أفكار وآراء

العالم والدولار

21 ديسمبر 2019
21 ديسمبر 2019

نوح سميث - بلومبيرج - ترجمة قاسم مكي -

ربما أن وضع الدولار الأمريكي كعملة احتياط للعالم يضعف. لقد تقلصت نسبة الاحتياطيات العالمية المقومة بالدولار في الأعوام القليلة الماضية. يجيء هذا التراجع في أعقاب انحسار أطول أمدا.

في بداية هذا القرن كان ما يزيد عن 70% من الاحتياطيات الدولية بالدولار. وفي هذه الأثناء تشتري البنوك المركزية المزيد من الذهب الأمر الذي يمكن أن يشير إلى انعدام الثقة في الدولار أو في النظام النقدي العالمي عموما.

وإذا خسر الدولار مكانته كعملة احتياط دولية سيكون ذلك تحول رئيسي في اقتصاد العالم على شاكلة التحولات التي تحدث مرة أو مرتين فقط كل مائة عام. لا يمكن لأحد أن يقطع بشأن ما سيحدث حينها. فالنتيجة يمكن أن تكون فوضى إذا تم التعامل مع مثل هذا التحول بطريقة خاطئة. لكن إذا أدير على نحو جيد من الممكن أن يكون فقدان عملة الاحتياط صحي ومفيد للولايات المتحدة وللعالم. في الواقع وبالنظر إلى اضمحلال الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة قد تكون النتائج التي تترتب على الحفاظ على الدولار بصفته عملة الاحتياط الوحيدة أسوأ.

ولأن الدولار هو عملة الاحتياط تحتفظ البنوك المركزية حول العالم بمقادير كبيرة من الأصول المقومة بالدولار. هذه الأصول في معظمها سندات تصدرها الحكومة الأمريكية (ديون أمريكية). تحتفظ البنوك بهذه الاحتياطيات لعدد من الأسباب من بينها الحفاظ على المعدل الرسمي لسعر شراء العملة الوطنية وكتأمين ضد التدفقات الخارجية لرؤوس الأموال ولتيسير التجارة الدولية. (حسب موسوعة انفيستوبيدييا يتم تسعير نسبة كبيرة من السلع مثل الذهب والنفط بعملة الاحتياط مما يجعل بلدانا أخرى تحتفظ بها لسداد قيمة وارداتها– المترجم).

في القرن التاسع عشر كانت البلدان تحتفظ بالاحتياطيات في شكل ذهب أو جنيهات بريطانية (مسنودة بواسطة الذهب). لكن بعد الحرب العالمية الأولى كدست الولايات المتحدة حصة كبيرة من ذهب العالم وهو ما كان يعني أن الاحتفاظ بالدولار صار ثاني أفضل «اثنين» بعد الاحتفاظ بالمعدن الأصفر نفسه.

اتخذ هذا الترتيب صبغة رسمية في اتفاقية بريتون وودز عام 1944 عندما صار الدولار عملة الاحتياط الرسمية للعالم ووعدت الولايات المتحدة بالاحتفاظ بكميات كبيرة من الذهب. في أوائل أعوام السبعينات من القرن الماضي قُطِعت كل الروابط بين الدولار والذهب لكن ظل دولار الولايات المتحدة عملة الاحتياط المفضلة.

إذن لماذا تتضعضع هيمنة الدولار الآن؟

هنالك سبب «طويل الأجل» وهو صعود اليورو كعملة احتياط بديلة. كما يوجد عامل أحدث من ذلك وهو رغبة الصين المتزايدة في تنويع موجوداتها من العملات الأجنبية للتقليل من تأثرها سلبا بالتحولات التي تشهدها السياسات الأمريكية في أجواء الحرب التجارية. لكن في المدى البعيد يشكل تقلص نصيب الولايات المتحدة من الإنتاج الاقتصادي العالمي تهديدا لمكانة الدولار. ففي عام 1960 كان الاقتصاد الأمريكي يشكل 40% من حجم اقتصاد العالم لكنه انكمش إلى أقل من 25% في الوقت الحاضر.

في هذا الجانب، تواجه البلدان الأكثر فقرا فيما هي تمضي قُدُمَا نحو اللحاق بالبلدان الغنية ضغوطا لتنويع احتياطياتها الأجنبية والاحتفاظ بقدر أقل من احتياطياتها المتزايدة من النقد الأجنبي في عملة بلد تتناقص أهميته. لذلك ليس مصادفة أن أوروبا واليابان الصاعدتان في أعوام الثمانينات كانتا، كما بدا حينها، على وشك التفوق على الولايات المتحدة اقتصاديا عندما انخفضت احتياطيات الدولار إلى أقل من نصف الاحتياطيات العالمية. لم يحدث ذلك. لكنه قد يحدث هذه المرة.

يجد علماء الاقتصاد مشقة شديدة في التنبؤ بآثار التحول بعيدا عن الدولار لأن هذا المجال، إلى حد ما، لم يسبق الخوض فيه من قبل. تقول إحدى النظريات إن المقترضين الأمريكيين سَيُجبَرُون على دفع أسعار فائدة أعلى وأنه بذلك يؤذي اقتصاد الولايات المتحدة.

الآن، لكي يحصل الأجانب على احتياطيات دولارية سيرغمون بالضرورة على إقراض المال إما إلى الحكومة أو الشركات الأمريكية. ومن الممكن أن يؤدي هذا الطلب على الأصول الأمريكية إلى خفض سعر القروض داخل الولايات المتحدة. لكن محافظ بنك الاحتياط الأمريكي السابق بن برنانكه يرى أن الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بهذه الميزة غير المعقولة ويلفت الانتباه إلى أن أسعار الفائدة الحقيقية للبلدان الأخرى منخفضة بالقدر نفسه تقريبا.

قد يكون بن برنانكه مخطئا. فانخفاض أسعار الفائدة في تلك البلدان الأخرى قد يكون سببها بطء تزايد سكانها في حين تستفيد الولايات المتحدة الأسرع نموا من مكانة الدولار كعملة احتياط. لكن في العالم المكتظ برأس المال أساسا، ربما أن الأثر الإضافي لمكانة عملة الاحتياط ليس بذلك القدر.

هنالك نظرية أخرى تقول إن الولايات المتحدة ستستفيد من تدهور المكانة العالمية للدولار. فانخفاض الطلب على الدولار سيؤدي إلى انخفاض قيمته. هذا بدوره سيخفض سعر الصادرات الأمريكية ويجعل الواردات أكثر تكلفة مما سيقلل من العجز التجاري. وذلك قد يقود في نهاية المطاف إلى اقتصاد دولي أكثر توازنا. بل يمكن حتى أن يعين على زيادة تنافسية الولايات المتحدة في التصنيع والقطاعات التصديرية الأخرى المرتفعة القيمة.

لكن وكما أشار بول كروجمان (اقتصادي أمريكي فائز بجائزة نوبل للاقتصاد) قد لا تكون مكانة عملة الاحتياط ذلك العامل الكبير (وراء اختلال الميزان التجاري للولايات المتحدة) لأن بلدانا عديدة أخرى شهدت أيضا عجوزات تجارية كبيرة في العقود الأخيرة.

في النهاية قد يكون التحول إلى سلة (تشكيلة) من عملات العالم هو المحصلة الأكثر نجاعة. فإذا انضم اليورو الأوروبي والين الياباني واليوان (الرينمينبي) الصيني إلى الدولار كعملات احتياط دولية سيعني ذلك اقتصادا عالميا أكثر أمانا واستقرارا وسيمكن الاقتصادات الكبرى في العالم من المنافسة في وضع متكافئ تقريبا.

المشكلة هي أن الاقتصادات الكبرى الأخرى قد لا تكون راغبة أو قادرة على المساعدة للوصول إلى هذه النتيجة. فأزمة منطقة اليورو تثير الشكوك حول هيمنة هذه العملة في الأجل الطويل. هذا في حين لا يبدو أي ميل من جانب للتخلي عن ضوابط رأس المال وجعل اليوان قابل تماما للتحويل إلى عملة أجنبية.

وبذلك قد لا تجد البلدان التي تحتفظ باحتياطي أجنبي محيصا من التمسك بالدولار. وقد تركن الولايات المتحدة وبنكها المركزي إلى أداء المهمة غير المحسودة والمتمثلة في تثبيت اقتصاد عالمي «يُقَزِّم» باطّراد حجمَ اقتصادِها.

  • الكاتب أستاذ مساعد لعلم المالية بجامعة ستوني بروك الأمريكية