الملف السياسي

اتجاهات النمو الاقتصادي العالمي والحرب التجارية

23 ديسمبر 2019
23 ديسمبر 2019

صلاح أبو نار -

أيام قليلة تفصلنا عن نهاية عام 2019 وبداية العام الأخير للعشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين. كيف تبدو مسيرة العام المنصرم وتوقعات العام الجديد على المستوى الاقتصادي؟ سؤال كبير. وسيكون من الأفضل أن نضيق نطاقه، ونجعله محصورا في قضيتين لا يختلف أحد على مركزيتهما وارتباطهما، وهما النمو الاقتصادي العالمي والحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين.

اتجه معدل نمو الاقتصاد العالمي خلال عام 2019 الى الانخفاض، مواصلا حركة انخفاض سجلها عام 2018 مقارنة بعام 2017. في عام 2019 حقق معدل نمو الاقتصاد العالمي 2.6% ، بعد أن كان من المتوقع أن يصل إلى 2.9%، أي أدنى 0.3% من المتوقع.

وكان معدل العالمي قد حقق 3% خلال عام 2018، مسجلا انخفاضا محدوداً عن العام السابق الذي حقق فيه نسبة 3.1%. وكان عام 2017 قد حقق طفرة نمو بمقدار نصف درجة مئوية، حيث كان معدل 2016 هو2.6% فقط . والخلاصة أن عام 2017 حقق قفزة نمو مقدارها 0.5% مقارنه بعام 2016، ولكن تطورات عامي 2018 و2019 جاءت سلبية، وتراجع النمو العالمي خلالهما بنسب 0.5% أي نفس القفزة التي حققها عام 2017. وتشير التوقعات إلى أن معدل نمو في عام 2020 سيرتفع الى2.7% عام 2020 ، وسيواصل الارتفاع إلى 2.8% عام 2021. وهي في كل الأحوال معدلات ارتفاع محدودة ، ستعوض أقل من نصف نسبة معدل النمو المفقودة في عامي 2018 - 2019 مقارنه بعام 2017. ولكن هنا يجب أن نتوقف ونبدي ملاحظة مهمة. وهي أن نسبة النمو الإيجابي المتوقعة خلال العامين القادمين، معرضة لعدم التحقق أي الثبات أو التراجع، وذلك بفعل محدوديتها ووجود هامش طبيعي لخطأ التنبؤ ودور عوامل السياق المفاجئة. ولقد رأينا مثلا أن نسبة نمو عام 2019 كانت أقل بمقدار0.3% من المتوقع.

وتؤكد أرقام معدلات نمو الدول دلالة المعدل العالمي العام ولكن مع اختلافات جزئية. في إطار اقتصادات مجموعة الدول المتقدمة ارتفع معدل النمو الأمريكي من 1.6% عام 2016، إلى 2.9% عام 2018، ليهبط 2.5% عام 2019، ومن المتوقع مواصلته للهبوط الى 1.7% عام 2020 ثم 1.6% عام 2021. والأمر نفسه سنجده داخل المنطقة الأوروبية. كان معدل نموها 2% في 2016، وارتفع الى 2.4% في 20017، ثم هبط الى 1.8 % في 2018، وواصل هبوطه في 2019 إلى 1.2%، لكن من المتوقع ان يرتفع في 2020الى 1.4% ثم 1.3% في2021. وبالنسبة لليابان كان معدل نموها 0.6% في عام 2016، وفي 2017 قفز الى 1.9% ليهبط الى 0.8% في 2019، ومن المتوقع مواصلته للهبوط أي 0,6% في 2021. والمسار نفسه سنجده داخل مجموعة الدولة الصاعدة والنامية المصدرة للسلع. في عام 2016 كان معدل نموها 1.6%، وارتفع إلى 2.2% عام 2018، ليهبط الى 2.2% عام 2018، لكن من المتوقع ارتفاعه الى 3.1% عام 2020. وفي النهاية سنجد المسار نفسه في حالة الصين. في عام 2016 كان معدل نموها 6.7%، وارتفع الى 6.8% في العام التالي، ثم أخذ في الهبوط ليصل الى 6.2% عام 2019، ومن المتوقع مواصلته للهبوط ليصل الى 6.1% في 2020.

ماهي العوامل التي صنعت مسيرة انخفاض المعدل العام لنمو الاقتصاد العالمي؟

من السهل أن نرصد تأثير الحرب التجارية التي اطلقها الرئيس الأمريكي. جاءت الحرب لتخلق سياقا اقتصاديا جديدا، في مواجهة واقع اقتصادي عالمي لم يتعاف بالكامل من آثار أزمة 2008 الاقتصادية العالمية. وهناك عدة عناصر شكلت هذا السياق، أهمها تراجع معدلات التجارة العالمية، وتأثيرها الطبيعي على حركة الإنتاج والاستثمار. تذكر كريستين جيوجيفا احد كبار مسؤولي صندوق النقد الدولي، انه بحلول عام 2020 ستكون الحرب التجارية ألحقت بالعالم خسائر تبلغ قيمتها 700 بليون دولار. ولقد أثرت تلك الحرب على معدل التبادلات التجارية العالمي،عبر تداعيات وزن الاقتصادين الصيني والأمريكي في النظام الاقتصادي، ودفعها للنزعة الحمائية في العالم، وإلحاقها الأضرار بسلاسل القيمة العالمية المرتبطة بالاقتصاد الصيني في شرق آسيا، وخفضها من قيمة الاستثمارات الصناعية والخدمية. ويلي ما سبق في الأهمية حالة الشك وعدم الثقة التي تغلغلت داخل مناخ الأعمال الاقتصادية، والناتجة عن التوقعات بقرارات تمس الرسوم الجمركية، والخشية من تقلبات أسعار العملة، والخوف من تطور النزاع التجاري الى أشكال أخرى.

وهنا سيظهر سؤال طبيعي: على أي أساس، ورغم عدم وجود بوادر تهدئة حقيقية للحرب التجارية وتداعياتها، جرى بناء توقعات عودة النمو في العام القادم والذي يليه؟

لم يقدم احد من الهيئات الدولية التي منحتنا هذه الأرقام ما يمكن اعتباره إجابة متماسكة، ولكن من الممكن ان نفترض وجود افتراض ضمني لتأثير عاملين؛ البوادر الواضحة لتهدئة الحرب التجارية، والرهان على السياسات التكيفية للدول من اجل تخطي آثارها.

وماذا بشأن المسار الخاص والمحدد للحرب التجارية؟

أطلق ترامب حربه في مارس 2018، وعلى امتداد 21 شهرا فرضت واشنطن رسوما على ثلثي وارداتها من الصين بقيمة 370 بليون دولار. وردت بكين برفع الرسوم على سلع أمريكية بنسبة 25% بقيمة 60 بليون دولار، وأنها في جولة أخرى ستوسع نطاقها لتشمل 3.300 منتج أمريكي. وفي مسار هذا التصعيد المتبادل انخفضت نسبة نسبة الصادرات الأمريكية للصين بنسبة15.5% ، والواردات الأمريكية من الصين بنسبة13.4%. وعلى مدار تلك الفترة جرت عدة جولات للمفاوضات، أسفرت عن عدة اتفاقيات بعضها انهار قبل الشروع في تنفيذه والبعض الآخر كان أقصى ما توصل إليه الطرفان، هو اتفاق هدنة وعدم تصعيد مع تعهدات صينية بزيادة وارداتها من السلع الأمريكية، دون نجاح حقيقي في الاقتراب من أصل المشكلة.

وفي الثاني عشر من ديسمبر الجاري أعلن الجانبان في توقيت متزامن، عن توصلهما لاتفاقية جديدة اطلق عليها «اتفاقية المرحلة الأولى»، كمؤشر على انه اتفاقية جزئية ستتلوها اتفاقيات أخرى، وفقا لما أعلن عن الاتفاق التزمت الصين بعدة أمور.

من جهة أولى زيادة وارداتها من المنتجات الأمريكي ،ولكن لم يعلن رسميا عن حجم الزيادة، وان ذكرت مصادر أمريكية أنها ستبلغ 200 بليون دولار على مدى العامين القادمين. وفي المقابل تعهدت الولايات المتحدة بتأجيل عقوبات كان مقررا ان تبدأ خلال أيام، وتخفيض الرسوم من 15% الى 7.5% علي منتجات صينية بقيمة 120 بليون دولار، ولكن واشنطن أبقت على عقوبة الرسوم بقيمة 25%. ومن جهة ثانية تعهدت بكين بعدة أمور تمثل درجة كبيرة من الاقتراب من الفهم الأمريكي لجوهر النزاع التجاري. وابرز ما قيل في هذا الصدد تعهد الصين بفتح أسواقها أمام الشركات المالية الأمريكية، واحترام شروط وحقوق الملكية الفكرية للتكنولوجيا، وإنهاء التلاعب بالعملة، وتأسيس آلية لحل المنازعات تضمن تطبيقا فوريا وفعالا لحل المنازعات وإعادة فرض العقوبات في حالة عدم الاتفاق. وكل ما أعلن في هذا الصدد هو عناوين عامة، وكل مصادرة أمريكية ودونما أي تنويه صيني بشأنها، ولا أي إعلان رسمي مشترك لها. ومن الواضح أننا أمام عناوين عامة، والأدق أمام عناصر لجدول مفاوضات قادمة، والأرجح وفقا لتجارب سابقة ثمة مبالغة أمريكية قوية بشأنها.

ما الذي يعنيه هذا الاتفاق عمليا؟ ثمة جانبان واضحان للاتفاق. أول حقيقي وسيدخل مجال التنفيذ ويتعلق بتهدئة العقوبات وزيادة الواردات الصينية، وثان افتراضي ومجرد عناوين لجولات تفاوض قادمة ويتعلق بجملة من الممارسات الاقتصادية الصينية، التي تعتبرها واشنطن جوهر خلافاتها مع الصين بينما تراها بكين تدخلا في نظامها الاقتصادي وبالتالي شؤونها الداخلية.

ومن الصعب تصور أن تسفر المفاوضات القادمة عن أي اتفاق جوهري بشان الجانب الثاني، لأن الأمر ودون أن نأخذ بالمنطق الأمريكي كشيء مسلم بصحته يتعلق بنمط النظام الاقتصادي الصيني نفسه وآليات النمو المنبثقة منه.

وبالتالي يصعب تصور وجود استعداد صيني للموافقة على كل هذه المطالب الأمريكية، بل يصعب تصور وجود توقع أمريكي لموافقة الصين عليها.

والواقع أننا أمام مجرد هدنة مؤقتة لحرب تجارية ضارية، وافقت عليها الصين لالتقاط الأنفاس وكسب الوقت وانتظارا لنتائج الانتخابات الأمريكية. ووافقت عليها واشنطن لأنها أيضا تعاني سلبا من تأثير العقوبات، ولأنها في تصعيدها للعقوبات تواجه معارضة عالمية قوية، ولأن ترامب وهو يدخل عامه الانتخابي في حاجة لورقة زيادة الصادرات الزراعية للصين لإرضاء قاعدته الانتخابية وسط مزارعي فول الصويا.

وماذا يعني ذلك؟

يعني أن عام 2020 قد يشهد تهدئة في المواجهة التجارية، لكنه لن يشهد حلا للصراع الأمريكي مع الصين وفقا لرؤية الجمهوريين الحاكمين لأصله وجوهره. وفقا لهذه الرؤية لا تكمن المشكلة مع الصين في عجز الميزان التجاري، بل في النمو الصيني المطرد الذي قد يؤهلها خلال عقود لمناطحة الهيمنة الأمريكية العالمية، عبر مواصلة التطور الاقتصادي والتكنولوجي الداخلي، والتوسع في وجودها الاقتصادي العالمي، وبناء قوة عسكرية حديثة التسليح، وعبر بناء مواقع قوة استراتيجية عالمية في شرق آسيا، وبناء تحالفات استراتيجية عالمية جديدة، وبالتالي يصبح الهدف وفقا لهذه الرؤية محاصرة النمو الصيني نفسه، وتلك بمنطق الأمور مسألة صراعية ممتدة ولا يمكن تحويلها لموضوع مفاوضات.