الملف السياسي

عوامل الأزمة.. بين الالتزام السياسي والضعف الهيكلي

30 ديسمبر 2019
30 ديسمبر 2019

صلاح أبو نار -

في الثامن من أكتوبر تحدث السكرتير العام للأمم المتحدة انطونيو جويتريس حديثا مطولا، أمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة ببرنامج الميزانية المقترح لعام 2020، وجاء حديثه عن الوضع المالي العام للأمم المتحدة مزدحما بتعبيرات منذرة.

وفقا لتصريحاته شهدت الأمم المتحدة هذا العام أزمة سيولة حادة تمثل أسوأ أزماتها المالية على مدى العقد الأخير، الأمر الذي أرغمه مؤخرا على اتخاذ اتخاذ إجراءات تقشف صارمة، إلا أن الأخطر أن تواصل الأزمة بحدتها الراهنة سيؤثر حتما وبشكل جوهري علي التزامات المنظمة المشكلة لصلب دورها الدولي.

لم يحمل الحديث في جوهره مفاجأة، وكانت المفاجأة في تعبيراته وصياغاتها الحادة.

فنحن نستطيع أن نجد جوهر ما قاله في تصريحات سابقة له، والأهم في تقاريره الدورية عن وضع المنظمة المالي المقدمة للجمعية العامة، وعلى سبيل المثال تقريري «تحسين الحالة المالية للأمم المتحدة» في 26 مارس و10 مايو2019. ولكن بعد هذه التصريحات ازدحم الإعلام برصد تجليات الأزمة. السلالم والمصاعد الكهربائية ونوافير المياه التي أوقفت عن العمل توفيراً للتكاليف، ولافتات «خارج الخدمة» التي انتشرت داخل المبني تنبيها لقيود استخدام المرافق، والاجتماعات النهارية المطالبة برفع ستائر النوافذ لكي تعمل تحت ضوء الشمس بديلا للكهرباء.

وفي سياق تلك الصورة الكئيبة أخذت تستعيد ما ذكره جويتريس في بيانه، عن تقليص السفريات وعدم ملئ الوظائف الشاغرة، وإلغاء أو تأجيل اجتماعات بالكامل، وتقليص الدعم المالي للمؤتمرات، ومنع الأنشطة العامة في مبني الأمم المتحدة بعد السادسة مساء توفيرا للاستهلاك.

لا يشكل مصطلح الأزمة المالية وافدا جديدا علي عالم الأمم المتحدة. فنحن نجده متداولا منذ ستينات القرن الماضي في حد ذاته، أو عبر اقترانه بكل مبادرات ومقترحات تطوير الأمم المتحدة في سياق تناولها لإصلاح نظم المنظمة المالية. ولكن في التسعينات ومع نهاية الحرب الباردة وتداعياتها اصبح المصطلح اكثر تكرارا ويظهر في سياقات اكثر حدة. جاءت تلك النهاية معها بتصاعد الصراعات الإقليمية والأهلية ومعها تصاعد استخدام الأمم المتحدة لمهمات حفظ السلام، وتطوير وتكثيف برامج الأمم المتحدة في اتجاهات جديدة مثل المرأة والمجتمعات الأهلية وحقوق الإنسان والأقليات. وكل ذلك كان يعني توسعا في حضور ونشاط الأمم المتحدة، ودخولها في شبكات دعم واسعة ودائمة للمجتمعات المدنية، وما يترتب علي ذلك من تصاعد في الالتزامات المالية وبالتبعية الأزمات المالية.

ولكن أزمة الأمم المتحدة المالية وفقا للبيانات الرسمية تصاعدت على امتداد العقد الأخير.

في نهاية 2010 كان لدى المنظمة رصيد نقدي إيجابي قدره 412 مليون دولار، ولكن عام 2018 انتهى برصيد سلبي قدره 323 مليون دولار، أي انخفاض قدره 735 مليون خلال اقل من عقد. وخلال هذه الفترة تطورت نسبة الاشتراكات غير المدفوعة من إجمالي الاشتراكات، من 16.2% عام 2010 إلي 20.5% عام 2014 إلي 21.3% عام 2018، أي بنسبة الثلث تقريبا على مدى عشر سنوات فقط. وفي العادة تعاني المنظمة من عجز دوري، ناتج عن توقيتات سداد الأعضاء لالتزاماتهم المالية ويظهر غالبا في النصف الثاني للعام، وكانت تلجأ لسداده من خلال الصندوق المالي الخاص أو الحساب الخاص. ولكن خلال نفس العقد اخذ هذا العجز في التصاعد، ففي 2010 كان عجز الفترة من يونيو إلى أغسطس 797 مليون دولار، وقفز عام 2018 إلى 1243 مليون.

ويمنحنا تقرير الأمين العام المقدم في مايو 2019 صورة واضحة عن آخر عامين. في نهاية عام 2018 بلغت قيمة الأنصبة غير المسددة لحساب الميزانية العامة 529 مليون دولار، وانتهت الميزانية بعجز مالي مقداره 323 مليون دولار. وفي نهاية نفس العام بلغت قيمة الأنصبة غير المسددة لحساب عمليات حفظ السلام 1.5 بليون دولار. و يتناول نفس التقرير الوضع في عام 2019 ولكن حتي أبريل فقط، وبالتالي لا تحمل الأرقام دلالة هامة لان القاعدة هنا أن سداد الأعضاء يتكاثف في النصف الثاني من العام.

وهكذا سيكون من الأفضل أن ننظر إلى عام 2019 علي ضوء تصريح لكاثرين بولارد مساعد السكرتير العام، جاء فيه: «بحلول 9 أكتوبر وصلت الميزانية العادية إلى اقصى درجات عجزها بتسجيلها 386 مليون دولار عجزا، الأمر الذي دفعنا إلى استهلاك 150 مليون دولار من الصندوق المالي الدائم، و203 ملايين دولار من الحساب الخاص، و33 مليون دولار من حساب مهمات صنع السلام الخاص. وبنهاية أكتوبر نحن مهددين بتسجيل 488 مليونا عجزا، وقد نواجه خطر استهلاك احتياطيات حساب قوات حفظ السلام».

ولا تشير الأرقام السابقة إلي أزمة مستعصية. ولكن خطورتها لا تنبع منها في حد ذاتها بل من عوامل اخري. فهي تشير لاستهلاك أرصدة الصندوق الدائم والحساب الخاص، أي مصادر الأرصدة المخصصة لمواجهه مشاكل النمط الزمني لدفع الأعضاء لالتزاماتهم، والذي يمتد قانونيا على مدى عام. والأخطر أن هذا يحدث في ظل تصاعد ظاهرة التأخر عن السداد خلال العقد الأخير والمتوقع تواصلها، وشروع الولايات المتحدة، المسؤولة عن 22% م الميزانية العامة و28% من ميزانية قوات صنع السلام، في تخفيض مساهماتها وممارسة مناورات الامتناع المؤقت عن السداد.

ماهي العوامل التي تقف خلف الأزمة؟

إذا اتبعنا قاعدة رب البيت أدري بشؤونه، سيكون علينا رصد الأسباب داخل تقارير السكرتير العام. تمتلك هذه التقارير ميزة تركيزها علي مسؤولية نظم المنظمة الإدارية والمالية عن هذا العجز، لكنها في المقابل تتحدث بتحفظ يصل لدرجة الاستحياء عن مسؤولية الأعضاء ومستوى التزامهم، إلا انه تحفظ في الإبراز والاستفاضة التحليلية وليس في الإقرار بوجود المسؤولية. ولان الأسباب المحددة تشكل المداخل الأساسية للسبل المقترحة لتخطي المشكلة، سيكون من الأفضل أن ندمج تحليل الجانبين.

يشير جويتريس إلى تأثير ضعف كفاءة الإدارة المالية للمنظمة واضعا هذا الضعف على رأس العوامل. وفي نفس خطابه السابق صرح: الضعف البنيوي في الميزانية يخلق وضعا تتخطى فيه نفقاتنا مستوى الميزانية المقررة والمساهمات المجمعة. وفي تقريره بتاريخ 30 مارس طرح عدة مقترحات لمعالجة قصور الميزانية العامة. رفع مستوى أموال صندوق رأس المال الجاري، من 150 مليون دولار إلى 350 مليون دولار، بحيث يرتفع مستوى تغطيته للنفقات إلى 7 أسابيع بدلا من 3 أسابيع حاليا. والعمل على زيادة رصيد الحساب الخاص. ومعالجة أوجه الضعف المنهجي في الميزانية، بحيث تصبح بنود الميزانية مضمونة التمويل مقدما وفقا لمعايير حقيقية، وإنفاق الموارد المالية في حدود الحد الأقصى الذي تسمح به الميزانية، ومراجعة المبالغ المضافة في تقييم نصف سنوي. وفيما يتعلق بقصور تمويل قوات حفظ السلام طرحت عدة مقترحات. إدارة أرصدة كل عمليات حفظ السلام كرصيد مشترك، بحيث يمكن لأي عمليه أن تقترض وقت الحاجة من مخصصات الأخرى. وتحديد أنصبة العملية الواحدة، في إطار ميزانية عام مالي كامل وليس كما هو حاليا في إطار التجديد الميداني للولاية الزمنية للعملية ذاتها. وإنشاء صندوق رأس مال جاري لعمليات حفظ السلام لتوفير السيولة وتغطية العجز.

وماذا بشأن المقترحات الخاصة بمسؤولية الدول؟

لم يحظ هذا الجانب باهتمام مفصل، ويبدوا واضحا أن المنظمة تفضل تأجيل تناوله المفصل لأكثر من سبب. الانتهاء أولا من إخلاء مسؤوليتها عبر إصلاح نفسها ماليا، وتجنب معارك مع الدول الأعضاء في المرحلة الراهنة وعلى الأخص أمريكا، ستؤدي إلى تفاقم الوضع المالي.

وفي هذه الحدود تطرح المنظمة اقتراحاً محدداً يتعلق بنظام سداد الأعضاء لأنصبتهم. تنص القواعد المالية المنظمة للأمم المتحدة علي دفع الأعضاء أنصبتهم في مدى 30 يوما، ولكن عقوبات التأخير التي نصت عليها المادة 19 من الميثاق لا تنطبق إلا في حالة تراكم متأخرات توازي التزام عامين. وبالتالي تطرح حل تغيير نظام العقوبات بحيث يطبق على متأخرات سنة مع تحصيل غرامة تأخير، وهو أمر سيقلل معدلات عدم السداد. ولا تبدو هذه العقوبات حاسمة، ولكن مشكلة العقوبات الحاسمة أن الدول التي قد تتعرض لها مثل أمريكا يمكن أن يكون دعمها الطوعي للميزانية أعلى من التزامها القانوني بها، وبالتالي ستسفر العقوبات القاسية عن نتائج أسوأ.

والأمر المؤكد أن الأرقام الدالة علي حجم المشكلة المالية، تبدو تافهة للغاية إذا وضعناها مقابل أمرين. مساحة وعمق الدور الدولي الذي تقوم به الأمم المتحدة عبر برامجها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية بالتحديد، وحجم الانتكاسة التي سيواجهها هذا الدور إذا فشلت المنظمة في مواجهة ازمتها المالية.

ولكن من جهة أخري لا تبدو الحلول المقترحة أكثر من محاولة لاستعادة لنقطة توازن مالي، من المرجح اختلالها مجدداً مع تصاعد النزعات الصراعية والاستقطابية داخل النظام الدولي، أو أن يحل بهذا الدور قصور في النمو يجعله عاجزا عن مسايرة الاحتياجات العالمية المتطورة باستمرار.

ولكن النظرة الواقعية تدفعنا للإقرار بأن هذا أقصى ما يمكن أن تقدمه المنظمة من داخلها. والحل الجذري يكمن خارجها، أي في بناء تعددية دولية قاعدية وحقيقية داخل النظام الدولي والمجتمع المدني العالمي. تعددية قادرة علي نقل إرادتها داخل المنظمة الدولية، وإعادة تشكيل المنظمة التي لا تزال تعمل وفقا لقواعد المنتصرين في الحرب الثانية.