amna
amna
أعمدة

أسئلة الكتابة وتجـــدُّدها

22 ديسمبر 2019
22 ديسمبر 2019

د. آمنة الربيع -

سيظل التناص- رغم اعتباره إبداعا متأخرًا من صنع جوليا كرستيفا بتعبير الموسوعة- أحد مكتسبات الكتابة الإبداعية في جميع أنواعها السردية والحوارية والفنية. ويصعب في الواقع الحديث عن التناص بمعزل تام عن الشكلانية الروسية وحوارية باختين.

ولم يبلغ مصطلح من المصطلحات النقدية شأوًا كبيرا وجدلا ونزاعا على غرار ما بلغه التناص! فهو من جهة ظنه البعض مطيّة سهلة يركبها الأدباء حين يزّجون في أعمالهم بالأساطير والمزامير، وأحيانا أُخرى يكون عنوانًا لدراسات نقدية تزَّين الأغلفة؛ كالتناص في مؤلفات المبدع الفلاني!! ويدل هذا الجدل على إشكالات هذا المصطلح العميقة، كما يُشير إلى أنه فخٌ من فخاخ الفلسفة والوجود الثقافي للغة والنقد.

ويمكن في هذه العُجالة تسجيل بعض النقاط المهمة حول التناص، التي تسنى لي الوقوف عليها وتتبعها في كتب الموسوعات والمعاجم والكتابات النقدية. ومنطلقي هنا، تتصدره بضع أسئلة هي: هل التناص موضوع أم وظيفة؟ ظاهرة أو تقنية؟ نتاج جمالي أم تلقي جمالي؟ من أين يستمد النص الأدبي تماسكه؟ ما النص الذي يمكن أن نطلق عليه نصا تناصيا كليّ الوجود؟

ثمة شك يتعزز عندي يتجسّد في تصوريّ أن هذا المفهوم ما بعد البنيوي لم يستقر تثبيته بعد، وأن استعمالاته الكثيرة في كتاباتنا الإبداعية لا تعني ذلك المفهوم الذي قعدّت له كرستيفا في معرض تعريفها بأن «كل نص هو عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وكل نص هو تشرّب وتحويل لنصوص أخرى»، لتعرّف التناص متطلّعة في مغامرتها الجسورة على أن يكون «صياغة كليَّة للنصّ تكون نسقية ومتحررة، بنيوية ووظيفية، علمية وتحليلية، نظرية وإجرائية، محايثة وخارجية في الآن نفسه»!

ولعل القارئ يُدرك هنا، أن تعبير الصياغة الكلية للنص يُعد بمثابة رؤية فلسفية كلية للوجود وللفكر ومحاولة لدحض تطبيقات البنيوية. وإذا عدنا إلى منطلقات البنيوية وما بعد البنيوية وإلى مكتشفاتها الخاصة باللغة والتفكير النقدي والرؤية التي تنظر من خلالها للعالم سندرك مغبة التعامل البسيط مع هذا المفهوم، وهو تعامل درجنا عليه لأسباب كثيرة أهمها غياب التفكير الناقد والبحث الفلسفي الرصين.

تجمع أغلب الموسوعات النظرية استناد التناص إلى مقولات النقد الجديد كالبنيوية وما بعد البنيوية، وإذا قلنا بذلك فإن قراءة النص أي نص (قصيدة، رواية، قصة، مسرحية، لوحة فنية، فيلم) هي قراءة غير منجزة ولا نهائية، لأن النص يكون في مرحلة القراءة المتواصلة والمتجددة وأنه في دلالته إنما يتضاعف كالمتوالية الرياضية تبعا لتعدد القراءات واختلافات منطلقاتها.

وبالعودة إلى تعريف ج. كرستيفا للتناص، إذ تراه «تعالق»، أي أن النص الواحد يدخل أكثر من مرة في علاقة مع النصوص الأخرى، وقد شبهت التعالق بقشور البصلة المتعالقة بعضها فوق بعض، عندئذ يصعب معه تنسيب مجرد ظهور لفظة في قصيدة أو قطعة أدبية في رواية أو حتى عدة قطع بأنها تعني تناصًّا كليّ الوجود. والآلية التي تدلنا على التناص في رواية البحث عن الزمن المفقود، أو قصيدة الأرض اليباب للشاعر إليوت مثلا، قادنا إليها الناقد ليتش لوضع هذه الحسبة الرياضية: «إن تاريخ كل كلمة في النص مضروبة في عدد كلمات ذلك النص تساوي مجموع النصوص المتداخلة مع النص الآخر قيد القراءة». والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف لنا أن نحدد بالضبط تاريخ كل كلمة في تلك النصوص السابقة؟ ومن ناحية أخرى، فإن النصوص المتداخلة لا حصر لها، ومن ثم فإنّ دلالتها لا يمكن الوقوف عليها لسعتها وتعدادها ... إلخ.

إن النصوص المتداخلة وفقا لمفهوم التناص تشير جدلا إلى وجود أكثر من قراءة، وبالتالي تتعدد المعاني بحسب تعدد التأويلات المتناقضة. وسرّ تناقضها يتمثل في أن المنطلق الأساسي للتناص هو قبول النص تأويلات متناقضة يلغي بعضها بعضا. لقد هدمت ما بعد البنيوية المعنى الثابت والمستقر، فنادت بانزياح الدلالة، كما ألغت اليقين في كل شيء. ومن هنا يمكننا أن نفهم المنطلق الفلسفي لهذا المصطلح. لقد انتشرت فكرة اللايقين واللامعنى كما انتشرت تصورات الحداثة وما بعد الحداثة، أو الدراما وما بعد الدراما، وهذا يُحيلنا في المسرح مباشرة إلى تصنيف المسرح ما قبل بريشت والمسرح ما بعده!

لقد أقرّ الراسخون في النقد أن التناص يعمل من خلال مفهومين أساسيين هما: الاستدعاء، والتحويل. وتشرح زهور لحزام مبينة أنه في الاستدعاء تتم ولادة النص الإبداعي عبر تكونه من خلال نصوص إبداعية أخرى سبقته! وهذا ما يجعل لغة التناص تتشكل من مجموع استدعاءات خارج ـ نصية يتم إدماجها وفق شروط بنيوية خاضعة للنص الجديد. وهذا النص المدمَج يخضع بدوره من جهة ثانية لعملية تحويلية معقدة في صهر وإذابة مختلف النصوص والحقول المدمجة مع النص المتشكل».

لماذا يُعدُّ التناص مكسبا مهما للكتابة وأسئلتها؟

لعلّ أحد أهم عوامل قوة التناص تتمثل في جدّته وإثارته للأسئلة وتقديم تصورات جديدة للكتابة الإبداعية. فهناك من عدّه نظرية جديدة للنقد الأدبي، وآخرون رأوه أداة تأويلية نقدية. وليس التناص كله قوة فمن عوامل ضعفه كما أرى يكمن في فلسفته العلمية لدرجة الغموض.

وفي ظل الاجتهادات النقدية المتأخرة التي ظهرت لنقد التناص، وجدت في محاولة الناقد شكري عزيز ماضي وجاهة مهمة أستند إليها. فقد ذهب إلى أن النص الذي يستحق أن نطلق عليه تسمية التناص هو القرآن الكريم لتمتعه بالتالي: أنه «نص مكتوب (نص/‏‏ كتابة) وأنه نص يطرح إشكالية التصنيف، فليس له شكل محدد، ولا ينتمي لأي نوع من أنواع الكتابة المألوفة. وأنه نص ليس له بؤرة مركزية بل يتضمن بؤرا لا نهاية لها. وأنه نص له فاتحة ولكن ليست له بداية أو نهاية بالمعنى المألوف. كما أنه نص يقبل تأويلات لا حصر لها وسيبقى كذلك. وذو طاقة رمزية مطلقة. وأن الإحالة المرجعية في النص القرآني على النص نفسه. وأن حقوق طبع النص القرآني غير محفوظة لأحد».

لقد تعرض المفهوم لانتقادات كثيرة على الرغم من جدّته وجمالياته. وأشدّ أنواع الانتقادات هي إلغاؤه لذات المبدع والمتلقي والسياق، ويتوقف على هذا الإلغاء التضحية بالطابع الفكري والتاريخي والاجتماعي للمجتمع وللعالم، وبالتالي تغييب الإنسان. ولكن تظل للتناص قدرته على إضفاء العلمية والإبداعية للنصوص، « فالنص ينتج نفسه بنفسه مستندا إلى نصوص أخرى». إن ذات المبدع غير متحققة. فكل كتابة مسكونة به ومحكومة له.