الملف السياسي

تمهيد قوي لتحديد آفاق قضايا حيوية عديدة !!

23 ديسمبر 2019
23 ديسمبر 2019

د. عبد الحميد الموافي -

بالرغم من أن العام كوحدة زمن يظل مدة غير طويلة بالنسبة لحياة الدول والشعوب، سواء في المنطقة أو خارجها أيضا، إلا أن التسارع المتزايد للأحداث والتطورات، في المنطقة وعلى امتداد العالم، يجعل من العام امتدادا ومسافة زمنية كافية في أحيان كثيرة للتعرف على اتجاهات التطورات في منطقة معينة، وما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع فيها، وذلك على ضوء القراءة المتأنية والمترابطة للأحداث والتطورات، والمستندة إلى حقيقة أن الأخذات والتطورات في صيرورتها ليست متقطعة أو منفصلة عن بعضها البعض، ولكنها مترابطة ومتفاعلة ومتتابعة على نحو يجعل من اليوم ابنا للأمس، ومن الغد ابنا لليوم إلى حد كبير، مع عدم إغفال الآثار المترتبة على الأحداث الكبرى المفاجئة أو غير النمطية إلى حد كبير وما يترتب عليها من آثار ونتائج قد تمتد إلى دوائر عدة حول مركزها.

وفي هذا الإطار فإنه يمكن القول بأن عام 2019 الذي يلملم أوراقه سريعا، لينتقل إلى حيز التاريخ، وليفسح المجال أمام عام جديد، يتطلع إليه الكثيرون بأمل وتفاؤل، مهما كانت الأوضاع وطبيعة الأحداث الجارية، كان عاما مهما ومؤثرا الى حد كبير على مختلف المستويات، محلية وخليجية وعربية وإقليميه ودولية أيضا، وذلك في ضوء ما شهده ولا يزال يشهده من تطورات وتفاعلات، تطرح آثارها اليوم وغدا وبما يشكل قاعدة، أو على الأقل ركيزة وتمهيدا قويا بالضرورة لآفاق العام القادم 2020 ومع الآمال الطيبة لملايين البشر في المنطقة وعلى امتداد العالم في حياة أفضل، الا أن الوقائع تفرض نفسها ومنطقها في النهاية.

ولعله يمكن الإشارة باختصار شديد الى عدد من أبرز الجوانب، على المستويات المختلفة وعلى سبيل المثال لا الحصر، ومن أبرزها ما يلي:

أولا: أنه مع إدراك حقيقة أن التطورات المحيطة، خليجيا وإقليميا وعربيا ودوليا تطرح ظلالها وآثارها المباشرة حينا وغير المباشرة أحيانا على الاوضاع الداخلية للدول المختلفة ومنها السلطنة بالطبع، الا ان تلك الظلال والآثار تظل مقيدة عادة بمدى القوة والقدرة الداخلية والتماسك الذي يتمتع به المجتمع والدولة وسياساتها، باعتبار أن قوة الدولة وقدرتها تبدأ عادة من الداخل، وفي ضوء هذا المعيار العام المعروف والراسخ أيضا، فانه يمكن القول، ودون أية مبالغة، أن عام 2019 كان عاما على جانب كبير من الأهمية على صعيد العمل بوعي وإرادة قوية من أجل تمتين قدرة الدولة العمانية ومقدرتها على التعامل مع مختلف القضايا والتطورات، وذلك باعطاء أولوية كبيرة، بل وحاسمة وبتوجيهات سامية لتبني خطوات وبرامج ومبادرات عملية ومدروسة للتصدي لموضوعات فرضت وتفرض نفسها، وفي مقدمتها قضايا الشباب وإيجاد فرص عمل لأكبر عدد ممكن من الباحثين عن عمل، ومواجهة العجز في الموازنة العامة للدولة، والناتج الى حد كبير من انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، خاصة وأن توجيهات جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - أكدت على ألا يؤثر ذلك على الانفاق الاجتماعي في الموازنة العامة للدولة، وألا يتم تخفيض مخصصات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وهي سياسة ونهج تبناه جلالته منذ الانخفاض الشديد في أسعار النفط في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ولا تزال حكومة جلالته تلتزم به، انحيازا لصالح المواطن وحفاظا على أفضل مستوى معيشة ممكن في ضوء الامكانات المتاحة، وسيرا أيضا نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة في مختلف محافظات وولايات السلطنة. وانطلاقا من تأكيد جلالته «أننا آمنا بأن العنصر البشري هو الأساس في تحويل أحلامنا الى واقع نعيشه ومن هنا كان بناء البشر هو هاجس الدولة العمانية». فان العناية بالمواطن العماني، امتدت من التعليم والتدريب والتشغيل، الى الصحة والثقافة والرياضة، والأخذ بيد الشرائح الأضعف في المجتمع و تمكينها من الاستفادة بثمار التنمية الوطنية، ليس فقط بتقديم المساعدات الضرورية لها، ولكن أيضا بالاسهام الواسع في تمكين ابنائها من مواصلة التعليم الى المرحلة الجامعية وما بعد الجامعية للنابهين منهم، ليسهموا بقوة وكفاءة في تحقيق أهداف التنمية الوطنية في مختلف المواقع.

وتجدر الاشارة الى أنه تم انشاء المركز الوطني للتشغيل بموجب المرسوم السلطاني السامي رقم (22/‏‏2019) الصادر في 28/‏‏2/‏‏2019، وسيبدأ المركز الوطني للتشغيل في تنفيذ خطة عمله اعتبارا من الاول من يناير القادم، بما في ذلك آليات تفعيل مسارات التشغيل خلال الفترة القادمة والتي تقوم على التكامل بين القطاعات الاقتصادية الرئيسية، بما فيها القطاع الخاص، لتوفير فرص العمل وتطبيق سياسات التعمين، وبأن يكون المركز «واجهة رئيسية للتشغيل سواء بالنسبة للباحثين عن عمل أو الجهات الموفرة لفرص العمل في القطاعين الحكومي والخاص» وفقا للبيان الذي أصدره المركز الوطني للتشغيل قبل أيام.

وفي حين يشكل انشاء المركز الوطني للتشغيل نقلة نوعية في مجال التعامل مع تشغيل الباحثبن عن عمل، سواء من حيث تسجيل الباحثين عن عمل وحصر اعدادهم بشكل دقيق، أو من خلال تسجيل وحصر فرص العمل المتاحة والمتوفرة والتي تتوفر تباعا في مختلف المجالات في القطاعين الحكومي والخاص، واتباع سبل فعالة لاستيعاب أكبر عدد من الشباب الباحث عن عمل وفق ضوابط واجراءات معلنة وشفافة، فإن هذا العام 2019 شهد أيضا اصدار عدة قوانين لتعزيز مناخ الاستثمار في السلطنة ولزيادة قدرتها على جذب المزيد من الاستثمارات وتهيئة الاقتصاد العماني للانطلاق بقوة أكبر نحو مزيد من التقدم والازدهار، وفي هذا الاطار تم في الاول من شهر يوليو الماضي اصدار قانون استثمار رأس المال الاجنبي، وقانون التخصيص، وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وقانون الافلاس، وكذلك انشاء الهيئة العامة للتخصيص، وقد تم بالفعل البدء في خطوات التخصيص بالنسبة لقطاع نقل الكهرباء وسيتم طرح بعض المشروعات للتخصيص وفق استراتيجية الدولة في هذا المجال، وبما يحفز الاستثمارات ويعود بالفائدة على الاقتصاد والمجتمع العماني.

وفي حين شهد عام 2019 اجراء انتخابات اعضاء مجلس الشورى للفترة التاسعة، والتي جرت في 27/‏‏ 10/‏‏ 2019، والتي أسفرت عن انتخاب 55 عضوا جديدا منهم امرأتين لعضوية مجلس الشورى للفترة التاسعة واعادة انتخاب 31 عضوا من أعضاء المجلس السابق، والتي تميزت باقبال كبير (49%من الناخبين الذين لهم حق التصويت) وكذلك تشكيل مجلس الدولة للفترة السابعة، فإن جلالة السلطان المعظم أصدر مراسيم سلطانية تم بموجبها انشاء وزارة التقنية والاتصالات (المرسوم السلطاني 63/‏‏ 2019) وتعديل اسم وزارة النقل والاتصالات لتكون وزارة النقل ( لمرسوم السلطاني 64/‏‏2019 ) وانشاء وزارة شؤون الفنون ( المرسوم السلطاني 65/‏‏ 2019 ) وذلك في 14/‏‏ 10 /‏‏2019، وهو ما يصب في الواقع في التهيئة للسير بخطى أسرع وأكثر انطلاقا، وبآفاق أرحب نحو تحقيق اهداف التنمية المستدامة والتهيئة للبدء في تنفيذ الرؤية المستقبلية «عمان 2040» اعتبارا من اول عام 2021.

ومن المعروف ان هذا العام شهد خطوات متتابعة نحو صياغة الرؤية المستقبلية «عمان 2040» وفق الاسس التي وجه بها جلالة السلطان المعظم، وبمشاركة مجتمعية واسعة النطاق، تجسدت في جانب منها في المؤتمر الوطني للرؤية المستقبلية الذي عقد في 27/‏‏ 1/‏‏ 2019. وقد شهد هذا العام زخما تنمويا واضحا وملموسا ايضا، برغم عدم تحسن أسعار النفط بالشكل المأمول، كما استمرت الجهود المنظمة والمتكاملة في اطار سياسة ترشيد الانفاق الحكومي بقدر الامكان ودفع سياسة تنويع مصادر الدخل القومي في اطار البرنامج الوطني لتنويع مصادر الدخل القومي ( تنفيذ) واللجان المنبثقة عنه في مختلف القطاعات.

وبينما ابدى جلالة السلطان المعظم - ابقاه الله - « ارتياحه لما يبذل من جهود ادت الى الحفاظ على مسيرة التنمية الشاملة في البلاد وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وذلك من خلال تنويع مصادر الدخل وتشجيع كافة القطاعات ودعمها من أجل تحقيق التوازن المالي للتعاطي مع متطلبات كل مرحلة من مراحل الخطط التنموية للسلطنة... وتهيئة كل الظروف الملائمة للارتقاء بمستوى الأداء على كافة الاصعدة» وذلك خلال ترؤس جلالته لاجتماع مجلس الوزراء في 14 نوفمبر الماضي، فان الاجتماع الاخير لمجلس الشؤون المالية وموارد الطاقة اكد على الاستمرار في السياسات المالية المتبعة و المحققة للاستقرار المالي والاقتصادي ولترشيد الانفاق وتنويع مصادر الدخل القومي. وهو ما تمت مراعاته في مشروع الموازنة العامة للدولة لعام 2020.

وباختصار شديد فان عام 2019 هيأ على مختلف المستويات لأن يكون عام 2020 عاما محوريا، ليس فقط باعتباره آخر اعوام خطة التنمية الخمسية التاسعة ( 2016- 2020)، ولكنه ايضا آخر اعوام الرؤية المستقبلية «عمان 2020» التي بدأت عام 1996 واستمرت على مدى خمسة وعشرين عاما، والتي شهد فيها الاقتصاد العماني نقلة ضخمة وملموسة على كل المستويات، ومن ثم فانه من المهم والضروري ان يشهد عام 2020 تقييما موضوعيا وشاملا لرؤية «عمان 2020» للاستفادة من دروسها، وللبناء عليها ولتكون الرؤية المستقبلية «عمان 2040»، استكمالا وانطلاقا ايضا نحو مزيد من التقدم والاستقرار والازدهار للوطن والمواطن العماني ولتحصين المجتمع العماني بشكل أكبر وأكثر قدرة على التفاعل والتعامل مع أية تحديات، وبما يحافظ على منجزاته التي تحققت على مدى الاعوام الماضية.

ثانيا: على المستويين الخليجي والعربي فإنه في الوقت الذي اتسم فيه عام 2019 باستمرار السلبيات والمشكلات الحادة التي يعاني منها عالمنا العربي، ومنه منطقة الخليج العربية، بوجه عام، وعلى نحو اضاف مشكلات وتحديات لمزيد من الدول والمجتمعات العربية، بغض النظر عن التغيرات السياسية التي صاحبتها في استجابة الى نداءات المواطنين فيها، الا ان مجتمعات ودول عربية اخرى تواجه بالفعل تهديدات جدية، خاصة اذا لم يتم التوصل سريعا الى توافقات سياسية داخلية منصفة وملزمة لقواها السياسية بعيدا عن الاستقواء بالخارج من جانب أي فصيل، ومن شأن هذا الوضع ان يمتد بظلاله ومخاطره الى العام القادم 2020.

وفي خضم هذه التطورات الباعثة على القلق، فانه لم يكن مصادفة أبدا أن يكون الاسهام العماني طيبا وايجابيا على الصعيد الخليجي والعربي العام، وهو ما يعود بالأساس الى طبيعة السياسات والرؤية العمانية التي تؤمن بأهمية وضرورة العمل من اجل تجاوز المشكلات، عبر الحوار والمساعي الحميدة والحفاظ على العلاقات بين الاشقاء طيبة ومفيدة لكل الاطراف.

والى جانب الجهود والمساعي العمانية لدفع الاوضاع في اليمن الشقيق نحو التلاقي بين مختلف الاطراف والقوى اليمنية لتجاوز الحرب في اليمن والتوصل الى صيغ سلمية للحل تستوعب كل الاطراف اليمنية دون استئثار أو اقصاء، فان رئاسة السلطنة للدورة السابقة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية اسهمت بدرجة ملموسة في الحفاظ على منظومة مجلس التعاون والسير تدريجيا نحو التهيئة لحل الخلافات التي ادت الى مقاطعة قطر و التي ترتبت أيضا على تلك المقاطعة.

وفي هذا الاطار حرصت السلطنة وفي اطار مسؤوليتها كرئيسة لمجلس التعاون، أن تشارك كل دول مجلس التعاون في اجتماعات هيئات المجلس التي احتضنتها السلطنة هذا العام، والتي توجت بمشاركة كل الفرق الرياضية للدول الاعضاء في خليجي 24 بالدوحة، ثم جاءت قمة مجلس التعاون في الرياض في العاشر من ديسمبر الجاري، بمشاركة قطر لتشكل خطوة أخرة على طريق التهيئة لانهاء المقاطعة، خاصة وأن هناك جهودا عمانية وكويتية داعمة لهذا التوجه من منطلق الحفاظ على العلاقات بين دول وشعوب المجلس وما تتسم به من خصوصية.

ويشكل ذلك في الواقع أرضية يمكن البناء عليها للسير بخطى أكبر لحل الخلافات الخليجية والعربية، في ظل ما اظهرته مختلف الاطراف من استعداد ورغبة في تحقيق ذلك، وفق الاطر وقواعد التعامل الدولي المعروفة. ثالثا: على الصعيد الاقليمي والدولي، فانه يبدو أن عددا من الدول الاقليمية تريد مد نفوذها وتأثيرها في الشؤون العربية، بما يخدم مصالحها الذاتية وبما يمس بالمصالح العربية الجماعية والفردية، مستغلة الحالة التي تمر بها المنطقة العربية في هذه الفترة. ومع التأكيد على أن ذلك لا يمكن أن يخدم حاضر ومستقبل العلاقات العربية مع تلك الاطراف، حتى ولو حققت بعض النتائج لصالحها مؤقتا، بفعل التحالف مع اطراف داخل هذه الدولة العربية أو تلك لإضفاء شرعية ما على تحركاتها وتدخلاتها. فان طرح السلطنة «مشروع اعلان السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني» في العاصمة الاندونيسية جاكارتا في 16/‏‏ 11/‏‏ 2019 خلال الاحتفال العالمي باليوم العالمي للتسامح عبر عن الايمان العميق لجلالة السلطان المعظم بالقيم والاخلاق والتفاهم والتسامح بين الشعوب من أجل بناء حياة أفضل لكل البشر وعلى امتداد العالم، وهو ما يحتاجه العالم الآن لتجاوز المشكلات والصراعات الراهنة والتي تدفع الشعوب والانسانية جمعاء ثمنها غاليا.