أفكار وآراء

المسؤولية الغائبة للدول الكبرى عن ضبط التسلح

28 ديسمبر 2019
28 ديسمبر 2019

د. عبدالعاطي محمد -

يعد سباق التسلح مؤشرا على حالة السلم والأمن الدوليين السائدة في العالم، فكلما تزايدت معدلات هذا السباق تراجع الشعور بهذه الحالة والعكس صحيح، وتنطبق نفس الملاحظة على ما تخصصه الدول الكبرى لموازنات الدفاع. وتشير تقارير الهيئات المتخصصة في بيع وشراء السلاح إلى أن حجم هذه التجارة بلغ مؤخرا أكثر من 1650 مليار دولار، في الوقت الذي رفعت الولايات المتحدة المخصص للنفقات الدفاعية للعام 2020 إلى 738 مليار دولار.

والمعنى أن العالم بوجه عام يعيش مرحلة يفتقد فيها إلى الأمن والسلام والقلق على المستقبل، كما يفتقد بوجه خاص إلى الثقة المتبادلة بين دوله الكبار.

وكان معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبرى) قد نشر تقريرا عام 2018 عن حركة بيع وشراء السلاح عن الفترة من عام 2013 إلى عام 2017 جاء فيه أن تجارة السلاح زادت خلال السنوات الخمس بنسبة 10%، وباعت الولايات المتحدة ثلث الأسلحة العالمية (34%) وذهب نصف صادراتها منها إلى منطقة الشرق الأوسط، بينما جاءت روسيا في المركز الثاني تليها كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا وهي أيضا من الدول المصدرة للسلاح إلى الشرق الأوسط الذي تعد المنطقة العربية جزءا كبيرا منه.

لقد كان من المفترض أن تتراجع هذه التجارة أو أن ينخفض سباق التسلح منذ بداية الألفية الثالثة التي استقبلها العالم بقدر كبير من التفاؤل نظرا لأنها تزامنت مع انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، وانتهاء حرب البوسنة والهرسك وفشل الدعوة إلى صراع الحضارات، وبداية حل الصراع العربي الإسرائيلي سلميا، وكذلك مع اضطلاع الأمم المتحدة بوضع مخطط للتنمية الشاملة للبشرية جمعاء قائم على التعاون بين الشمال والجنوب.

لكن ما حدث هو العكس تماما بسبب ظهور عوامل عديدة، على الأرجح لم تكن في الحسبان، منها الإرهاب، واندلاع ما يمكن تسميته بثورة القوميات، والتداعيات السلبية للعولمة على الصعيد الاقتصادي والهويات الوطنية. وعام بعد الآخر ظلت المخاوف الأمنية تتزايد عند الجميع في ضوء كل هذه المستجدات خصوصا من جانب الكبار الذين اختلت بينهم موازين القوى، وعند الدول التي تعرضت لأعمال الجماعات الإرهابية من ناحية ولتهديدات بانهيار أنظمتها السياسية من ناحية أخرى. وأصبحت منطقة الشرق الأوسط أكثر المناطق تعرضا للأزمات والصراعات التي فتحت الطريق للتدخلات الخارجية، وهو ما دفع لأن تكون أكثرها إقبالا على اقتناء السلاح.

في الحقيقة لم يكن المعنيون برصد سباق التسلح متفائلين كثيرا يوما ما فيما يتعلق بوقف هذا التسلح، لاقتناعهم بأن هذا الهدف يكاد يكون مستحيلا نظريا وعمليا استنادا إلى أن الصراع ملمح رئيس في العلاقات الدولية مما يفترض اللجوء دائما إلى القوة. ولكنهم اهتموا أساسا بضبط التسلح أي الحد منه فقط، وهكذا ظهرت الاتفاقيات الدولية المعنية بهذا الموضوع (بوجه خاص فيما يتعلق بالسلاح النووي). إلا أن المستجدات السابق ذكرها قلبت الموازين تماما فانفرط عقد الجهود الدولية وذهب كل في طريقه باحثا عن الضمانات التي تحميه منها بالتركيز على اقتناء السلاح، بل والتنافس الشديد في الحصول عليه. يضاف إلى ذلك أنه منذ البداية، أي فيما يتعلق بجهود ضبط التسلح، كانت هناك نظرية مضادة تماما لنظرية الأمن، ألا وهي الجانب الاقتصادي في القضية، حيث تم النظر للتسلح على أنه ذو مردود اقتصادي كبير للغاية مما يستوجب الانخراط فيه إلى أقصى حد. وقد أصبحت صناعة السلاح أقوى الصناعات العالمية ذات المردود الاقتصادي الضخم من ناحية، والقوة الدافعة للتقدم العلمي بفضل استثماراتها الكبيرة لإنتاج السلاح وارتباط صناعات واختراعات عديدة به من مجالات أخرى. وعمليا لاقت هذه النظرية رواجا مقارنة بالاعتبارات الأمنية فقط.

لم يقف الأمر عند الاعتبارات الأمنية والاقتصادية وحسب، بل ظهر عامل جديد دفع إلى تزايد معدلات سباق التسلح، وهو التطور العلمي المذهل في صناعات الأسلحة، فقد دفع التنافس السياسي والاقتصادي بين الدول الكبرى إلى حدوث خلل في توازن المنظومات العسكرية فيما بينها، حيث لم تعد أسلحة معينة صالحة لتحقيق التفوق مع التطور التكنولوجي والثورة الرقمية، واندلع سباق محموم للتوصل إلى منظومات جديدة متنافسة فيما بينها وسط مساحة مفتوحة لا سقف لها في هذا التنافس. ظهرت على السطح طائرات الدرون (المسيرة) والأقمار الاصطناعية للأغراض العسكرية وأنواع جديدة من الصواريخ والطائرات المقاتلة. وعلى سبيل المثال التنافس بين روسيا والولايات المتحدة فيما يتعلق بمنظومة أس- 400 الروسية وصواريخ باتريوت الأمريكية، والعمل على التوصل إلى أسلحة لإسقاط طائرات الدرونز وإبطال مفعول الأقمار الاصطناعية.

أيا تكن النظريات أو العوامل التي دفعت في السنوات الأخيرة إلى سباق محموم للتسلح، فإنها مفهومة ومقدرة لأن القضية لا تتعلق بالوقف وإنما بالضبط ليس إلا، فلا أحد يمتلك رفاهية مجادلة الدول في اقتنائها للسلاح، خصوصا أنه أمر من صلب سيادتها وأمنها القومي، وإنما المقاربة الأكثر منطقية هي تصحيح المضمون السياسي لقضية التسلح، والقصد أنه برغم الاعتراف بحق الدول في ذلك من الممكن تجنب التداعيات السلبية التي تترتب على سباق تسلح بلا ضوابط أو قيود، خصوصا أنها تداعيات صاخبة ومسببة للكثير من المشكلات التي كان بالإمكان الاستغناء عنها لو تحققت إرادة دولية قوية للتصدي لها، إرادة قائمة على الحوار والحفاظ على المصالح الوطنية والسلم والأمن الدوليين، الأمر الذي ليس قائما في الوقت المعاصر.

فمن ناحية أولى يؤدي التسلح بلا ضوابط والتزامات دولية جماعية إلى أن يصبح موضوعا للعدائية وليس للتنافس وفرق كبير بين المفهومين حيث يدفع الأول إلى ترجيح كفة المواجهات المسلحة بينما يؤدي الثاني إلى الحفاظ على روح التعاون. ومن ناحية ثانية يسمح غياب الإرادة الجماعية القائمة على الحوار والتوافق بفتح المجال لكل ما هو غير مشروع في تجارة ضخمة مؤثرة ليس فقط على الاقتصاديات الوطنية والعالمية وإنما على أمن البشرية جمعاء، ولهذا مظاهره القائمة فعلا، حيث تزدهر التجارة غير الشرعية للسلاح، وتتمكن الجماعات المحلية (أي التي من خارج نطاق الدول) من اقتناء السلاح دون وجه حق بالنظر إلى كون استخدام القوة المسلحة مقتصرا فقط على الجهات السيادية. شيء من هذا نجد مشاهده في قدرة الجماعات الإرهابية على امتلاك السلاح وبالتالي تفعيل أنشطتها الهدامة، وفي قدرة جماعات سياسية محلية في الحصول عليه لتحقيق أهدافها مما يؤدى إلى تأجيج الصراعات الداخلية.

ومن ناحية ثالثة يتم هدر القدرات الوطنية التي من المفترض أن تتجه إلى التنمية، وهذا بدوره يقود إلى اضطرابات اجتماعية تتسبب في عدم الاستقرار السياسي، ولهذا مشاهده العديدة من واقع ما يجرى في منطقتنا العربية على وجه الخصوص.

ومن ناحية رابعة يمثل خروجا على كل الاتفاقات والمبادئ التي أرساها المجتمع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سواء كانت صادرة عن الأمم المتحدة أو نتيجة تعاون الدول الكبرى فيما بينها.

الطريق إلى تحقق الإرادة الدولية الفاعلة ليس سهلا في ظل حالة الاستعصاء على التوافق القائمة بين الكبار، ولكنه في نفس الوقت لا غنى عنه بأي حال من الأحوال بالنظر إلى أن غيابه يضر بالجميع، ويبدأ بإحداث اختراقات حاسمة في الأزمات الإقليمية والدولية المعاصرة تتم بالتدريج حيث البناء على كل منها.

ولاشك أن أطراف الأزمات الإقليمية والوطنية يتحملون قدرا من المسؤولية بالتعاون والمشاركة في بناء هذه الإرادة، ولكن الجانب الأكثر حسما هو الأطراف الكبرى الدولية لأنها هي المنتجة والمصدرة للسلاح بالأساس، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار قوة تأثير النظرية الاقتصادية السالف الإشارة إليها والتي من المؤكد أنها تلعب دورا حيويا في موقف هذه الأطراف من صناعة السلاح.

ومن متابعة الرقم الضخم لمخصصات النفقات الدفاعية الأمريكية لعام 2020 والتي وافق عليها الرئيس ترامب يتضح اهتمام إدارته الشديد بالجوانب الاقتصادية في صناعة السلاح والتي يراها بالغة الأهمية للنهوض بالاقتصاد الأمريكي. ومن الصعب تفسير اهتمامه هذا من منطلق المخاوف الأمنية وحدها (القلق من صعود القوة الروسية)، وإنما لا بد أنه يضع القضية في إطارها الاقتصادي المحبب لديه أيضا. ومن الملفت أن هؤلاء الكبار هم أكثر الناس حديثا عن أهمية السلام والاستقرار والأمن والحد من النفقات الحكومية لتوفير الإمكانيات المادية للتنمية، ولكن من حيث الواقع فإنهم هم الذين يقودون سباق التسلح!

لقد أصبح تصحيح المسار واجبا أخلاقيا وسياسيا على الدول الكبرى.