Ahmed
Ahmed
أعمدة

نوافذ :الفرد الـ «غنفق»

27 ديسمبر 2019
27 ديسمبر 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

الغنى والفقر؛ هما قدران من الله تعالى، لا أحد يجادل في حقيقة وجودهما في واقع الناس، وإذا كان هناك تفاوت في الفهم وفي التقييم، حول المعنى اللغوي والمصطلح العلمي، فذلك مرده إلى مستوى الوعي عند كل فرد، فكل واحد منا له مقاييس معينة للغنى، وله مقاييس معينة للفقر، فمنا من يربط كلا الفهمين بالمقدرة المالية؛ فقط، ومنا من يربطهما بالذخيرة الأخلاقية، ومنا من يربطهما بالاتساع في العلاقات القائمة بين الفرد ومن حوله، ومنهم من يربطه بمستوى التسامح الذي تعيشه نفسية هذا الفرد، فكل هذه المفاهيم والرؤى تتمثل فيها حالتي الغنى والفقر، وبشيء من المراجعة، أتصور أن الكل يعي مظان هاتين الكلمتين التي حمل العنوان دمجهما بـ «غنفق» أي (غني وفقير).

السؤال: هل كل منا يعي جوانب الغنى في نفسه، وجوانب الفقر؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ كيف يستطيع أن يعزز جانب الغنى، ليبقى، ويحد من جانب الفقر، ليزول؟ والسؤال الثالث: أي غنى نريد؟ وأي فقر لا نريد؟ والعكس صحيح أيضا؟ لأن هناك غنى مخيفا، وهناك فقرا محببا، ولا تؤخذ المعاني الضمنية على إطلاقها، فالمال مهم، ولا أحد يجادل فيه، ولكنه عندما يذهب بنا إلى الهلاك؛ بسوء تصرفاتنا غير الواعية، فإن الفقر أفضل منه، وأجدى، وكم أناس أوردهم الغنى مواضع السوء، وتمنوا حالهم يوم أن كانوا فقراء، فالمال مارد مخيف، إلا لمن رحمه الله، وكذلك الفقر أيضا لأنه يورد صاحبه؛ أحيانا؛ موارد الذل، خاصة لأولئك الذين لا تقوى أنفسهم على الصبر، والتحمل، وإذا أسقطنا كل المفاهيم الإنسانية والمادية على حد سواء، لمقياس الغنى والفقر، والمبالغة في أي طرف منهما، أوشكنا؛ حقا؛ أن نقع في مطب المفهوم الذي تحمله جملة «الفضيلة بين طرفين؛ كلاهما رذيلة».

لعل أقسn الفقر؛ هو فقر القيم الإنسانية، مع التسليم أن القيم الإنسانية قيم فطرية، وليست مكتسبة، فدماثة الخلق، والتسامح، والرضا، وقبول الآخر، والصدق، والأمانة، والتعاون، والبذل، ومساعدة الآخر، والكرم، والشجاعة، والنبل، والوفاء، والاعتراف بالفضل؛ ولو كان يسيرا، وغيرها، هذه كلها فطرية المنشأ، وتوظيفها على الواقع هو الذي يعكس غناها عند هذا الفرد أو ذاك، وتأتي القيم النقيض لكل ما ذكر، وهي التي تحمل الجانب السيئ في التوظيف، هي أيضا قيم فطرية غير مكتسبة، وإنما وجدت الأرضية المناسبة لتوظيفها على الواقع، وهذه إشكالية بشرية بامتياز.

حالة التناقض هذه التي نعيشها كثيرا ما تربكنا في تعاملنا مع الآخر، فمن جانب نريد أن نكون مع هذا الآخر، نؤازره، نتعاون معه، نتكاتف معه، نلثم أي ثغرة يكون فيها في حالة فقر، ولكن في المقابل تعاندنا أنفسنا «الأمارة بالسوء» وبصعوبة بالغة؛ بالكاد؛ نتصالح معها، ويأتي النداء «أليس فيكم رجل رشيد» لأننا نظن ظنا يقينيا أننا سنكون في ذات المأزق ذات يوم، والأيام «دول؛ يوم لك ويوم عليك» ولعل المقاربة تكون قاسية عندما نكون في ذات المأزق ذات يوم، ويكون حالنا كما هو المثل التونسي - الذي أورده المفكر منصف المرزوقي في كتابه (من الخراب إلى التأسيس) والذي نصه: «طير يغني وجناحه يرد عليه» حيث البقاء وحيدا في الميدان.

يقول مثل آخر: «اعمل الخير؛ وارمه في البحر» بمعنى لا تستجيب لفقر نفسك الأمارة بالسوء، فلربما خير فعلته اليوم، يأتيك جزاؤه غدا من حيث لا تدري، ولا تركن إلى نداءات النفس كثيرا، فهي المستشعرة دائما حالة الفقر: في المال، وفي القيم، وفي ضيق الرؤية، وفي قصر الحلم، ولا تسعى أبدا إلى المساحات الواسعة التي تتسع لجميع ما نريد، وما نأمل، ولعلها الفطرة الإنسانية ذاتها هي جزء من الخليقة، وإن لله في خلقه شؤون.