الملف السياسي

رغم أزمتها المالية الحادة.. الأمم المتحدة ستبقى حارسا للنظام الدولي

30 ديسمبر 2019
30 ديسمبر 2019

العزب الطيب الطاهر -

ليس ثمة قرارا أو بالأحرى إرادة سياسية دولية، لإجهاض أدوار الأمم المتحدة أو الحط من قدرها، من خلال اللجوء الى سلاح التخلف عن تمويل موازنتها، وإن كانت هناك قرارات تعبر عن ضيق أفق لدى بعض الأطراف، كما حدث خلال العام الحالي، فالمؤكد أن مختلف دول العالم تنظر اليها بحسبانها الحارس العام للأمن والاستقرار في العالم، لقد أضحت أمرا واقعا متغلغلا في المنظومة الدولية،

قبل نحو عامين، وفى حوار خاص مع أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية، بمكتبه المطل على النيل وميدان التحرير بالقاهرة سألته، ضمن قضايا عديدة بالطبع، عن مدى استجابة الدول الأعضاء لنداءاته المتكررة للمسارعة في سداد أنصبتها في موازنة الجامعة، وهو ما كان يشكو منه، منذ توليه مهام منصبه في يوليو من العام 2016، فأجابني قائلا: ثمة استجابة، ولكن ليس بالقدر الكافي على الرغم من الوعود المتكررة، من عدد من الدول المتأخرة أنصبتها بقيامها بسداد أنصبتها في موازنة الجامعة، وذلك على رغم وعى الدول الأعضاء، بأن الجامعة لن تستطيع الوفاء بمهامها على الوجه الأكمل، إلا إذا توافر التمويل المناسب لعملياتها، ثم أضاف: «نحن نعمل في إطار ميزانية محدودة نسبيا، لا تزيد عن 65 مليون دولار سنويا، وما يدفع منها سنويا يتراوح بين 30 و35 مليون دولار وذلك على الرغم من أن الناتج القومي الإجمالي العربي يتجاوز تريليوني دولار سنويا، وهو أمر لا يقارن على الإطلاق بالموازنة المخصصة للأمم المتحدة والتي تزيد عن 5 مليار دولار سنويا، بعيدا عما تحصل عليه من مساعدات ومعونات».

ثمة نقطتان جوهريتان في كلام أبو الغيط، الأولى: أن الجامعة العربية تكابد منذ سنوات معضلة تخلف بعض أعضائها، عن دفع مستحقاتها في موازنتها وهى - وفقا لمعلومات كاتب هذه السطور - ما زالت قائمة، بل إن دولا تمتلك القدرة المالية لم تدفع حصتها منذ أكثر من ثلاثة أعوام، الأمر الذي أثر بدون شك على بعض أنشطة الجامعة وفعالياتها وهو أمر بات ملحوظا.

والنقطة الثانية: إن الأمم المتحدة، وهى المنظمة الدولية التي تضم في عضويتها، نحو 193 دولة متراوحة المستويات التنموية، على عكس الجامعة العربية المنظمة الإقليمية التي تضم 22 دولة، باتت - أي الأمم المتحدة - تواجه منعطفا خطيرا في تمويلها، بعد أن أعلن أمينها العام «أنطونيو جوتيريش» في شهر أكتوبر المنصرم، متجليا ذلك في عجز مالي قدره 230 مليون دولار، وأن احتياطاتها المالية على وشك النفاد، وذلك ناتج عن أن الدول الأعضاء، لم تسدد سوى 70% من إجمالي المبلغ اللازم، للأنشطة المدرجة في الميزانية العادية للعام 2019، وحاول «جوتيريش» إقناع هذه الدول زيادة مساهماتها في المنظمة العالمية لتفادي المشاكل النقدية، لكنّها رفضت.

لكن للأزمة المالية الخاصة بالأمم المتحدة أبعاد أخرى، تتعلق بالدول الكبرى بالذات الولايات المتحدة وهي دولة المقر، والتي تمثل أكبر ممول للمنظمة الدولية، ومع ذلك فهي مدينة لها بأكثر من مليار دولار، فضلا عن ذلك فإن هناك أكثر من 60 دولة أخرى - رفضت السكرتارية العامة للأمم المتحدة تحديدها - متأخرة في سداد دفعاتها.

ولا يقف السلوك الأمريكي السلبي عند هذا الحد، فإن واشنطن تضغط باتجاه خفض مساهمتها في الميزانية التشغيلية لتكاليف عمليات حفظ السلام، التي تشرف عليها الأمم المتحدة والتي اقتربت خلال عامي 2018 - 2019 من 5.4 مليارات دولار، علما بأن الولايات المتحدة تدفع المساهمة الكبرى فيها، والتي تبلغ نسبة 22 في المائة، ووفق وثائق الأمم المتحدة، فإن الولايات المتحدة مدينة بمبلغ 2.3 مليار دولار لميزانية قوات حفظ السلام، ونتيجة لذلك تؤجل الأمم المتحدة المدفوعات إلى البلدان التي تساهم بقوات فيها، وقد وصلت مستحقات بعضها مثل بنجلاديش إلى مبالغ كبيرة، كما يعاني الصندوق المخصص لتغطية عمليات حفظ السلام من المشكلة ذاتها، وفي عام 2019، كانت فرنسا على سبيل المثال مدينة بمبلغ 103 ملايين دولار والمشكلة تكمن في أنه حسب مسؤول في الأمم المتحدة عندما يرفض الأغنياء الدفع، فإن الفقراء هم الذين يتحملون العبء.

والأخطر من ذلك قرار ترامب بقطع مساعدات بلاده لوكالة الأمم المتحدة، لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، والتي تصل إلى حوالى 240 مليون دولار سنويا، ما أرغم الأخيرة على إجراء تخفيضات عميقة، وجعلها في حالة عجز دائم، وإن كانت بعض الأطراف العربية والدولية، قد رفعت منسوب مساهمتها في ميزانية الوكالة، وثمة سبب سياسي وراء قرار ترامب في هذا السياق، يتمثل في محاولة دفع الأونروا للاستقالة من مهامها، المكلفة بها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفق القرار 194 الصادر في العام 1947، سعيا باتجاه محاولة شطب رقم اللاجئين من معادلة القضية الفلسطينية، لكن هذا النزوع الأمريكي تعرض لصفعة قوية خلال شهر ديسمبر الجاري، عندما مددت الجمعية العامة ولاية الأونروا ثلاث سنوات أخرى، عكس رغبة واشنطن وسلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي كانت تدفع باتجاه إلغاء هذه الولاية.

إن كل هذه المعطيات تنبئ عن أن الأمم المتحدة مقبلة، إن لم تتحرك دول العالم -خصوصا الكبرى- لسد العجز الحالي في موازنتها، على أسوأ أزمة مالية تتعرض لها منذ حوالي عقد من الزمن، بحسب رسالة بعثها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس للدول الأعضاء، والتي أعرب فيها عن القلق من احتمال حدوث اضطرابات على مستوى العالم، وقد تعرضت مرتبات نحو 37 ألف موظف، هم إجمالي العاملين بالمنظمة الدولية، لتداعيات سلبية خلال الفترة القليلة المنصرمة، كما قررت الأمانة العامة للمنظمة الدولية تأجيل مؤتمرات واجتماعات عدة وتخفيض عدد من الأنشطة والخدمات التي تقوم بها، مع حصر السفر الرسمي بالأنشطة الأساسيّة فقط، مع اتّخاذ تدابير لتوفير الطاقة، وذلك بهدف الحد من النفقات خلال الربع الأخير من السنة من بينها إغلاق السلالم الكهربائية المتوقفة في المقر الرئيسي للأمم المتحدة بنيويورك مع، غياب التدفئة المركزية، وحتى المطعم المخصص للدبلوماسيين بات يقفل أبوابه عند الخامسة مساء، بيد أن ذلك لا يشير إلى الأمم المتحدة، بصدد الدخول في مرحلة إفلاس، على نحو يلغي وجودها وحضورها وتأثيراتها على النظام الدولي الراهن، والتي تمثل منذ تأسيسها في 1945، رمانة الميزان في هذا النظام، على الرغم من كل الملاحظات والانتقادات، التي باتت توجه إليها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وشددت على ضرورة إجراء إصلاح هيكلي فيها، يدفع باتجاه توسيع العضوية الدائمة لمجلس الأمن، بحيث تشمل كل القارات والمناطق وإلغاء حق الفيتو، الذي توظفه الدول الكبرى، على نحو يحقق مصالحها دون أن تضع في اعتبارها مصالح الأطراف صاحبة الحقوق (أنموذج فلسطين)، والتي استخدمته واشنطن أكثر من 40 مرة. لإجهاض قرارات تندد بسياساتها وانتهاكاتها ضد الفلسطينيين.

وفق قراءتي، ليس ثمة قرارا أو بالأحرى إرادة سياسية دولية، لإجهاض أدوار الأمم المتحدة أو الحط من قدرها، من خلال اللجوء إلى سلاح التخلف عن تمويل موازنتها، وإن كانت هناك قرارات تعبر عن ضيق أفق لدى بعض الأطراف، كما حدث خلال العام الحالي، فالمؤكد أن مختلف دول العالم تنظر إليها بحسبانها الحارس العام للأمن والاستقرار في العالم، لقد أضحت أمرا واقعا متغلغلا في المنظومة الدولية، وفى كيانات الدول وفى القانون الدولي بكل تجلياته العامة والإنسانية، وبالتالي لا يمكن أن يتخلى عنها العالم، ولا شك أن جهود الأمين العام وحملته بالذات مع الدول الكبرى، والتي تتجاوز دخولها تريليونات الدولارات، ستسفر عن استعادة الزخم في توفير التمويل المطلوب ولو في حد أدنى، وإن كنت أشك شخصيا في إدارة ترامب والتي لن تبادر إلى إحداث تغيير جذري في مواقفها تجاه المنظمة الدولية، إلا إذا شغل البيت الأبيض رئيس من الحزب الديمقراطي خلال العام 2021، في أعقاب الانتخابات الرئاسية التي ستجرى خلال العام المقبل.