أفكار وآراء

النزعة الاستهلاكية.. مردها ثقافة المجتمع

29 ديسمبر 2019
29 ديسمبر 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

ينظر إلى معززات المعرفة بكثير من الأمل في تجاوز الـ «نزعة الاستهلاكية» عند أفراد المجتمع، وتبقى هناك مواجهة غير متكافئة بين الواقع وبين القناعات المتأصلة في الذاكرة الجمعية، هذا لا يكفيه الجهد الشخصي المحض، فلا بد من أن تتكاتف مجموعة من المؤسسات في هذا الجهد، بدءا من المدرسة، وأتصورها البيئة الأكثر قبولا وأثرا في ترسيخ قناعات ترشيد الإنفاق.

يقال؛ إن الإنسان مسرف بطبعه، وهذا الطبع إن لم يقنن عبر سلوكيات، وممارسات منذ النشأة الأولى في حياة الفرد، فسوف تتكرس الصورة النمطية عند الفرد، فكل ما يراه لا يرى فيه الكفاية، وتظل الرغبة تتملكه في الاستحواذ على كل شيء، فلا الضرورة توقفه عند حد معين، ولا الكفاية يرى فيها المنتهى لما يريد، فوق أنه يرى في الآخر قدوته، فبما أن فلان من الناس تجاوز الحد المعقول في إبداء ما هو قادر عليه، فلما لا يكون هو أيضا بذات المستوى؛ بغض النظر؛ إن كانت القدرات متساوية، والإمكانات متقاربة، ونتيجة لذلك يقع معظم الناس في مساوئ تصرفاتهم المبالغ فيها، في إبداء الكرم؛ على سبيل المثال؛ أو إبداء مظاهر الغنى كاللباس، والأثاث، والمقتنيات، والمركبات، وضخامة العمارة، وعلى الرغم من التجارب الكثيرة التي يعيشها الناس في مجتمعاتهم الصغيرة والكبيرة على حد سواء، إلا أن الصورة تكرر ذاتها، وبذات السياقات القديمة، دون أن يكون للمعرفة، وتأثيرات الوعي المختلفة أي دور من شأنه أن يحد من تجاوزات الإنفاق المبالغ في تقديره، وفي توظيفه، وفي تقنينه، وكأن الـ «نزعة الاستهلاكية» شر لا بد منه.

في تجارب شعوب كثيرة، أصبحنا؛ بحكم سهولة الإتصال والتواصل؛ نعيش تجاربها الإنسانية، انعتقت من كثير من متعلقات الماضي، وأصبحت تعيش صورا حديثة في شأن تعاملاتها مع الحياة اليومية؛ ويقينا؛ هنا لا ندعو إلى التقتير، وإلى البخل، وإلى الشح، وإلى المغالاة في تقنيات التعامل المادي، ولكن الدعوة تأتي إلى ضرورة المراجعة في شأن التحرر من متعلقات النفس الذاهبة إلى الـ «نزعة الاستهلاكية» وهي النزعة التي لا تزال تتمركز في مربعها الأول، حيث التبذير المبالغ فيه عبر ممارسات، وسلوكيات، ومظاهر لم تعد تثير الدهشة اليوم في عالم تتوغل فيه مفاهيم الرأس مالية، إلى حد بعيد، حيث تعمل الرأس مالية فعلها القاسي على الناس، فتدفع بهم إلى مزيد من تحمل الأعباء، هذا في الأشياء الضرورية، فما بالك في الأشياء الكمالية - غير الضرورية - والخسارة أكبر، عندما لا يعي الفرد أنه يغرق نفسه أكثر وأكثر كلما تجاوز الحد المعقول في الإنفاق؛ وفق إمكانياته الشخصية؛ وليس هناك من هو الأقدر على تحديد إنفاق الآخر، ومن هنا تكبر المسؤولية أكثر على الفرد في تحديد إمكانياته هو، وعليه أن يعي ذلك تماما، لأن الجري وراء مفهوم (فلان ليس أحسن مني، في كذا ... وفي كذا ...) يظل مفهوما «سفسطائيا» إلى حد بعيد، وهو لا يخرج عن مكابرة مذمومة، الهدف منها إثبات المواقف دون مرتكزات ثابتة، ومثل ما يقال بالدارجة العمانية «شحطة» لا أكثر ولا أقل.

تأتي الصور الاحتفالية كواحدة من الممارسات الاجتماعية المستمرة بين احضان المجتمع لتوقظ أكثر مختلف الـ «نزعات الاستهلاكية» حيث تحظى باهتمام كبير من كل المستويات الاجتماعية، ولأنها مناسبة فقد تظل الأكثر ممارسة في تكريسها، فمجموعة الصور الزاهية التي تعكسها هذه المناسبات هي التي تستفز ذلك الشيطان الاستهلاكي الصغير القابع في النفوس، حيث يتمدد أكثر مع توالي الإشادات من هنا، ومن هناك، فيفعل في النفس ما لا يفعله شيء آخر، عندها تغمض الأعين، وتسير بلا هدى، حينها تقع في مصايد كثيرة، وأولها أعباء الديون، وآخرها التقهقر شيئا فشيئا عن المشهد العام، الذي شهد أول منزلق لتداعيات الـ «نزعة الاستهلاكية» أمام الجميع، وحينها فقط؛ ربما يدرك المسرف، أنه الوحيد في ميدان الخسارة، والإنهزامية، وعدم القدرة على مواجهة الأقل سوءا بعد ذلك، والعاقل من يدرك ذلك قبل الإقدام أصلا على تجاوز قدراته لإرواء هذه المظاهر البراقة التي تبدو أنها زاهية، ولكنها في الحقيقة سحابة داكنة لا تمطر غيثا، بقدر ما تجدب محلا، وتورث يبابا.

ومما يؤسف له أكثر أن علاقات التضاد والتوافق في الممارسة العملية لحالتي الـ «نزعة الاستهلاكية» وترشيد الإنفاق، يدركها الكثيرون منا، ولكننا نغض الطرف في كثير من الأحيان إرضاء للمجتمع من حولنا، وقيمه المتسيدة والمستبدة؛ في آن واحد؛ ولذلك تكون الغلبة للأولى (الـ «نزعة الاستهلاكية») وكثيرا ما تتراجع الثانية (ترشيد الإنفاق) فـ «الطبع يغلب التطبع» كما هو المثل السائد، أيضا، ومن هنا نعود إلى رفع عتاب شديد اللهجة لثقافة المجتمع، ودورها المحوري الكبير في هذا الشأن، ونعي عميقا، أن التحرر من هذه الـ «نزعة الاستهلاكية» مرده ثقافة المجتمع، ولا بد من العودة مجددا إلى إرباك هذه الثقافة، وخلخلتها حتى يمكن تجاوز مختلف المظان التي تسقط ممارسات المجتمع غير الواعية في بئر لا قرار له، حتى يمكن أن للمجتمع أن يستفيق من هذه الممارسات التي لا تزال تعمق المسافة الفاصلة بين ما تدعو هذه الثقافة، وبين الواقع الذي يعيشه أفراد المجتمع اليوم، وهو واقع صعب، ويحتاج إلى كثير من المراجعة.

من يسعى نحو الرغبة يبقى عليه من الصعوبة بمكان أن يتحرر من الـ «نزعة الاستهلاكية»ومن يكتفي بالحاجة فقط، فيكون الأقرب إلى التخلص من الـ «نزعة الاستهلاكية» فما بين الرغبة والحاجة ثمة علاقة تضادية، وهي على قدر كبير من الأهمية، وهذه ليس يسيرا اكتسابها، فقد تحتاج الى كثير من الجهد وهو المتمثل في تولد القناعات، وهذه القناعات ذاتها تحتاج الى مجموعة من الخبرات الحياتية التي تمر على الفرد، حتى يستطيع أن يتحرر من كثير من الممارسات والسلوكيات السلبية، فالرغبة؛ كما هو معروف؛ تسيل اللعاب دائما، ولذلك تحظى بالقرب، بينما الحاجة تفرض نفسها بحكم الضرورة، ولذلك يقال في المثل الشعبي؛ عندنا هنا في عمان «الحاجة سوداء الوجه» لأنها تجبر الفرد المحتاج لأن يقع في المذلة والمهانة في بعض المواقف، ولذلك يكون العودة إليها؛ بحكم الظرف؛ في ظروف خاصة جدا، وقد تكون متباعدة، والسؤال: فلما يوقع أحدنا نفسه في منزلق الـ «حاجة» حتى يورط نفسه في هذا كله.

ضاعفت القروض الشخصية التي تروج لها المصارف من الوقوع في منزلق الـ «نزعة الاستهلاكية» فقد أقبل عليها الناس، بغير ترو، فالذاكرة تستحضر دائما القدرة على تجاوز القرض «الدين» ولذلك يقبل الناس على الاقتراض وهم مغمضو العين، ولذلك تتهم اليوم جل المصارف على أنها المروج الأكبر لـ «النزعة الاستهلاكية» كما تتهم دائما بأنها من أوقعت أناس كثيرون في مأزق الديون، فأصبحوا مأسورين لها إلى آجال غير مسمى، وكان الله في عونهم، ومن استطاع أن ينتزع نفسه أنتزاعا من هذه الإشكالية الموضوعية في مفهوم الـ «نزعة الاستهلاكية» فقد كسب رهان التحرر من كل الضوائق المادية، واستل نفسه أيضا من خندق الرغبة، واكتفى بالضرورة، ولن يلومه أحد في تخندقه الجديد، وفي ذلك مبلغ السعادة، كما أتوقع.

ينظر إلى معززات المعرفة بكثير من الأمل في تجاوز الـ «نزعة الاستهلاكية» عند أفراد المجتمع، وتبقى هناك مواجهة غير متكافئة بين الواقع وبين القناعات المتأصلة في الذاكرة الجمعية، هذا لا يكفيه الجهد الشخصي المحض، فلا بد من أن تتكاتف مجموعة من المؤسسات في هذا الجهد، بدءا من المدرسة، وأتصورها البيئة الأكثر قبولا وأثر في ترسيخ قناعات ترشيد الإنفاق، ويقينا ستؤتي ثمارها في حالة تبني الجميع هذا المسلك، فالناشئة مزرعة نشطة، وقدرتها على النمو سريعة، في استيعاب مختلف الرسائل، وأجدها الفرصة المناسبة لذلك، قبل أن يستلم المجتمع هذه النبتات الصغيرة، ويشوه محصولها المعرفي، فتجفيف منابع الـ «نزعة الاستهلاكية» تحتاج إلى كثير من الجهد؛ وفي مقدمتها القدوة، وهذه القدوة ليست مقصورة على العلاقة القائمة بين الأسرة والمجتمع، وإنما تدخل فيها المؤسسة الرسمية في مرحلة متقدمة من عمر الوعي الجمعي لدى الأفراد، على اعتبار أنها واحدة من منافذ الصرف «المهدر» في بعض الأحيان، كما هو التقييم المباشر، وعلى اعتبار على أنها واحدة من لها القدرة على ترشيد الإنفاق، إن انحازت إلى هذا المسلك الجميل، و« لكل مجتهد نصيب».