ghada
ghada
أعمدة

ساراماغو: أنقى الملعونين

27 ديسمبر 2019
27 ديسمبر 2019

غادة الأحمد -

لعل أهمية نوبل تكمن في أنها تلقي العصا في أول الطريق، وما على القارئ من أي بقعة في هذا العالم إلا أن يفلسف السحر.

فما الذي جعل كاتبا ما من شرق الأرض أو من غربها من شمالها أو من جنوبها يحظى بتسليط الضوء على جمرة احتراقه، أم إنها اللعنة.

لا يمكنني أن أصف كل النوبليين بالوصف ذاته ولا يمكنهم أن يحدثوا فيّ درجة التأثير نفسها

هم أبناء شجرة واحدة ولكنهم مختلفون، وسأقول من دون أن أشعر بعقدة الذنب إن: جوزيه ساراماغو الكاتب البرتغالي من (1922-2010) هو أنقى الملعونين الذين قرأتهم وأكثرهم إصراراً على الحلم.

فهذا العصامي الفارع الذكاء والموهبة الذي أعطى الإنسانية ما يزيد على ثلاثين مؤلفاً في الرواية والشعر والمقالة والمسرح والذي باعت كتبه أربعة ملايين نسخة وترجم إلى أكثر من ثلاثين لغة، لطالما سكن مخيلتي بأفكاره ورؤاه الاستثنائية، بلغته وبأسلوبه المحرض منذ عمله الأول «سنة موت ريكاردو ريس» إلى العمى والكهف مرورا طبعا برائعته «الإنجيل بحسب يسوع المسيح» التي أثارت جدلاً واسعا في الأوساط الأدبية والإعلامية، وواجهت اعتراض الفتيكان على نيله «نوبل» عام 1998، وعلى ماركسيته.

لم يمتلك ساراماغو وهم تغيير العالم أو قلب الأنظمة بل أراد أن يقول حقيقة الأمور فحسب .. أن يشير بإصبعه إلى المشكلة.. أن يطرح السؤال الذي يقلق القراء المطمئنين البؤساء لكي يوقظهم يقول في كتابه «الوعي» الديمقراطية ليست نقطة وصول بل نقطة انطلاق لذلك أقترح التصويت بورقة بيضاء بدل الامتناع عن التصويت.

أعاب ساراماغو علينا استخدام عقولنا للتدمير أكثر ما نستخدمها للبناء ولانتهاك الحياة بدلاً من الدفاع عنها, كما انتقد أسلوب عيشنا الخاطئ الذي يفتقد إلى التضامن والواجب والاحترام وتحول مجتمعنا إلى عش أفاع، يقول في كتابه «العمى» الذي كان مثالاً لفقدان المنطق والعقل: «الكارثة التي قد تقع إذا تابعنا المسير في هذه الدروب!!»

ساراماغو لا يحصر المسؤولية بالأديب بل يلقي بها على الجميع. يقول ينبغي لنا جميعاً ان نشارك في عملية التغيير، الأدب وحده لا يستطيع فعل شيء، كل الأعمال الأدبية العظيمة التي كتبت على مرّ التاريخ لم تستطع أن تحول دون الوضع الكارثي الذي نعيشه، من الضروري أيضاً ألا ننتظر وصول «مخلص» ما، يأتي ليحل جميع مشاكلنا. ويقول لنا علينا أن نمشي في هذا الاتجاه، لا أحد يملك الحق في أن يقول: تلك هي الدروب الصحيحة «في وسعه أن يقترح ربما، ولكن في سبيل المناقشة لا الفرض. أفضل ما نملكه جميعاً بين أيدينا هو الشك، لا اليقين، الشكوك هي التي تدفعنا إلى التفكير، أما اليقين فيتسبب بالشلل والجمود».

لم يستطع ساراماغو أن يخفي دهشته واستنكاره لما شهده في الأراضي الفلسطينية المحتلة أثناء زيارته لفلسطين، قال حينها: «رأيت في فلسطين أناساً مجبرين على العيش كمنفيين على أرضهم، وما لا أستطيع فهمه في هذا النزاع بالذات، هو عجز الإسرائيليين عن استخلاص دروس إنسانية وتسامح من العذابات التي عاناها الشعب اليهودي، بل على العكس من ذلك، هم عانوا التمييز والتعذيب، فدأبوا في ممارستها بدورهم».

موقفه هذا دفع الإعلام الإسرائيلي إلى محاربته و مقاطعة كتاباته وكذلك فعل أعضاء برلمان الكتاب العالمي إذ دعوا إلى نبذه وعدم الوقوف إلى جانبه.

ظل ساراماغو وفياً لما أراد، أراد أن يكون كاتباً فثمة أحلام تحتاج إلى الوقت كي تنضج على الشجرة، ومنها حلمه، لم ينضج في خمسينياته بل انتظر طويلاً وكان في انتظاره سيلٌ من الكتابات.

ليس السر في توهج كتاباته، بل السر في أنه سعى في كتاباته إلى ما هو أثمن من اللقب سعى إلى خير الإنسان، سعى إلى إقامة السلام على هذه الأرض كحق مشروع لكل فرد وكشرط أساسي لتحقق إنسانية الإنسان.

يقول: بعد موتي، قد يذكرون في الصحف أني كنت كاتباً ونلت جائزة نوبل للآداب ولكن إذا كان من الممكن أن يضيفوا إلى هذه المعلومة أني ساهمت بشكل ما في تعزيز السلام على هذه الأرض أتمنى أن يوردوا هذه الجملة قبل خبر نوبل.