا الأمر لن يتحقق إلا بتحسين جودة التعليم .

ركزت المداخلات كما لفتنا على نوعية التعليم في دول المنطقة ومكانة الدول في تقرير التنافسية في هذا الجانب بالإضافة إلى البحث العلمي والابتكار والإنفاق على التطوير ولا يمكن لأي عاقل أن ينكر تراجع وضع الدول العربية في هذا المجال بأي مقياس ( عدد براءات الاختراع أو الابتكار - الإنفاق على البحث العلمي كنسبة إلى الناتج المحلي ، وضع الجامعات في الدولة قياسا إلى جامعات المنطقة والعالم الخ ).

وارتبط الحديث بالتعليم بقضايا منها وضعية تمكين المرأة ومستوى مساهمتها في سوق العمل وتمثيلها في المؤسسات

المختلفة الخاصة والعامة ...التمثيلية أو التنفيذية ، وكذا إنتاجية العمل والبطالة وغيرها، وهي كلها كما يقول السفير منير زهران الرئيس الحالي للمجلس ( والممثل الشخصي سابقا لرئيس الجمهورية في مفاوضات تحرير التجارة العالمية ورئيس بعثة مصر في جنيف ومندوب مصر في مباحثات نزع السلاح سابقا أيضا...) تحديات خطيرة للأمن القومي للدول العربية ، أكبر بكثير من التحديات الخارجية أو مصادر التهديد الخارجي.

ولاحظ الجميع «أن التطور العلمي والتكنولوجي في إسرائيل يأخذ منحىً متطوراً للغاية، لاسيَّما وأنها تتلقى دعماً أمريكياً وغربياً غير محدود في هذا المجال وغيره. ما العمل حيال ذلك ومن أين نبدأ ؟ قدم المجلس إجابات ويجب أن يقدم غيره إجابات أخرى ولتلتقى العقول في منتصف الطريق والأهم أن يبدأ الساسة العمل بما تم الاتفاق عليه وبشكل لا يحتمل الإبطاء. تلك كانت أبرز الجوانب ذات الصلة بالاقتصاد ، وما أصعب ما سيمر به العالم من تقلبات في الاقتصاد والأعمال والتجارة والاستثمار ، وحيث ناقش المؤتمر جوانب سياسة وأمنية لا مجال لعرضها هنا.