الملف السياسي

دور الدبلوماسية في عصر الأزمات

30 ديسمبر 2019
30 ديسمبر 2019

عوض بن سعيد باقوير - صحفي ومحلل سياسي -

تلعب الدبلوماسية دورا حاسما على صعيد حل الأزمات الإقليمية والدولية وهناك نماذج عديدة على دور الدبلوماسية في إيجاد حلول سياسية لنزع فتيل الحروب والنزاعات التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية وصراع الحلفاء على المكاسب في آسيا وأفريقيا والمنطقة العربية من خلال اتفاق سايكس بيكو الذي قسم العالم العربي أو على الأقل الجزء الأكبر منه إلى مناطق نفوذ واحتلال للدول الاستعمارية آنذاك خاصة بريطانيا وفرنسا وحتى إيطاليا.

ولعل الحروب المدمرة في دول جنوب شرق آسيا خاصة الحرب الأمريكية - الفيتنامية والحرب الكورية والحرب في الفلبين ولاوس وكمبوديا علاوة على الصراع العربي-الإسرائيلي المتواصل منذ نكبة عام 1948 وحتى الآن مرورا بالحروب في أفغانستان واحتلال العراق وقبلها الحرب العراقية - الإيرانية وحروب الخليج الأخرى ونهاية بالحرب الأهلية في سوريا وليبيا والحرب على اليمن جعلت من دور الدبلوماسية أمرا في غاية الأهمية في السياسة الدولية.

ورغم الدور المنوط بالأمم المتحدة وخاصة مجلس الأمن الدولي لحفظ السلام والأمن الدوليين واتخاذ قرارات ملزمة تنهي تلك الحروب إلا أن المنظمة الدولية سجلت فشلا ذريعا خلال نصف القرن الماضي على الأقل وحتى على صعيد القضية الفلسطينية العادلة، ومن هنا برزت القوى الكبرى وعدد من الدول الإقليمية لفتح قنوات سرية غير معلنة وأيضا من خلال الدبلوماسية المباشرة لحل تلك الحروب من خلال المفاوضات المباشرة.

الدبلوماسية الوقائية

برز هذا المفهوم السياسي في السنوات الأخيرة وهو يعني أن يكون للدبلوماسية دور قبل انفجار الأوضاع من خلال المفاوضات وحل النزاعات والخلافات قبل أن تتطور إلى حرب ولعل النموذج الأمريكي-السوفيتي في ما سمي بأزمة الصواريخ في كوبا هو أحد الأمثلة لنجاح الدبلوماسية الوقائية لتجنب حرب نووية كانت ممكنة حتى اللحظات الأخيرة، ونجحت تلك الدبلوماسية في نزع فتيل تلك الأزمة الخطرة كما أن رياضة لبينج بونج وهي عمليه دبلوماسية حيث تم استخدام الرياضة لتشكل متغيرا مهما نجحت في إعادة التواصل بين الصين والولايات المتحدة سياسيا وعودة العلاقات بينهما، كما أن الحرب في فيتنام حُلت دبلوماسيا من خلال المفاوضات في باريس وهناك عشرات الأمثلة على مسألة الدور الدبلوماسي المتعدد الأطراف في إنهاء وحل النزاعات والحروب الإقليمية.

ما يدور الآن في ليبيا وسوريا واليمن سوف يحل من خلال الدبلوماسية لأن الخيار العسكري قد فشل والسبب يعود إلى الأطراف المتصارعة سواء من الداخل أو من الخارج، ومن هنا فإن الدبلوماسية لا تزال تشكل أهمية كبيرة في ظل تراجع منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية التي تضاءل دورها بشكل كبير ولم تعد ذات فاعلية تذكر وأصبحت أكثر بيروقراطية وترهلا وتحتاج إلى إصلاح حقيقي وتغيير ميثاقها والكثير من أدواتها.

النموذج العماني

ونحن نتحدث عن دور الدبلوماسية فإن السلطنة كان لها مساهمة دبلوماسية فعالة في عدد من المحطات الإقليمية والدولية، ولعل دورها الحيوي في جمع الخصوم خاصة الولايات المتحدة وإيران بعد عقود من العداء على طاولة الحوار في مسقط وبعد ذلك في عدد من العواصم الدولية لهو نجاح كبير للدبلوماسية العمانية الأكثر هدوءا في المنطقة والعالم وتعمل دون ضجيج إعلامي.

لقد كان موضوع الملف النووي الإيراني مع القوى العالمية من الملفات الصعبة والحساسة وكانت المنطقة في توتر كبير من خلال التحريض الإسرائيلي على شن حرب أمريكية ضد إيران خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ومن خلال جهود دبلوماسية عمانية نشطة بدأت منذ عام 2008 وخلال حكم الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد وحتى التوقيع على الاتفاق في فيينا عام 2015 حيث كان ذلك تتويجا لمسيرة دبلوماسية كبيرة تواصلت عدة سنوات، جزء منها غير معلن والجزء الآخر معلن بعد أن توصلت الأطراف إلى الاتفاق من خلال الجولة قبل الأخيرة التي شهدنا أحداثها في مسقط العامرة.

إذن يمكن للدبلوماسية المتعددة أو الفردية أن تلعب دورا مهما وحاسما للتوافق السياسي وهذا يعني قطع الطريق على التطورات السلبية التي قد تنزلق بالأطراف المتصارعة سياسيا إلى الحرب كما هو الحال بالنسبة للحروب القائمة.

ولا تزال الدبلوماسية العمانية نشطة خاصة في اليمن وأيضا على صعيد عودة العلاقات بين الأشقاء في المنطقة بعد اندلاع الأزمة الخليجية عام 2017 علاوة على ترحيب السلطنة المبكر منذ السبعينيات، بجمع دول المنطقة بمن فيهم إيران والعراق ودول مجلس التعاون على طاولة الحوار لإيجاد تفاهم سياسي ومنظومة أمنية لحماية الأمن والملاحة في منطقة الخليج.

هذا الحدث الواقعي الذي اقترحته السلطنة حدث عام 1976 وفي مسقط بوجود وزراء خارجية دول الخليج الست وأيضا إيران والعراق نتج عنه بيان مسقط الذي يدعو إلى إقامة منظومة أمنية وسياسية لإبعاد المنطقة عن أي توتر وأن تكون هناك علاقات طبيعية بين دول الإقليم.

الحروب الحالية في اليمن وليبيا وسوريا تعد ذات تكلفة عالية إنسانيا واقتصاديا وأخلاقيا وهي خسارة كبيرة لمقدرات الشعوب وفوق ذلك فإن حسمها عسكريا وفق تداخل المصالح المحلية والدولية أمر صعب، ومن هنا فإن النموذج الدبلوماسي العماني يعد الأكثر منطقية وواقعية وقبولا خلال العقود الأخيرة.

إن نجاح الدبلوماسية العمانية على عدة مستويات يعود إلى المصداقية والقبول والاحترام الذي تحظي به السياسة الخارجية ومبادئها الراسخة ومن خلال القيادة الحكيمة لجلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه - الذي جعل بلادنا في مكانة دولية يشار إليها بالبنان على كل الأصعدة، من خلال نشر قيم السلام والحوار والتسامح ولعل مشروع المؤتلف الإنساني لجلالته في جاكرتا مؤخرا يعطي دلالة على أهمية الحوار والتفاهم بين الشعوب في الشرق والغرب على حد سواء، وعلى ضوء ذلك فإن الدبلوماسية أصبحت هي الملاذ لإيجاد حلول واقعية وتخليص الشعوب من الآثار المدمرة لتلك الحروب خلال نصف قرن، ولعل دول جنوب شرق آسيا تخلصت من تلك الحروب في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي واتخذت الخط التنموي والسلمي كأداة لبناء تلك الدول التي أصبحت دولا اقتصادية مهمة في آسيا والعالم.

الإرادة السياسية

حتى تنجح الدبلوماسية المتعددة أو حتى الفردية لابد من توفر المناخ المناسب والرغبة للفرقاء وأن تكون هناك إرادة سياسية لقبول الحوار وربما يكون النموذج الكوري الشمالي-الأمريكي واحدا من تلك النماذج بصرف النظر عن التقدم أو النتائج السياسية، المهم أن فتيل الحرب تراجع ونحن نتحدث هنا عن مواجهة محتملة نووية بين واشنطن وبيونج يانج من خلال التهديدات المتكررة.

الأمم المتحدة عليها دور كبير لتنشيط دورها وخاصة مجلس الأمن الذي تحول بدوره إلى مناكفات سياسية بين واشنطن وموسكو بشكل خاص وبدلا من إيجاد حلول واقعية لتلك الحروب تتدخل المصالح ويكون الفيتو هو مصير أي قرار إيجابي يحل أزمة أو حربا.

كان يمكن أن تلعب الأمم المتحدة أدوارا حاسمة لحل النزاعات ولكن تضاءل دورها في السنوات الأخيرة وأصبحت الولايات المتحدة ومن خلال إدارة ترامب تصدر القرارات المصيرية في أزمة دولية حساسة تهم شعبا بأكمله وهي القضية الفلسطينية في ظل وجود قرارات الشرعية الدولية.

إن الأمم المتحدة تحتاج إلى مراجعة دورها في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين من خلال إعادة دور مجلس الأمن وهيكلة منظمات الأمم المتحدة، من خلال إصلاح حقيقي يعيد توزيع الأدوار في مجلس الأمن وبحث مسألة الفيتو الذي يستخدم تبعا للمصالح وخاصة لواشنطن وموسكو وهذه معضلة كبيرة حدت من دبلوماسية الأمم المتحدة، ولعل النموذج الليبي واضحا حيث تصاعد دور واشنطن وموسكو وحتى تركيا على دور مبعوثها غسان سلامة.

وعلى ضوء المشهد الإقليمي والدولي فإن العالم يحتاج إلى الدبلوماسية في سبيل إيحاد حلول لأزمات العالم السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية بعيدا عن سياسة النفوذ والأمر الواقع والأنانية السياسية لعدد من القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا ومن دون حل تلك الحروب والنزاعات فإن العالم قد يشهد المزيد من النزاعات والإرهاب وانتشار المزيد من الكراهية وصعود اليمين المتطرف في الغرب وهذا أمر لا يريده أحد.